كربلاء مدرسة الأجيال تفيض بالعطاء وتزخر بالدروس والعبر وتتجلى فيها أروع المواقف الإنسانية على مدى التاريخ إذ تجسدت على أرضها ملحمة الحق وانتصار إرادة الخير على إرادة الشر ملحمة عاشوراء الخالدة.
لم تكن واقعة عاشوراء مجرد معركة بين فئتين محددة بزمان ومكان معينين بل هي مدرسة متجددة في كل زمان ومكان بما قدمته من نماذج إنسانية وفكرية وفلسفية.
من هذه النماذج الرائعة الحر بن يزيد الرياحي الذي جسد أروع نموذج للضمير الإنساني الحي والإرادة الحرة الواعية بانتقاله من خندق الظلام إلى ساحة النور وخروجه من حياة العبودية إلى طريق الأحرار، فاصبح رمزاً من الرموز الإنسانية الخالدة ومثالاً يحتذى به في سلوك الإنسان وتمسكه بالقيم العليا والمبادئ المثلى.
(البيئة والنشأة)
من الطبيعي أن تكون للبيئة والوراثة أثراً كبيراً على سلوك الإنسان وإذا أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ البيت الذي ولد فيه الحر نجد أنه ليس غريباً أن يتخذ الحر ذلك القرار الخالد الذي وضعه في مصاف العظماء وحاز على شرف الدنيا ونعيم الآخرة واصبح مثالاً حياً للمروءة والنبل حينما آثر أن يقف مع الحق وأن يضحي بنفسه في سبيل ذلك على مؤازرة الباطل والركون إليه في حياة قصيرة مصيرها إلى الزوال فاشترى بنفسه الحرية في الدنيا والسعادة في الآخرة.
ولد الحر في بيت تشرق في سمائه شموس العز والشرف والبطولة ولهذا البيت سجل حافل بالمآثر والمناقب التي توارثها الأبناء عن آبائهم وفي تلك الأجواء التي تزخر بالنجوم شع إلى الوجود نجم الحر بن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم، فورث من هذه الاسماء اللامعة الصفات التي أهلته لأن يتزعم قبيلته ويصبح من أشراف الكوفة وساداتها وابطالها المعدودين.
وقد أشار الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى فضائل هذه القبيلة في كتابه لابن عباس عامله على البصرة حيث يقول فيه (وقد بلغني تنمرك لبني تميم وغلظتك عليهم وأن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر وإنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا إسلام)، ومن إعلام هذه القبيلة الذين عرفوا بالخصال الفريدة والمآثر الجليلة عتاب بن هرمي الذي كانت له ردافة ملوك الحيرة في عهد المنذر بن ماء السماء ومنهم عتيبة بن الحارث اليربوعي الذي يعد من أشجع العرب حتى قيل عنه أنه لو وقع القمر على الأرض لما التقفه إلا عتيبة، لثقافته في الرمح.
ومنهم البطل معقل بن قيس الرياحي أحد قادة جيش أمير المؤمنين (ع) وأعمدة حربه ومنهم الأحنف بن قيس الذي يضرب به المثل في حلمه وكثير غيرهم ممن لمعوا في سماء المجد من هذه القبيلة وقد أفرد ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 3 ص 435 فصلاً خاصاً عن مآثر بني تميم ثم لبني يربوع ثم لبني رياح بن يربوع.
في هذا الجو المفعم بالفخر والشجاعة والمجد المتوهج بالفروسية لمع نجم الحر فاقتبس من هذه الصفات ماجعله سيداً من سادات الكوفة وعلماً من أعلامها.
( اللقاء بالحسين(ع) )
كان من الطبيعي أن تكون شخصية الحر الفذة محط أنظار السلطة لما تمتع به من بطولة نادرة ويدلنا قول المهاجر بن أوس على ذلك بقوله للحر يوم الطف (لو قيل لي من اشجع اهل الكوفة لما عدوتك).
وحينما سيطر عبيد الله ابن زياد على زمام الأمور في الكوفة بعد أن قتل مسلم بن عقيل سفير الحسين (ع) وهاني بن عروة واعتقاله لعدد من رموز الشيعة في الكوفة عمد إلى إجراءات احترازية أمنية وذلك بإرساله الجنود على حدود الكوفة لقمع أي انتفاضة محتملة تحاول اختراق الكوفة كما أصدر أوامره لصد ومحاصرة الإمام الحسين”(ع) وأصحابه والحيلولة دون وصولهم إلى الكوفة خاصة عندما سمع أنه (ع) دخل العراق فأرسل رجاله لهذا الغرض.
