كتب الدكتور إياد البنداوي / باحث في مجال تحليل الخطاب
ينتمي مفهوم “الخطاب” إلى علوم عدة ، فهو وان انطلق من رحم الفلسفة والمنطق الا أنه نشأ واكتمل في احضان اللغة قبل أن يزدهر في مجال العلوم الاجتماعية والانسانية ، فبينما عرفه “دي سوسير” بأنه { رسالة لغوية يبثها المتكلم إلى المتلقي، فيستقبلها ويفك رموزها} ، راه “فوكو” السلطة والتأثير والتحكم فـ { الخطاب – كما يعلمنا التأريخ – ليس هو الذي يفصح عن معارك أو أنظمة من السيطرة بل هو الأداة التي بها ومن أجلها يقع الصراع ، انه السلطة التي نسعى إلى الاستحواذ عليها} ، وقد تميز تحليل الخطاب بسعيه الى استخراج المعاني والدلالات الكامنة في الرسالة ، والنفاذ الى ما وراء المحتوى الظاهر ، وتفرد بنظرة تفسيرية اجتماعية عبر محاولة استكشاف العلاقة بين النص والخطاب والسياق، اذ تفترض نظرية الخطاب استحالة فصل الخطاب عن سياقه الأوسع السياسي أو الاجتماعي ، الثقافي أو التأريخي.
هذه المقدمة تفتح لنا الباب على مصراعيه لتأويل الرسائل الخفية التي تضمنها الخطاب الاخير {السيدة الزهراء (عليها السلام) تدعو إلى الرجوع إلى الله تعالى والانقياد له} للشيخ محمد اليعقوبي المفكر والفقيه العراقي المتمرد على السياقات التقليدية التي تتبناها المؤسسة الدينية ازاء الاحداث والقضايا السياسية والمجتمعية ، وقبل أن نقرأ تلك الرسائل المضمرة في خلجات اليعقوبي وكلماته علينا أن نحيط بالظروف والسياقات التي رافقت الخطاب ، فبعد أكثر من 15 عاما من تغيير نظام الحكم في العراق ومع تعاقب الحكومات التي تسيدها الاسلاميون بانت ملامح الفشل والنكوص في التجربة السياسية الجديدة التي كان الشعب يعول عليها في انتشاله من تبعات الحقبة الدكتاتورية البغيضة وآثارها التي أحرقت الأخضر واليابس، أحزاب وحكومات تترنح شرقا وغربا ولم تستطع ضبط بوصلتها لغاية اليوم باتجاه القبلة العراقية ،والاقتصاد العراقي هجين ومرهون بيد الإرادة الخارجية وصندوق النقد الدولي ، والبطالة والفقر في مستويات غير مقبولة في بلد يزخر بالثروات والخيرات والموارد البشرية، والواقع الاجتماعي ينذر بخطر اكبر بعد انتشار الجريمة والمخدرات والتفكك الأسري وارتفاع معدلات الطلاق ، إلى جانب نكبات الإرهاب والحروب والصراعات التي كان الفقراء حطبها المستعر ، تحرقهم نارها ونار الفساد الإداري والمالي والفشل في مجال الاعمار والخدمات ، ما ولّد نقمة شعبية وردود فعل لم تقتصر على رفض الأحزاب السياسية بل طالت حتى الرموز الدينية واتسعت لتدفع بشريحة واسعة نحو الإلحاد وتبني الأفكار السلبية ضد الدين.
#الرسالة_الأولى
من هنا انطلق اليعقوبي في خطابه ليبعث رسالته المشفرة الاولى الى بعض رموز المؤسسة الدينية الذين وان لم يسمهم لا يصعب التعرف عليهم من سطور خطاباته السابقة فهم بمنهجهم ورؤيتهم وسلوكهم كانوا أحد الاسباب الرئيسة فيما وصل اليه المجتمع ، مرة بتعاطيهم مع الشأن السياسي من زاوية خفية وغير شفافة تتحرى مصالح الحواشي وبسط نفوذها وتحصيل امتيازاتها بعيدا عن الشعب وهمومه ، ومرة بوقوفهم ضد أحكام الدين ورفضهم القانون الجعفري في موقف غريب وغير مبرر، ومرة ثالثة بتسطيحهم لوعي المجتمع وتجهيلهم لأفراده وتقمصهم لثوب القيادة الفضفاض عليهم جدا ، فقد دعاهم لمراجعة مواقفهم وتصحيح مسارهم والعودة الى الله والتوبة والإنابة إليه قبل أن يدركهم الموت بغتة.
#الرسالة_الثانية
بينما كانت الرسالة المشفرة الثانية للمتأسلمين من بعض قيادات الأحزاب الإسلامية الذين جسدوا الفشل نفسه عبر مسيرتهم التي تسيدوا فيها سدة الحكم والسلطة بعد سقوط صنم الطاغية فكانوا أعمدة الفساد وأركان المحاصصة ورموز الظلم ، وان كانت رسائل الوعظ والتقريع لا تصل قلوبهم التي غلفها الباطل ووسمها المال الحرام بوسم العار والخزي في الدنيا والاخرة لكنها تذكرة عسى ان تغير من واقعهم وتحفزهم للمراجعة والتصحيح.
#الرسالة_الثالثة
ولعل رسالة اليعقوبي المشفرة الثالثة كانت لبعض المحسوبين عليه ممن غرته الدنيا ومال الى جانبها وكان عبئا على مرجعيته وشينا لا زينا لها ، لكن ما زال في نفسه بقية من خير وهدى ويؤمل منه أن يثوب الى رشده ويصحح مساره ويعود الى أحضان النقاء والعفاف قبل أن يستولي حب الدنيا على قلبه فيحيله الى رماد تذروه الرياح { وهيهات أن يجتمع حب الزهراء وموالاتها مع الفساد} ، فكأنه أشهر بوجههم كارتا اصفرا محذرا إياهم من كارت احمر يلوح في الأفق.
ولهذا جاء تقريع اليعقوبي للعموم والخصوص حين قال {لا يمكن ان يجتمع حب فاطمة وموالاتها وطلب شفاعتها مع ما انحدر اليه المجتمع من مفاسد وانحراف وانحلال بلغ مديات غير معقولة من فساد مالي تحَّول إلى ثقافة عامة فأدى إلى تخريب مؤسسات الدولة وشمل حتى الخدمات الحيوية كالصحة