أ- الزمان والمكان عند الإمام الصادق (ع):
كان من رأي بعض فلاسفة اليونان أن الزمن ليس له حقيقة أو وجود خارجي لا بصورة ذاتية ولا بصورة تبعية، فهو لا يعدو عن كونه فاصلاً بين حركتين، وأن الإنسان أو أي كائن حي ذي شعور لا يحس بهذه الفاصلة حتى وإن تابع سير الحركة.
في حين رأى البعض الآخر أن للزمن وجوداً ذاتياً، وقد صنف هؤلاء الزمن إلى نوعين: الزمن المتحرك (السائر) وهو يتألف من ذرات متحركة تنتقل من جانب إلى جانب، والزمن الثابت الذي لا تتحرك ذراته وأجزاؤه، ومثل هذا الزمن لا ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يفصل بين حركة وحركة.
وفي رأي فلاسفة الإغريق القدامى أن الزمن الثابت (زمن الأبدية) هو زمن الآلهة، في حين أن الزمن السائر (المتحرك) هو زمن الكائنات الحية ومنها الإنسان، ولو استطعنا وقف حركة الزمن، ووقف التغير في شكل الكائنات الحية لرفعناها إلى مرتبة الآلهة، لأنها إذ ذاك ستتمتع بالزمن الثابت وهو أبدي.
أما فلاسفة أوربا في القرون المتأخرة وحتى القرن العشرين فمنهم من أنكر وجود الزمن إنكاراً باتاً قائلين أن الموجود هو المكان، ومنهم من أنكر المكان قائلاً أنه يوجد تابعاً ولا وجود له في حد ذاته، وأنه حيثما وجدت المادة وجد المكان وإلا فلا.
وقال العالم الروسي المعاصر (إسحاق عظيموف) إن المكان هو المادة وإشعاعها، وأن ما نراه ونحس به هو المادة أو أمواجها وأشعتها وإن إحساس البشر بالمكان سببه الأشعة المنبعثة من المادة.
لكن رجلاً جاء قبل عظيموف باثني عشر قرناً ونصف القرن – هو الإمام الصادق – ساق نظريات حول الزمان والمكان تتفق مع نظريات العلماء المعاصرين، وكانت مصاغة في قالب سهل المأتى، واضح المعنى خلواً من المصطلحات والمعادلات العلمية الحديثة.
(ففي رأي الصادق أن الزمان غير موجود بذاته ولكنه يكتسب واقعيته وأثره من شعورنا وإحساسنا، وأن الزمان هو حد فاصل بين واقعتين أو وحدتين. وهو يرى أن الليل والنهار ليسا من أسباب تشخيص الزمان ومعرفته، وإنما هما حقيقتان مستقلتان عن الزمان، وليس لهما طول ثابت، فالليل يقصر في الصيف ويطول في الشتاء والنهار على عكسه، ويتعادلان أحياناً.
وفي رأي الصادق أيضاً أن للمكان وجوداً تبعياً لا ذاتياً، وهو يتراءى لنا بالطول والعرض والارتفاع، ولكن وجوده التبعي يختلف باختلاف مراحل العمر. ومن ذلك مثلاً أن الطفل الذي يعيش في بيت صغير يرى بخياله وأحلامه أن فضاء البيت ساحة كبرى، ومتى بلغ هذا الطفل العشرين من عمره رأى هذه الدار مكاناً صغيراً جداً، وأدهشه أنه كان يراها واسعة رحيبة في الطفولة)
ب- عالم الكون:
(قال الإمام الصادق (ع) أن الكون لا ينحصر في عالمنا وحده وإنما هناك عوالم أخرى،وقسم العالم إلى قسمين: العالم الأكبر والعالم الأصغر، وأن عدد العوالم في كل قسم كثيرة ولا يعلم عددها إلا الله تعالى.
وقال أن بين النجوم التي نراها في الليل ما هو أضخم من الشمس بحيث تعتبر الشمس بالقياس إليها صغيرة الحجم ضئيلة الضياء.
وقد جاء العلم الحديث بعد اثني عشر قرناً ونصف القرن مبرهناً على صحة هذه النظرية، وقام الدليل على أن هناك آلافاً من العوالم والمنظومات الشمسية الشبيهة بعالمنا ومنظومتنا الشمسية تعز على الحصر، وأن هناك مجموعات من النجوم السواطع (مجرات) يتضاءل تلقاء حجمها وضيائها حجم الشمس وضياؤها ويطلق عليها اسم (كوزارز) وبعضها يبعد عن الأرض بمقدار تسعة مليارات من السنين الضوئية، وأن الضوء المنبعث من بعضها أكبر من ضوء الشمس بعشرة آلاف مليار مرة) .
(وتذهب نظرية الصادق إلى أن لكل ما في العالم الأصغر شبيهاً في العالم الأكبر ولكن على ضخامة في الحجم والسعة، وأن لكل ما في العالم الأكبر شبيهاً في العالم الأصغر ولكن على قلة في الحجم والسعة، ومن هنا فإنه يستطاع تحويل العالم الأصغر إلى عالم كبير وتحويل العالم الأكبر إلى صغير.
ونحن حين نستمع إلى هذا الكلام منقولاً من ملفات القرون الماضية نحس وكأننا نصغي إلى عالم فيزيائي في عصرنا الحاضر أو كأننا نقرأ كتاباً في علم الفيزياء الحديث).
(وللإمام الصادق نظرية علمية هامة أخرى هي نظرية انقباض العالم وامتداده، ومؤداها أن العوالم الموجودة لا تبقى على حال دائم من الأحوال فهي تتسع تارة وتنقبض أخرى. الأمر الذي أكده العلم الحديث الذي توصل إلى أن العالم المحيط بمنظومتنا الشمسية يتمدد ويتسع من جهة ويتقلص وينقبض من جهة أخرى، وأن الاتساع والانقباض يحدثان شيئاً فشيئاً، ففي حين تتباعد الأجرام في جانب من العالم تتقارب في جانب آخر مكونة كتلاً كثيفة، وتنتهي المادة إلى موت حقيقي عندما تصطدم بالأجسام المظلمة الكثيفة وتفقد إلكتروناتها، وتغدو جزءاً من هذه الأجسام المظلمة فتنتهي حركتها. أي أن المادة تنتهي من حيث الظاهر عندما يحدث التقاء بينها وبين الأجسام المظلمة وتبقى نواتها بعد اندماجها بغيرها مفتقرة إلى الكتروناتها، وتتراكم هذه الأجسام المظلمة وتتكاثف بدرجة تزيد بمئات آلاف المليارات عن المواد المتراكمة المعروفة لنا والموجودة في الأرض.
وصفوة القول أن علمي الفيزياء والفلك المعاصرين يؤكدان نظرية الإمام الصادق المتعلقة بتعدد العوالم وكثرتها وبانقباضها وتمددها).
ج- نظرية انعكاس الضوء:
يرى الإمام الصادق أن الضوء ينعكس من الأجسام على صفحة العين البشرية بسرعة كلمح البصر. أما الأجسام البعيدة فلا ينعكس منها إلا جزء صغير من الضوء ولهذا تتعذر رؤيتها بالوضوح الكافي، فإذا استعنّا بجهاز أو آلة ما لتقريب الضوء إلى العين فيمكن مشاهدة الجسم البعيد بنفس حجمه الحقيقي وبوضوح تام.
وقد اهتم (روجر بيكون) الأستاذ بجامعة أوكسفورد بهذه الطريقة وتوصّل إلى أننا لو استعنّا بما يقرب ضوء الأجسام البعيدة إلى عيوننا لأمكننا مشاهدتها وقد قربت إلينا خمسين مرة عن بعدها الحقيقي.
ولولا فرضية الضوء التي أتى بها الإمام الصادق لما تمكن (ليبرشي) عام 1608م من اختراع المجهر الذي استعان به غاليليو عام 1610م لاختراع المجهر الفلكي لرصد انعكاس ضوء الشمس على الكواكب الأخرى، ورصد الأجرام السماوية، الأمر الذي قاد إلى انطلاق عصر النهضة والتجديد في أوربا وأمريكا.
ولا تنحصر أهمية نظرية الصادق في قضية انعكاس الضوء من الأجسام إلى العين، ولا بالإشارة إلى إمكانية رؤية الأجسام البعيدة بتقريب ضوئها إلينا فقط، لأن الإمام الصادق قد أشار إلى حركة الضوء وأنها سريعة جداً كلمح البصر.