وكان ممن إرسلهم، الحر بن يزيد الرياحي على رأس ألف فارس فالتقى الحر بالحسين(ع) في ذات حسم وقد اضر به وبأصحابه العطش فامر سيد الشهداء (ع) أصحابه أن يسقوهم ويرشفوا خيولهم فسقوهم عن آخرهم في تلك الصحراء التي تعز فيها قطرة الماء ولما حان وقت الصلاة قال الحسين(ع) للحر اتصلي بأصحابك ؟ فقال الحر لا بل نصلي بصلاتك فصلى بهم الحسين(“ع) وبعد أن فرغ (ع) من صلاته قال أيها الناس أنكم أن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله ونحن أهل بيت محمد (ص) أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين بالجور والعدوان، وأن أبيتم الا الكراهية لنا والجهل بحقنا وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم انصرف عنكم.
فقال الحر ما أدري ماهذه الكتب التي ذكرتها، فأمر الحسين عقبة بن سمعان فاخرج خرجين مملوءين كتبا، فقال الحر إني لست من هؤلاء وإني أمرت أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد، فقال الحسين الموت أدنى إليك من ذلك وأمر(ع) أصحابه بالركوب وركبت النساء فحال بينهم الحر وبين الانصراف فقال الحسين ثكلتك أمك ماتريد منا؟ فقال الحر أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل هذه الحال ما تركت ذكر أمه بالثكل كائنا من كان، والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن مانقدر عليه ولكن خذ طريقا نصفا بيننا لايدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد فلعل الله يرزقني العافية ولا يبتليني بشئ من أمرك، ثم قال للحسين(ع) إني أذكرك الله في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، فقال الحسين(ع) أفي الموت تخوفني وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني وساقول ماقال اخو الأوس لإبن عمه وهو يريد نصرة رسول الله (ص):
سامضي وما بالموت عار على الفتى إذا مانوى حقا وجاهد مسلماً
وواسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً وخالف مجرما
فان عشت لم اندم وأن مت لم ألم كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما
فلما سمع الحر هذا منه تنخى عنه فكان الحسين(ع) يسير بأصحابه في ناحية والحر ومن معه في ناحية اخرى وعندما وصلوا الى نينوى وهي قرية صغيرة من قرى الطف قدم عليهما رسول ابن زياد ومعه كتاب إلى الحر يقول فيه جعجع بالحسين حين تقرأ كتابي ولا تنزله إلا بالعراء على غير ماء وغير حصن فقرأ الحر الكتاب على الحسين فقال (ع) له دعنا ننزل نينوى أو الغاضريات أو شفيه فقال الحر لاأستطيع فإن الرجل عين علي وبينا هم يسيرون إذ وقف جواد الحسين فسأل (ع) مااسم هذه الأرض؟
فقيل له… كربلاء
( نفسية الحر)
يتضح من خلال هذه المقابلة عدة أمور منها أن الحر كان مكرها في خروجه للتصدي للحسين ويدل على ذلك قوله فلعل الله يرزقني العافية ولايبتليني بشئ من أمرك ومنها أنه لم يكن يعلم بامر الكتب التي كان يرسلها أهل الكوفة إلى الحسين(ع) ومنها أنه كان يقدر منزلة الحسين”(ع) ويعرف حقه عندما صلى خلفه ومنها أنه كان يميل في داخله إلى الحسين وذلك عندما اطلع الحسين على كتاب ابن زياد وأخبره أن حامل الكتاب هو عين عليه وهذا يدل على أن الحر كان يكتم في نفسه شيئاً من الولاء للحسين.
( في كربلاء)
لما وصل جيش عبيد الله بن زياد إلى كربلاء بقيادة عمر بن سعد لم يكن الحر يتوقع ان الامور ستؤدي إلى القتال لذلك راح يسأل عمر قائد الجيش ام قاتل انت هذا الرجل؟ فأجابه عمر أي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.
.فسأله ثانية فما رأيك فيما عرضه عليك من الخصال؟ – في اشارة منه الى ما بينه الإمام الحسين(ع) من قرابته من رسول الله ومكانته ومنزلته فأتى الجواب لو كان الأمر بيدي لقبلت ولكن أميرك ابن زياد أبى ذلك..
رجع الحر وهو يرتعد لم يصدق أذنيه هل وصلت بهم الوقاحة والجرأة لقتال ابن بنت رسول الله وسيد شباب أهل الجنة فسار نحو المشرعة وهو مطرق فسأله المهاجر بن اوس عندما رآه مطرقا مفكراً أن أمرك لمريب، والله لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك فما هذا الذي أراه منك ؟ فقال له الحر إني أخير نفسي بين الجنة والنار والله لا اختار على الجنة شيئاً ولو اُحرقت ثم توجه نحو الحسين(ع) منكساً رأسه حياءاً منه… إني تائب فهل ترى لي من توبة، فكان الجواب، نعم يتوب الله عليك صدقت، وأصابت أمه حين سمته حراً ولعلها كانت تتوسم في ابنها هذه الروح الحرة فكان كما قال الحسين (ع): (انت حر في الدنيا وسعيد في الآخرة).