رجل قرب الجواد …
(علي العُريضي
علم وتواضع وإنصاف)
قرابته بالمعصوم (١)
علي العريضي أبو الحسن علي بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر (ع) المعروف بالعُريضي، لأنّه سكن العُريض من نواحي المدينة المنوّرة، فنُسب إليها، لم تُحدّد المصادر تاريخ ولادته ومكانها، إلّا أنّه كان صبيّاً لم يبلغ الحلم عند وفاة أبيه الصادق (ع) عام ١٤٨ ﻫج، ومن المحتمل أنّه ولد في المدينة المنوّرة باعتباره مدنيّاً.
كان (رضوان الله عليه) علماً من أعلام القرن الثاني والثالث الهجري، حيث تربّى وتعلّم عند أخيه الإمام الكاظم ع، كما أنّه عاصر الإمام الرضا والإمام الجواد والإمام الهادي ع، وصاحبهم في أسفارٍ عديدة، وأخذ منهم العلوم والفضائل الكثيرة، وكان أمين سرّهم، وخازن أموالهم، وكان وجيهاً محترماً لدى الشيعة الإمامية، حيث يفدون إليه، وينهلون من علومه التي تلقّاها من المعصومين ع.
من أقوال العلماء فيه:
١ ـ الشيخ المفيد قدس: « وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَاوِيَةً لِلْحَدِيثِ، سَدِيدَ الطَّرِيقِ، شَدِيدَ الْوَرَعِ، كَثِيرَ الْفَضْلِ، وَلَزِمَ أَخَاهُ مُوسَى ع، وَرَوَى عَنْهُ شَيْئاً كَثِيراً » ( ٢ )
٢ ـ الشيخ الطوسي قدس: « جليل القدر، ثقة » ( ٣ )
٣ _ الشيخ القمّي قدس: « وإجمالاً فجلالة شأن هذا الرجل الكبير أعظم من أن يتّسع لها المقام، وقد أثنى عليه علماء الرجال ثناء بليغاً » ( ٤ )
روايته للحديث ومؤلفاته:
يُعتبر من رواة الحديث في القرن الثاني والثالث الهجري، فقد روى أحاديث عن الأئمة (الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام)، ولم يصل من كتبه إلّا كتابه الوحيد القيّم، وهو (مسائل علي بن جعفر)، ويحتوي على أسئلة عرضها على أخيه الإمام الكاظم (ع)، وردود الإمام (ع) على تلك المسائل.
أدبه مع الإمام الجواد (ع)
عن محمد بن الحسن بن عمار قال: كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالسا بالمدينة وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما يسمع من أخيه – يعني أبا الحسن عليه السلام – إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام المسجد – مسجد الرسول صلى الله عليه وآله – فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبل يده وعظمه، فقال له أبو جعفر عليه السلام:
يا عم اجلس رحمك الله فقال: يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم، فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عم أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال: اسكتوا إذا كان الله عز وجل – وقبض على لحيته – لم يؤهل هذه الشيبة وأهل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه، أنكر فضله؟! نعوذ بالله مما تقولون، بل أنا له عبد. (٥)
(الكافي، الكليني، ج ١ ص ٣٢٢)
اقرأ وتأمل.. دروس في الأخلاق
١. الإنصاف والتجرد من الأنا زينة أهل العلم
هذا الموقف الأنف الذكر من (علي بن جعفر رضوان الله عليه) ونظائره مما كان مؤيداً للإمام الجواد (ع) ومثبتاً لجدارته وأهليته لمنصب الإمامة، فأنت تجد عالماً فقيهاً من أهل البيت ع، هو (علي بن جعفر الصادق)، على كبر سنه،
فقد كان أكبر بني هاشم حينما أستلم الإمام الجواد الإمامة، بشيبته التي اقتربت من الثمانين، وهو عم الإمام الرضا ع؛ أي عم والد الإمام الجواد ع، إضافة الى مكانته العلمية، فهو فقيه من الفقهاء، ورواياته التي يرويها عن الإمام الكاظم ع يعتمدها الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية؛ فهو ليس إنساناً عادياً، بل من كبار فقهاء أهل بيت النبوة سلام الله عليهم، ولكنه (خضوعاً وانصافا وتجردا من الأنا واعترافا بالحق ومراعاة للحقيقة التي لا معدل عنها)؛ لما يعرفه من أحقية الجواد ع ومكانته مع صغر سنه، تراه يعترف له بالإمامة، ويقر له بالفضل، ويبدي له كل الاحترام والخضوع، وفي مرأى ومسمع الناس.
٢. التواضع زينة أهل الإيمان والعلم
علي بن جعفر مع شيبته ومقامه العلمي وكبر سنه، فهو يقوم وينحني لكي يسوي نعلي الإمام الجواد (٦)، هذا العالم الجليل كبير بني هاشم بهذه الروحية الإيمانية العالية. وهذا التواضع للحق ولأهله يعطينا دروساً وهو في محضر الإمام الجواد ع؛ إن الإنسان المؤمن مهما بلغ من العلم والرفعة، فإنه يزداد تواضعاً وإيماناً وإنصافاً للحق، واعترافا بالفضل للآخرين؛ مهما صغرت سنهم، فالمعيار ليس في العمر وليس في السن، إنما المعيار هو الفضيلة العلمية والمقام العلمي والتقوائي والجهادي.
٣. تقدير الكفاءة العلمية
إن تصرف علي بن جعفر رضوان الله عليه تجاه الإمام الجواد ع، وتقديره العالي لشخصه سلام الله عليه في مرأى ومسمع المجتمع قولاً وفعلاً مما نصت عليه الروايات، يرشدنا ويؤكد لنا _ ونحن نتأمل ونريد الإفادة _ مبدأ أخلاقياً عملياً استراتيجياً لنجاح المؤسسات، وبالخصوص الدينية منها، فأي مؤسسة اليوم إذا أريد لها النجاح والتفوق والاستمرار بالعطاء.
فعلاً؛ يجب أن يكون روادها ومنظروها ومستشاروها والعاملون فيها من ذوي الكفاءة والتخصص والعطاء في مختلف اجنحتها و أروقتها، ويكون ضمن برنامجها الرئيسي العملي اجتذاب الكفاءات َودعمها وتوظيف طاقاتها داخل المؤسسة، وهذه ضابطة كلية لتقويم كل مؤسسة مهما كان عنوانها براقاً.
٤. لا تقوم الآخرين برأي الحاشية
من الأمور السلبية في حياتنا الدينية والعلمية والاجتماعية وغيرها، وسواء الفردية والمؤسساتية؛ إننا أحياناً (وبدون سؤال متكرر وفحص وتدقيق ومراجعة ومتابعة ومقابلة للطرف المعني وسؤاله) نأخذ برأي الحاشية المقربة، والبطانة القريبة، وبعض المستشارين في تقويم إنسان قريب منا أو بعيد، سواء تقويم شخصه أو عمله أو عطائه أو النظر في شكوى قدمت عليه، أو خبر نقل عنه، أو تحديد طبيعة التعامل معه في رعاية أو مقاطعة، في تقرب أو ابتعاد، في تقديم عطاء أو منع، ونظائر ذلك.
علي بن جعفر العالم الجليل يعطينا درساً عالي المضمون في تصحيح هذا السلوك السلبي غير القائم على بعد النظر، والمنطلق من التسرع في الحكم على الآخرين لمجرد رأي، أو مشورة من شخص مقرب للقرار عندما رد على أصحابه ورفض رأيهم وبين لهم السلوك الإيجابي والنظرة الصحيحة في تقويم الإنسان دون تسرع، (فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه _ بعد ان قدم التعظيم للإمام الجواد ع والأكبار والاحترام _ جعل أصحابه يوبخونه ويقولون :
أنت عم أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟
فقال: اسكتوا إذا كان الله عز وجل – وقبض على لحيته – لم يؤهل هذه الشيبة وأهل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه ، أنكر فضله؟! نعوذ بالله مما تقولون..)( ٧)
رحم الله تعالى فقيه آل محمد (علي بن جعفر الصادق)
وجعلنا ممن يسير في ركاب العلماء الأتقياء والفقهاء الصلحاء
والحمد لله رب العالمين
_____
الهامش :
١. اُنظر: مسائل علي بن جعفر: 9
٢. الإرشاد 2/ 214.
٣. الفهرست: 151 رقم377.
٤ . منتهى الآمال 2/214.
٥. الكافي، الكليني، ج 1 ص 322
٦. ينظر: معجم رجال الحديث ج12/رقم الترجمة 7979، وموسوعة طبقات الفقهاء ج383/3.
٧. الكافي، الكليني، ج ١ ص ٣٢٢
الخطيب الحسيني
الشيخ عمار الشتيلي
النجف الاشرف
٢٧ ذ ق ١٤٤٤ هج
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية