جرت سُنّة العلماء المحققين أن يُحرّروا محل النزاع قبل الولوج في أي بحث علمي، حتى يكون النقاش منضبطًا، بعيدًا عن الإشكالات الناتجة عن عدم وضوح المفاهيم والمصطلحات
فالبحث العلمي الدقيق لا يقوم على العناوين العامة ولا على الأحكام الجزافية، بل على تحقيق موضوع المسألة، وتمييزه عما قد يُشتبه به.
وفي ضوء هذا المنهج الرصين، فإن موضوع بحثنا ليس اجتهاد المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)؛ إذ أن البحث في اجتهاد فقيه أفنى أكثر من اثنتين وعشرين سنة في التدريس، والبحث الخارج، والتأليف، والتربية العلمية، وأنتج جيلًا من المُحققين والباحثين، هو عبث علمي لا يستحق الالتفات إليه .
إنما كلامنا في مسألة أعلميته، أي كونه الأعلم بين أقرانه في الحوزة العلمية في النجف الأشرف في هذا العصر.
الأعلمية عند الفقهاء ومعاييرها العلمية
لا بد من تحديد معيار الأعلمية وفق رؤية المحققين من علماء الأصول. يقول السيد الخوئي (قدس سره):
“المراد بالأعلمية كون المجتهد أشدّ مهارة من غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها، وأقوى استنباطاً، وأمتن استنتاجاً للأحكام عن مبادئها وأدلّتها، وهو يتوقّف على علمه بالقواعد والكبريات، وحسن سليقته في تطبيقها على صغرياتها، ولا يكفي أحدهما ما لم ينضم إليه الآخر” .
وبناءً على هذا التحديد الدقيق، فإن الأعلم ليس هو الأكثر حفظًا أو اطلاعًا على النصوص الفقهية فحسب، بل هو الأقدر على:
|| التمرس الفقهي والتطبيق العملي للمباني الأصولية
الأعلم هو من يمتلك قدرة فائقة على تنزيل القواعد الفقهية على مواردها التفصيلية، فلا يقتصر على النظريات المجردة، بل يكون صاحب مهارة متميزة في التطبيق والاستنباط. ومن يراجع دروس وأبحاث الشيخ اليعقوبي يجد أنه يمتلك هذه المهارة بوضوح، حيث لا يقف عند حدود تقرير آراء السابقين، بل يعيد بناء المسائل وفق رؤية تحليلية عميقة.
|| امتلاك منهج مستقل في الفقه والأصول
وهذا من أوضح علامات الأعلمية، فإن الفقيه الذي يُصبح مدرسة قائمة بذاتها، ويبتكر منهجًا علميًا متكاملًا، لا يكون مجرد متبع لمناهج غيره، بل هو منتج للمعرفة الفقهية والأصولية. وقد تميّز الشيخ اليعقوبي بتأسيس منهج اجتهادي متكامل، يجمع بين الصرامة العلمية والمرونة المنهجية، مما يجعله متفردًا بين أقرانه.
|| الإنتاج العلمي الرصين
لا يمكن الحديث عن أعلمية فقيه دون النظر في آثاره العلمية؛ إذ أن الكتابات والأبحاث هي الشاهد الحقيقي على مدى عمق الاجتهاد الفقهي. ومن خلال تتبع آثار الشيخ اليعقوبي نجد أنها تمتاز بأمرين جوهريين:
(1) قوة البناء الأصولي والاستنباطي، مما يعكس تمرّسه الفقهي العميق.
(2) تجديد الطرح الفقهي وعدم الاكتفاء بإعادة صياغة المسائل المبحوثة سابقًا، بل معالجة القضايا وفق رؤية دقيقة ومستحدثة، وكفى بــ “فقه الخلاف” دليلاً .
|| دقة البحث الخارج وقوة الاستدلال
إن دروس البحث الخارج هي المعيار الفعلي لمستوى الفقيه، فهي الميدان الذي تُختبر فيه قدرته على التحليل، والاستدلال، والنقاش العلمي العميق. والشيخ اليعقوبي يتميز بأن دروسه ليست مجرد شرح أو تقرير، بل هي بحوث اجتهادية قائمة بذاتها، تتسم بقوة الاستدلال، وسعة الإحاطة، ودقة الاستنتاج.
|| الإحاطة بالعلوم المرتبطة بالفقه
لا يكون الفقيه الأعلم مجرد متبحر في الفقه والأصول فقط، بل لا بد أن يمتلك إحاطة واسعة بالعلوم الأخرى المؤثرة في عملية الاستنباط، مثل التفسير، وعلم الرجال، والفكر الإسلامي. والشيخ اليعقوبي يمتلك هذا البعد العلمي، حيث إن دراساته تتعدى الفقه إلى معالجة القضايا العقائدية والفكرية بمنهجية دقيقة، مما يعكس تكامله العلمي.
لماذا يجب البحث في الأعلمية؟
قد يُقال: ما الحاجة إلى هذا البحث؟ والجواب أن مسألة الأعلمية ليست قضية شخصية، بل هي ضرورة علمية وشرعية، إذ أن اتباع الأعلم هو مقتضى الاحتياط العقلي والشرعي. فكما أن الإنسان في شؤون دنياه يبحث عن الأقدر، فكذلك في أمر دينه عليه أن يتبع الأعلم، حتى يطمئن إلى أن استنباط الأحكام التي يعمل بها قائم على أساس علمي متين.
ومن هنا، فإن البحث في أعلمية الشيخ اليعقوبي ليس مجرد نقاش نظري، بل هو جزء من مسؤولية العلماء في بيان من هو الأكفأ لقيادة الفقه والاجتهاد في العصر الحاضر، حتى يكون للناس سبيل واضح في تحديد من يتبعون وفق معايير العلم والاجتهاد، لا وفق الأهواء أو العادات.
الخاتمة: الإنصاف العلمي ضرورة لا مجاملة
إن الحديث عن أعلمية الشيخ اليعقوبي لا يُقصد به الانتقاص من أي فقيه آخر، بل هو بحث علمي خالص، يراد به إنصاف الحوزة العلمية، وإنصاف الأمة التي تحتاج إلى معرفة الأعلم في زمانها. فإن التقييم العلمي يجب أن يكون مبنيًا على معايير دقيقة، وليس على الاعتبارات الشخصية أو العاطفية.
لقد كانت الحوزة العلمية في النجف الأشرف، على مرّ التاريخ، قائمة على البحث الحر، والمنافسة العلمية الشريفة، وكان العلماء يشهدون بالأعلم لمن يستحق، دون مجاملات أو تحفّظ. ومن هنا، فإن بيان الأعلم اليوم هو ضرورة علمية، حتى تستمر المسيرة الفقهية على أصولها الصحيحة، ويبقى الفقه الإمامي محافظًا على منهجيته الأصيلة، بعيدًا عن المؤثرات غير العلمية.
فالحق أحق أن يُتّبع، ومن كان الأعلم، وجب الاعتراف بأعلميته، سواء وافق ذلك هوى البعض أو خالفه، فإن ميزان العلم لا يتأثر بالمجاملات، وإنما يقوم على الحقائق الموضوعية والأدلة الرصينة.
نسأل الله تعالى القبول ..
وهي محاولة لتصويب البحث..
فإذا كان لا بد من بحث فتاعلوا نناقش
أعلمية المرجع اليعقوبي مقارنة بغيره ،أما الكلام
عن إجتهاده و مرجعيته فهذا مستوى لا أنزل إليه أنا شخصياً
الشيخ هادي حسين ناصري