بسم الله الرحمن الرحيم
افتتح سماحة المرجع خطابه الفاطمي السنوي بالآية المباركة من سورة الأنفال (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) الآية 96.
▪️تناول الخطاب المبارك محطات مهمة لها الأثر البالغ في حياة الأمة تستحق كل محطة منها الوقف عندها والتزود منها لديمومة الحياة بالشكل الصحيح، إلا أننا سنؤجل الحديث عنها إلى وقت لاحق بإذنه تعالى وسنحاول في هذه العجالة التركيز على مستوى آخر من الخطاب قد يغيب عن الأذهان وهو من المقصود بأهل القرى؟ ولعل الإجابة عن هذا التساؤل تسهم في فهم مستوى معتد به من الخطاب.
▪️لعل الجواب الذي يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى هو أن القرى هم أقوام الأنبياء والرسل الذين لم يؤمنوا بما جاءهم به أنبياؤهم ورسلهم من دلائل وبينات، وسياق السورة دال على ذلك وهو فهم صحيح وعليه يكون معنى الآية هو أخذ العبرة من تلك الأقوام والاستجابة لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
▪️وقد تكون الإجابة عن السؤال أن أهل القرى هم أهل القرى المحيطة بمكة والمدينة وهو جواب ممكن إثبات صحته، إلا أن هاتين الإجابتين على الرغم من صحتهما إلا أن تفاعل المؤمنون مع هذين الفهمين ليس تفاعلاً معتد به فعادة الإنسان يتفاعل مع ما يلمسه أكثر من غيره فلو أن فهم هذه الآية يمسه بالمباشر لكان التأثير أقوى بكثير. وعلى هذا التأسيس فيمكن أن يكون بمستوى من المستويات فهم هذه الآية أنها تعني المسلمين أنفسهم وسيكون الحديث على مستويين:
المستوى الأول: أن المعني بأهل القرى هي كل بلاد المسلمين في كل زمان بما فيه زماننا الحالي ومعنى امنوا هو اطلاق الايمان سواء كان الايمان بالله تعالى او الايمان بما جاء به رسول الله (صلى الله عليه واله) وعلى راس الرسالة الاسلامية هو الايمان بإمامة الائمة الاثني عشر (عليهم السلام) وان يتقوا الله تعالى فيهم. فلو امنوا بوصية الرسول الخاتم بالالتزام بمنهج اهل البيت (عليهم السلام) وساروا عليه بصدق واتقوا الله تعالى في عدم التخلي عن هذه المنهجية ولم يقفوا ضدهم حتى وصلت بهم الحال الى قتلهم وتشريدهم وكل اتباعهم ومريديهم لفتحت عليهم بركات السماء والارض.
المستوى الثاني: ان المعني باهل القرى هم الشيعة الامامية بناء على معنى القرى الوارد عن اهل البيت (عليهم السلام) في تفسير الآية المباركة ((وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) سورة سبأ
عن الهيثم بن عبد الله الرماني عن الرضا عن أبيه عن جده جعفر عليهم السلام قال: دخل على أبي بعض من يفسر القرآن فقال له: أنت فلان؟ وسماه باسمه، قال: نعم. قال: أنت الذي تفسر القرآن؟ قال: نعم، قال: فكيف تفسر هذه الآية: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) قال: هذه بين مكة ومنى، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: أيكون في هذا الموضع خوف وقطيع؟ قال: نعم، قال: فموضع يقول الله: أمن، يكون فيه خوف وقطع؟
قال: فما هو؟ قال: ذاك نحن أهل البيت، قد سماكم الله ناسا، وسمانا قرى قال: جعلت فداك أوجدني هذا في كتاب الله أن القرى رجال، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أليس الله تعالى يقول: (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها فللجدران والحيطان السؤال أم للناس؟) بحار الانوار ج 24 ص 234
وفي رواية اخرى طويلة في جواب الامام الباقر (عليه السلام) للحسن البصري جاء فيها: (فنحن القرى التي بارك الله فيها، وذلك قول الله عز وجل، فمن أقر بفضلنا حيث أمرهم الله أن يأتونا فقال: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها) أي جعلنا بينهم وبين شيعتهم القرى التي باركنا فيها (قرى ظاهرة) والقرى الظاهرة الرسل والنقلة عنا إلى شيعتنا، وفقهاء شيعتنا إلى شيعتنا، وقوله: (وقدرنا فيها السير) فالسير مثل للعلم سيروا به (ليالي و أياما) مثل لما يسير من العلم في الليالي والأيام عنا إليهم في الحلال والحرام والفرائض والاحكام (آمنين) فيها إذا أخذوا من معدنها الذي أمروا أن يأخذوا منه (آمنين) من الشك والضلال، والنقلة من الحرام إلى الحلال، لأنهم أخذوا العلم ممن وجب لهم بأخذهم إياه عنهم..). بحار الانوار ج 24 ص 233
كما روي عن الامام المهدي (عليه السلام) فقد ورد في كتاب بحار الانوار: [عن مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْغَيْبَةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى صَاحِبِ الزَّمَانِ (عليه السلام) إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي يُقَرِّعُونِي بِالْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ آبَائِكَ (عليهم السلام) أَنَّهُمْ قَالُوا : خُدَّامُنَا وَقُوَّامُنَا شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ .
فَكَتَبَ (عليه السلام): وَيْحَكُمْ مَا تقرؤون ! مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً } فَنَحْنُ وَاللَّهِ الْقُرَى الَّتِي بَارَكَ فِيهَا، وَأَنْتُمُ الْقُرَى الظَّاهِرَةُ}. بحار الانوار ج 51 ص 343، وعلى هذا التأسيس فان اهل القرى هم كل من ينتمي لأهل البيت (عليهم السلام) فالخطاب موجه لكل الشيعة وعليهم الايمان بما جاء به ائمة اهل البيت (عليهم السلام) وعلى راس ما جاء به هو اتباع العلماء العاملون في زمن غيبتهم، لذا فان عنوان الخطاب الفاطمي هو الزهراء (عليها السلام) تدعو الى اقامة دين الله تعالى واتباع الامناء عليه.
ويمكننا التقدم خطوة إلى الأمام لفهم مستوى آخر أعمق من السابق.
هو أن هذا الخطاب أكثر خصوصية بناء على قاعدة الجري في القرآن الكريم فيمكن أن نفهم الخطاب إلى اتباع جهة الحق اي اتباع نائب الامام بالحق وأن على اتباعه الإيمان به وبكل مواقفه ومتبنياته وتطبيقها بدقة وإقناع الاخرين بها لتكون النتيجة فتح السماء والارض ابوابها بالخيرات والبركة، كما انه اشارة الى وجود خلل في الايمان الحقيقي في هذه القيادة ونضرب لذلك مثلا اصحاب امير المؤمنين (عليه السلام) فان كثير من الناس قاتل معه الا انهم لم يؤمنوا به بشكل يتلائم مع واقعه كونه حجة الله تعالى على الناس، وعليه فكثير منهم تخاذل عن نصرته لأي سبب كان الا ان اصحابه الخلص لم يخذلوه طرفة عين كعمار وسلمان ومالك الاشتر واقرانهم. فلا يمكن للقائد ان يصول وان يطبق الشريعة والدين ما لم يكن له اعوان مؤمنين به بشكل مطبق ولا مجال لوجود الشك ولو جزء بالألف بأحقية قيادته وانه سيقودهم الى ما لا يحمد عقباه، وخير مثال اصحاب الامام الحسين (عليه السلام) فانه جربهم وخبرهم ولم يجسد بينهم الا الاشوس الاقعس على تعبير الروايات. ولعل هذا المستوى من الايمان بالقيادة لا يتحقق الا مع الامام المهدي (عليه السلام) ويمكننا القول
إن هذا المستوى هو العلة في ظهور الامام (عليه السلام)، وهو يرادف مفهوم الوعي الذي هو اعلى مستوى في شرائط ظهور الامام ودولة العدل، وهذا الخطاب يكون من اوضح مصاديق التوطئة لدولة العدل.
الشيخ /عبدالهادي الزيدي (دامت توفيقاته)
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية