تولى الإمام موسى بن جعفر مقاليد الإمامة بعد أبيه الذي استشهد عام 148ھ، في الشطر الأخير من حياة المنصور الذي توفي سنة 158ھ. وعاصر أيضا الخلفاء الذين تلوا المنصور، وهم المهدي والهادي والرشيد.
قام المنصور بعد قتله الإمام الصادق [ع] بمهادنة ابنه الإمام الكاظم، لكنه لم يكن بعيداً عن عينه وواصل متابعته، فاستثمر الإمام [ع] تلك الفرصة في التفرغ لإعطاء الدروس في المدينة ونشر العلم.
أما الخليفة المهدي الذي خلف المنصور في عام 158ھ، فقد أودعه السجن مدة من الزمن، ثم أطلق سراحه بسبب حلم رآه.
يقول المؤرخون أنه انتفض مرعوباً من نومه ذات يوم، وبعث الى وزيره الربيع وأمره بإحضار الإمام موسى بن جعفر [ع]، كما ينقل صاحب كتاب تاريخ بغداد وغيره عن وزيره الربيع.
فلما حضر الإمام [ع] قام له المهدي وعانقه وأجلسه، ثم قص عليه قصة الحلم الذي رآه، قال إنه رآى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [ع] في المنام وهو يتلو عليه هذه الآية: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)، ثم طلب من الإمام عهداً أن لا يخرج عليه أو على أحد من ولده، فأكد له الإمام [ع] أن ذلك ليس من شأنه ولا يفكر فيه، فأطلق سراحه وأعاده الى أهله في المدينة.
ومضى عهد المهدي وتولى الخلافة بعده ابنه الهادي الذي انتهج كأبيه نهج القسوة واعتماد أسلوب القتل. واندلعت في زمنه ثورة فخ التي قادها الحسين بن علي(العابد)، من ذرية الإمام الحسن [ع] عام 169ھ، والتي مثلت صرخة ضد ظلم العباسيين وطغيانهم.
ورغم الدعوة التي وجهها قائد ثورة فخ إلى الإمام موسى بن جعفر [ع] للاشتراك في الثورة، إلاّ أن الإمام رفض الدخول فيها لعلمه مسبقاً بنتائج الثورة. فقد كان على يقين أن تلك الثورة ستجر على أهل البيت وأتباعهم المزيد من الاضطهاد وسفك الدماء، وستنتهي دون بلوغ الأهداف السامية في التخلص من الحكم العباسي وإقامة العدل، وحكم الله في الأرض.
وكان من عواقب فشل الثورة أن وجهت السلطة العباسية إصبع الاتهام إلى الإمام بالتحريض والتخطيط لها. وقاد ذلك الى إيداع الإمام السجن عدة مرات، ثم التلويح بالقتل.
لم يدم عهد الهادي طويلاً. فتسلم أخوه هارون الرشيد زمام الأمور. وكان عهد الرشيد عهداً شديد الوطأة على أهل البيت وعميدهم موسى بن جعفر. لقد لخص الشيخ محمد حسن آل ياسين [رحمه الله] وصفه لذلك العهد بقوله: “وعلى كل حال، فإن المتفق عليه بين المؤرخين أن أيام الرشيد كانت أسوأ الأيام على الإمام إرهاباً وإرعاباً وسجوناً ومعتقلات، ويستفاد من مجموع كلماتهم وأقوالهم أن الإمام في عهد هذا الخليفة قد تكرر سجنه وإخلاء سبيله أكثر من مرة قبل سجنه الأخير الذي توفي فيه، كما يستفاد منها أنه حبس في البصرة مرة؛ وفي بغداد مرات، وأنه تنقل في حبوس عيسى بن جعفر؛ والفضل بن الربيع؛ والفضل بن يحيى البرمكي، ثم السندي بن شاهك في آخر المطاف”.
ثم يذكر الشيخ [رحمه الله] في كتابه (الإمام موسى بن جعفر [ع]) ضمن سلسلته (الأئمة الإثنا عشر عليهم السلام) إن أسباب تكرار حبس الإمام كانت مختلفة، وأولها كان في أول حج للرشيد بعد أن تولى الخلافة. وعندما ذهب لزيارة قبر الرسول [ص]، وقف أمام القبر الشريف وسلّم عليه قائلا: “السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا ابن العم!” مفتخراً بذلك على من معه بقرب نسبه من رسول الله [ص]. فما كان من الإمام موسى بن جعفر [ع] الذي كان حاضراً وقتها إلا أن سلّم على الرسول قائلاً: “السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبه!” فتغير وجه الرشيد على الفور، وبان الغيظ فيه. لكنه أراد أن يكبته، فقال للإمام [ع]: “هذا الفخر يا أبا الحسن حقاً!”.
لم يكن موقف كهذا سهلاً على الرشيد فقد كسر الإمام [ع] كبرياءه أمام حاشيته ورعيته، وقتل أمله في إثبات جدراته وأهليته في تولي منصب “أمير المؤمنين” و”خليفة رسول الله” للملأ المحتشدين حوله، فقد كان يأمل بإسماعهم أنه ابن عم رسول الله [ص] أن يروا فيه القريب إلى رسول الله نسباً، وبالتالي فهو الجدير بتولي كرسي خلافته، لكن محاولاته في بناء هذه الفكرة في عقولهم خابت بعد أن بادره الإمام بإعلانه أمام الملأ نفسه أنه ابن لرسول الله، متحدر من صلبه، وأنه الأقرب رحماً برسول الله.
لا شك أن هذه الحادثة وغيرها تلتها خلقت تراكماً من الحقد قاد إلى التخطيط لتغييب الإمام عن الساحة، وإقصائه عن الأمة، ومن ثم التخطيط لقتله.
لقد كان حبس الإمام ثقيلاً حتى على أتباع الرشيد وعمّاله، فقد كانوا يرون قرابته من رسول الله [ص] من جهة، ومن جهة أخرى يرون قضاء وقت سجنه في العبادة والتهجد وذكر الله، وهي إمارات لا تشير إلى سعيه ونيته في إزاحة الخليفة عن منصبه كما كان الخليفة يُفهم عمّاله، فلم يجسروا على تلبية طلب الخليفة في سفك دمه، ليتحملوا وزراً عظيماً يحاسبون عليه أشد الحساب يوم القيامة، فاضطر الرشيد في نهاية المطاف الى تسليمه إلى من أعرب عن استعداده في تحمل هكذا وزر، فتولى أمر حبسه السندي بن شاهك، وأخذ يخطط لقتله، فدس له السم في التمر، ومضى الإمام على أثرها الى ربه شهيداً مظلوماً، كما نقل ذلك كثير من المؤرخين في الكافي والمناقب وبحار الأنوار.