حين تُستعمل الرموز النبوية الكبرى كإبراهيم عليه السلام، لا لتذكير الإنسان بجذوره التوحيدية، بل لتمرير سردية الهيمنة، فإن الخدعة لا تكون سياسية فحسب، بل روحية أيضًا.
هنا، لا يتم فقط تسليع الأنبياء، بل يُعاد توجيه رسائلهم الأولى لتخدم أغراضًا دنيوية مضادة لجوهرها.
فإبراهيم الذي كان، في لحظة الوعي الأولى، رمزًا للانفصال عن الأصنام و”المدينة التي تشتري روحك”، يُستعمل اليوم لتبرير العودة إليها… إلى مدينة السوق، والدين المعلّب، والسلام الذي يشبه التنويم.
حين يُختزل النبيّ في مشروع عبور سياحي بين ديانات، ويتحوّل مقامه إلى مزار دبلوماسيّ، فإن المعنى يُذبح بصمت.
إنهم لا يسعون إلى إبراهيم الحيّ الذي “أفلَ نجمُ قومه في قلبه”، بل يريدون إبراهيمًا جديدًا، بلا ذاكرة، بلا نار، بلا ذبح، بلا وعي حادّ بالوحدانية.
وهنا، يطلّ الشيطان لا كرمز ميتافيزيقي، بل كصاحب مشروع… مشروع مكر، يُلبس الباطل لبوس الحق، ويستدرجك إلى طاولة الحوار لا لتفهم، بل لتنسى.
تنسى من تكون، وماذا يعني أن تؤمن حقًا، ومتى يكون الصمت خيانة.
الإبراهيمية التي تُقدَّم اليوم، ليست عودة إلى الإيمان المشترك، بل هروبٌ من الصراع الأخلاقي الحقيقي… إنها طريقة ناعمة لتفكيك الوعي، ولجعل الاستسلام يبدو كأنه حكمة، والمهادنة كأنها نور.
لكن الروح التي لا تُخدع، لا ترى النور في العيون المصطنعة. الروح الحيّة تسأل دائمًا: من المستفيد؟ من الكاتب الحقيقي لهذه القصة الجديدة؟
هل هو إبراهيم، أم حفدة فرعون الجدد؟
—
خاتمة: الوعي هو آخر الحصون
في هذا الزمن الذي تتشابه فيه الأصوات وتختلط فيه الخطابات، يغدو التمييز بين النور الحقيقي وضوء المصابيح الاصطناعية تحديًا روحيًا وفلسفيًا. فالمعركة لم تعد مع جيش يحتل الأرض فقط، بل مع خطاب يحتل العقل والضمير.
والإبراهيمية، بصيغتها المعاصرة، ليست سوى فصل جديد من معركة قديمة: معركة على الإنسان، على وعيه، على حريته في أن يقول “لا”، حين تُصاغ “نعم” له من خارج تاريخه، من خارج جراحه، ومن خارج رؤياه.
لكننا، كما تؤمن أيها الكاتب الرسالي، لا نكتب هذه الكلمات لنغرق في اليأس، بل لنستخرج من عمق المأساة بذرة وعي جديدة.
الوعي الذي لا ينتظر إصلاحًا من السماء، بل يبدأ بإصلاح القلب، وتجديد الإرادة، ورفض الانجرار إلى سلام مزيّف يُطلب منك أن تدخل فيه عاريًا من هويتك.
الجيل الجديد لا يحتاج إلى خطاب تعبويّ، بل إلى من يوقظ فيه شعورًا داخليًا بأنّه ليس آلة، وليس تابعًا، وليس رقما في معادلة التسويات الكبرى.
إنه بحاجة إلى من يقول له: “احذر، فإنك الآن تُعاد كتابتك”، ولكن بيدٍ ليست يدك.
وفي كل ذلك، تظل الفلسفة في جانبها الرسالي، لا تعني الانفصال عن الواقع، بل تعني الغوص فيه بعين الروح، وضمير لا يُساوم.
فمن امتلك وعيه، امتلك حريته. ومن امتلك حريته، أصبح خارج سلطة الخدعة.
—
(أ) ملاحظة توضيحية:
عبارة “الوعي لا ينتظر إصلاحًا من السماء” لا تعني نفي العون الإلهي أو رفض البُعد الغيبي، بل تُشير إلى نقد الحالة النفسية التي يتواكل فيها الإنسان، متذرعًا بانتظار تدخلٍ خارجيّ دون أن يتحرك أو يتحمل مسؤوليته التاريخية. فالوعي الحقيقي هو الذي يجعل من الإيمان دافعًا للعمل، لا ذريعة للجمود.
نهاد الزركاني