صدر مؤخرا استفتاء عن سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) يجيب من خلاله على سؤال جواز البقاء على تقليد المرجع الميت، جاء فيه (باختصار):
(بسمه تعالى : الحياة شرط في مرجع التقليد، لأن وظائف المرجعية لا تنحصر بالفتاوى حتى يمكن أن يقال بجواز الرجوع إلى الرسالة العملية للميت، وإنما هي قيادة للأمة ولا يمكن أن تكون الا لفقيه يعايش هموم الأمة وتطلعاتها، ويمتلك فطنة ليحلل بدقة الأحداث الجارية ويتخذ المواقف الحكيمة المسدّدة من قبل الله تعالى بناءاً على ما في الحديث الشريف (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس) فلا يجوز تقليد الميت حقيقة أو حكماً وهو الفاقد لأهلية المرجعية، او العاجز عن أداء وظائفها).
بعدها يتحفنا بتصحيح بعض المفاهيم المنتشرة بين الاوساط الحوزوية والاجتماعية ويضعها في نصابها الصحيح منها مفهوم (المستحدثات الخلافيات) ويمكن للقارئ العزيز الرجوع لاصل الاستفتاء ليتوسع في فهم الموضوع.
ان هذا الاستفتاء يعالج مشكلة حقيقية ابتليت بها الامة الاسلامية والامم السابقة وهي البقاء على تقليد الاموات وان جاء لهم من يجب اتباعه بكل التفاصيل.
قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (6) سورة الصف
في هذه الآية المباركة تقرير لهذه المشكلة فمن جهة يمثل نبي الله عيسى (عليه السلام) الامتداد الطبيعي لشريعة موسى (عليه السلام) ومن المفروض على بني اسرائيل اتباعه بخاصة انه جاءهم بالبينات الدلائل، ومن جهة اخرى اقر لهم انه يمثل حلقة من ضمن السلسلة النبوية وسياتي بعده نبي اسمه احمد يجب عليهم اتباعه، الا انهم لم يمتثلوا لأمره ولم يؤمنوا به ولا بالذي بشر به وظلوا على شريعتهم لانهم كيفوها على وفق مصالحهم. والمشكلة نفسها عاشها اتباع الدين المسيحي بتوقفهم على نبي الله عيسى (عليه السلام).
كما ابتليت الامة الاسلامية بالمشكلة نفسها فأبناء العامة توقفوا على مجموعة من العلماء وكتبهم التي سميت بالصحاح على الرغم مما فيها من مشكلات لا يقبلها المنطق والعقل.
كذلك فان الشيعة الامامية ابتليت بالمشكلة نفسها قديما وحديثا فقضية البقاء على تقليد الشيخ الطوسي معروفة فقد استمرت الامة على تقليده لمئة عام تقريبا حتى انبرى ابن ادريس الحلي ليكسر هذا الطوق ويصحح مسار الامة الا انه دفع ضريبة باهضة لانهم اقاموا عليه حملة تسقيط منقطعة النظير، فاتهموه بالعمالة والخروج عن مذهب اهل البيت (عليهم السلام) وان افكاره منحرفة وغيرها، الا انه صمد بكل جدارة وادى وظيفته بكل اقتدار.
فأساس المشكلة ينقسم على قسمين:
القسم الاول : المنطلق فيها عقدي فلم يتم التعامل مع قضية الاجتهاد والتقليد على اساس انها قضية عقدية ولها جزئيات فقهية بل تم التعامل معها على اساس فقهي فقط.
ان معنى التقليد المتعارف اليوم فقهيا ليس تاما، أي انهم يعنون به ان يرجع المكلف الى الفقيه الجامع للشرائط في المسائل الفقهية فقط، او بعضهم قال ان عمل المكلف بدون تقليد باطل الا اذا وافق عمله فتوى المجتهد الجامع للشرائط الحجة عليه فانه يحكم بالصحة ولو بعد حين، بذلك نكون قد فقدنا جانبا مهما من مفهوم التقليد الحقيقي، فان الاجتهاد والتقليد أساسا من عقائد الامامية وان كان ثمة ترابط مع الفقه (فمن لم يكن مجتهدا ولا محتاطا ثم لم يقلد المجتهد الجامع للشرائط فجميع عباداته باطلة لا تقبل منه ، وإن صلى وصام وتعبد طول عمره . إلا إذا وافق عمله رأي من يقلده بعد ذلك وقد اتفق له أن عمله جاء بقصد القربة إلى الله تعالى) .
على هذا التأسيس فإننا سنفقد الفكرة الرئيسة من مفهوم التقليد الذي هو بمعنى الانقياد واتباع القيادة الواعية، فالهدف من التقليد هو متابعة القيادة بكل صغيرة وكبيرة لغرض ادراك التكامل الذي يحصل عليه المكلف من هذه المتابعة، فلا يكتفى بمطابقة العمل لفتوى المجتهد الجامع للشرائط على المستوى الفقهي، فيفهم من هذا الكلام ان المكلف لا ربط له بالقيادة الواعية الا من خلال الحكم الشرعي.
قد يرد عليه: ان هذا الحكم وهو صحة العمل وان كان بغير تقليد في حال طابق حكم المجتهد الجامع للشرائط انما هو ليسهل على من لم يكن يعلم بضرورة التقليد، فهو من باب تقريب المؤمنين للتقليد والعمل الصالح.
قلنا: ان المجتمع يفهم ما هو ظاهر من المسالة، وهذه المسالة تسهم بشكل مباشر في تضعيف عقيدتنا بالتقليد، وترسخ قضية الارتباط بين المكلف وقيادته انما هو الحكم الشرعي ليس الا، فانه لا يحاسب على انقطاعه عن متابعة قيادته وابتعاده عنها، كل ما في الامر ان الملحوظ هو الجانب الفقهي فقط، اما التقصير في أداء وظيفته من حيث هو جزء من امة خاطبها الله سبحانه وهو أيضا جانب فقهي اجتماعي فانه لا
يذكر وهذا يعني عدم أهميته من وجهة نظر المجتهد والمكلف. فالفقه بحسب نظرية الفقه الاجتماعي للمرجع اليعقوبي ليس فقه احكام فردية بل ثمة احكاما شرعية لا يمكن اغفالها وتبرءة ساحة المكلف منه، وهذا ما عنيناه بان هذا النمط من التقليد ليس تاما لأنه ينقص الفقه الاجتماعي.
في حين ان الله تعالى ارسل الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم اجمعين) لا على أساس ان يعلموهم الفقه بالمعنى المتعارف، وانما يعلمونهم كل شيء، قال تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ( 151 ) البقرة
(لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ( 164 ) ال عمران
(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ( 2 ) الجمعة
(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب ( 7 )الحشر
من الملاحظ ان الآيات المباركة اكدت على ان دور الرسل لا يقتصر على جانب محدد، وانما كل عمل كان خاطئا سارت عليه الامة فهو مشمول بالتصحيح والتعليم. كذلك دور الائمة (عليهم السلام) ومن ينوب عنهم بحق.
(والدليل على هذه الولاية لنائب الإمام – في حال غيبته- هو نفس الدليل على وجوب وجود الإمام نفسه، وهو حكم العقل بوجوب نصب إمام ومرجع يحفظ البلاد وينظّم أمور العباد الدينية والدنيوية، وقد عبّر أمير المؤمنين(عليه السلام) عن هذا الوجوب بقوله: (لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلّغ الله فيه الأجل، ويجمع به الفيء، ويُقاتَل به العدو، وتأمن به السُبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بَرٌ ويُستراحُ من فاجر) ومع ثبوت هذه اللابدّية فيلزم منها جعلها من قبل الله تعالى ولابد أن تكون للفقيه العارف بالقانون الإلهي والقادر على استنطاق مصادر التشريع والأخذ منها وأن يكون بدرجة عالية من النزاهة وعدم الانسياق وراء أهواء النفس والترفع عن الدنيا والذوبان في الله تبارك وتعالى بحيث يعيش معه في كل وجدانه وأن يكون متخلقاً بأخلاقه تبارك وتعالى). سبل السلام للمرجع اليعقوبي
ان المشكلة الحقيقية تكمن في بعض المفاهيم التي كانت نتائجها سلبية على حركة المجتمع الى اليوم، على راسها مفهوم التقليد الكلاسيكي، فانه فسح المجال الواسع امام الامة ان لا تمتثل لراي القيم على الشريعة؛ فهم يحتجون على من يطالب بإيجاد حركة اجتماعية في مختلف المجالات لتصحيح سيرها براي المراجع الكلاسيكيين لتبنيهم مفهوم التقليد بمعناه المشهور وهو الرجوع إليهم في الاحكام الشرعية فقط. ومما يؤسف له ان القادة المصلحين يتهمون بشتى الاتهامات لانهم يخالفون المراجع الكلاسيكيين.
ولو كان مفهوم التقليد لا بالمعنى الفقهي المتداول بين المجتمع وانما بالمفهوم القرآني لكان الحال مختلفا تماما عما عليه حال المسلمين؛ لذا فان معظم المسلمين لا يرون قدرة الإسلام على إدارة الحياة، لأنهم لم يروا ولم يعيشوا عمليا تطبيق الشريعة الإسلامية في حياتهم وان كانت بسيطة، فالتطبيق إذا كان اليوم بمستوى بسيط فانه سيتطور الى مستوى أعمق وأرقى، حتى يصل الى المستوى المطلوب. ولو تعاملنا على أساس ما جاء في القران الكريم من الانصياع التام في كل المجالات للرسول والقيم على الرسالة لاختلفت الحال جذريا.
القسم الثاني : العواطف التي تربط الامة بقائدها مع وجود المنتفعين من تغذية هذه العاطفة لتصب في مصلحة المستفيد من ابقاء الناس على تقليد الميت. فيروج البعض لضرورة البقاء على تقليد المرجع المتوفى بدواعي انه الاعلم ولا يمكن ان ياتي من يجاريه في علمه او يحمل صفاته وغيرها مما يوهم المجتمع بصحة حديثهم. على الرغم من المخالفات الصريحة لما ورد عن اهل البيت (عليهم السلام) :
ورد عنهم (عليهم السلام) : ( اذا وصلت روح الامام الى التراق فسينتقل روح القدس للإمام الذي يليه).
وهذه الرواية تؤكد حقيقة عدم ترك الارض بدون حجة حتى وان كان جزء من الثانية وليس ساعة، ولعل هذه الرواية اكثر دقة من الروايات التي اشارت لعدم خلو الارض من الحجة لساعة فقد يكون القول بالساعة هو انما تماشيا مع المتعارف ان الساعة اقصر الاوقات المعروفة:
ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لو أن الامام رفع من الأرض ساعة لساخت باهله كما يموج البحر باهله). بصائر الدرجات ص 508
وفي بعض الروايات قالت لا تخلو الارض طرفة عين:
عن سليمان الجعفري قال : (سالت ابا الحسن الرضا (عليه السلام) قلت: تخلو الارض من حجة الله؟ قال: لو خلت الارض طرفة عين من حجة لساخت باهلها). بصائر الدرجات ص 639
وعلى الرغم من عظمة الائمة الاطهار (عليهم السلام) الا انهم يؤكدون على متابعة الامام اللاحق في حال موت الامام السابق:
(عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن عليا كان عالما وان العلم يتوارث ولن يهلك عالم الا بقي من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء الله). بصائر الدرجات ص 167
وعن المعلى بن خنيس قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ” قال: أمر الله الامام الأول أن يدفع إلى الامام الذي بعده كل شئ عنده). الكافي ج 1 ص 277
وعن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يموت الامام حتى يعلم من يكون من بعده فيوصي [إليه]). الكافي ج 1 ص 277
وفي بعض الروايات جاء ان الحكمة من ضرورة وجود الحجة:
(عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن الله لم يدع الأرض الا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان في الأرض فإذا زاد المؤمنون شيئا ردهم وإذا نقصوا اكمله لهم فقال خذوه كاملا ولولا ذلك لالتبس على المؤمنين أمرهم ولم يفرقوا بين الحق والباطل). بصائر الدرجات ص 434
و(عن إسحاق بن عمار قال قال: أبو عبد الله (عليه السلام) ان الأرض لا تخلو من أن يكون فيها من يعلم الزيادة و النقصان فإذا جاء المسلمون بزيادة طرحها وإذا جاؤوا بالنقصان اكمله لهم ولولا ذلك لاختلط على المسلمين أمرهم). بصائر الدرجات ص 434
وفي حديث نقله العامة والخاصة قال الصادق (عليه السلام): (طوبى للذين هم كما قال رسول (الله صلى الله عليه) وآله: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين). تفسير العسكري ص 47
وروايات كثيرة وردت بألفاظ مختلفة تؤكد على ضرورة عدم خلو الارض من الحجة: (عن حمزة بن الطيار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لو بقي اثنان لكان أحدهما الحجة على صاحبه). الكافي ج 1 ص 179
ورد عن ابي عبد الله (عليه السلام) انه قال: (ليس من امام يمضي الا واوتي الذي من بعده مثل ما اوتي الاول وزيادة خمسة اجزاء). بصائر الدرجات ص 552
وهذا تفسير الآية المباركة : (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة 106
حتى ان بعض صحابة الائمة كانوا يراجعونهم للاستفسار عما عملوه سابقا في زمن الامام السابق والامام الحي اما يقر لهم بالعمل او يغير .
فكيف يمكن ان يشيعوا ثقافة البقاء على تقليد الميت؟ لعل بعضهم سيقول ان الروايات الواردة انما تخص المعصومين ولا تشمل العلماء العاملين في زمن الغيبة التامة؟
قلنا: ان الروايات جاءت بعدة معان منها العالم ومنها الحجة ومنها الامام، ومن الواضح ان مفهوم الحجة اوسع من مفهوم المعصوم فهو شامل للمعصوم وغيره فضلا عن الروايات التي تضمنت مفهوم الظهور للحجة أي الذي يتمكن المجتمع من الرجوع اليه ليصحح لهم المفاهيم ويرفع الزيادة ويتمم النقصان كما ان هذا العالم الذي يقوم بهذا الدور لا بد ان يكن واضحا ليمارس دوره الاصلاحي وهذا خلاف الغيبة التي يعيشها الامام المهدي (عليه السلام) ان كان يعنيه المعترض، اذا لا بد ان المقصود بالحجة هو المرجع الجامع للشرائط الذي يكون حجة على الناس.
اذا سماحة المرجع ينطلق للمعالجة هذه المشكلة قرآنيا وروائيا ليحيي الامة بعد ان يحاول بعض اماتتها بالبقاء على تقليد الميت مها على شانه ومستوى علمه فالحياة شرط في القيادة الدينية وليس الحياة فقط بل لا بد ان تكون حياة فاعلة فكم من حي وحقيقته جثة هامدة.
فلا بد على الامة ان تعي الابعاد الحقيقية الكامنة وراء هذا الاستفتاء صحيح انه كتب بلغة فقهية راقية جدا الا انه يمثل معالجة لمشكلات الامة.
بقلم /الشيخ عبد الهادي الزيدي