وقد روي عن الإمام الصادق قوله في بعض دروسه أن الضوء القوي الساطع يستطيع تحريك الأجسام الثقيلة وان النور الذي ظهر لموسى على جبل الطور كان من شأنه أن حرّك الجبل بل وجعله دكاً وخر موسى صعقا .
ومن مؤدى هذه الرواية أن الإمام الصادق تنبأ بأساس نظرية (أشعة الليزر).
إن الذي قاله الإمام الصادق (ع) عن الضوء وحركته يتفق تماماً مع ما أثبته البحث العلمي المعاصر، وغاية ما في الأمر أن العلم الحديث قاس سرعة الضوء ـ وهي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة ـ ولكن هذا المقياس لا يجدي في قياس المسافات الفلكية الشاسعة في الدراسات الفضائية) .
مصدر علوم الإمام الصادق عند علماء الغرب:
أوردنا قبل قليل تساؤلاً طرحه علماء الغرب عن مصدر علوم الإمام الصادق(ع)، وأنه هل كان للإمام علم باطني (غيبي) أو لدني كما تقول الشيعة؟ وهل استنبط نظرياته بعلم الإمامة دون العلم البشري؟
وإذ يصعب عليهم الإقرار بهذا لأنه بعيد جداً عن أذهانهم ومناهجهم، فقد رأيناهم يردون علم الإمام الصادق إلى النبوغ والذكاء والعبقرية الفريدة تارة، وإلى ما تلقاه من العلوم المنقولة عن الأمم السابقة والتي كانت محل اهتمام وعناية مدرسة أبيه الإمام محمد الباقر(ع) تارة أخرى.
إنهم يقولون: (وفي رأينا أنه من العسير التوصل إلى مثل هذه الحقائق العلمية دون مختبرات علمية عصرية، ولكن هذا هو ما تناهى إليه علم الصادق قبل اثني عشر قرناً، ولا غرو، فالعباقرة أقدر من سواهم على استنباط ما تعجز عنه العقول، لأن عيونهم تخترق الظلمات وترى ما لا يراه غيرهم من المبصرين.
وثمة نظرية مؤداها أن المعارف والمعلومات كامنة في الشعور الباطني للناس جميعاً، ولكن هناك حجاباً يحول دون إدراك الشعور الظاهري لما هو كامن في الشعور الباطني غير المحدود، فإن استعصى على الإنسان العادي أن ينتفع بهذه الذخيرة المدخرة في باطنه، فإن العباقرة قادرون على النفاذ إلى الباطن واستنباط ما هو مدّخر فيه من معلومات ومعارف كامنة.
وقد ذهب الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون إلى القول بأن الإنسان يكتشف كل مجهول بفهمه الخاص إذ كانت لديه اندفاعة حياة، وإن حظ العباقرة من هذه الاندفاعة أكبر من حظوظ سواهم. ويرى أن الذرى وجدت منذ بدء الخليقة واجتمعت فيها جميع المعلومات المختلفة، فأحرى بخلايا الجسم الموجودة في الكائن الحي أن تنطوي على جميع المعلومات الخاصة بهذا العالم منذ بداية الخليقة وإلى يومنا هذا.
وإذا كان العلماء قد أطلقوا على الإحساس الداخلي اسم (الشعور الباطني أو الغيبي) فإن الفيلسوف برجسون قد سماه (اندفاعة الحياة) وكان يقول أن النوابغ يتميزون عن غيرهم بأن لهم حظاً من اندفاعة الحياة تزيد على حظوظ غيرهم وأنهم أقدر من سواهم على الاستفادة من ذاكرة خلايا أجسامهم.
ففي رأي الشيعة إذن أن الإمام الصادق كان يرى بعلم الإمامة، أما القائلون بالشعور الباطني غير المحدود فيقولون أنه انتفع بهذا الشعور، في حين أن برجسون يرى أن الصادق كان يتمتع باندفاعة قوية للحياة) .
ونحن لا نرى أي تعارض بين هذه الآراء الثلاثة عن مصدر معلومات الإمام الصادق(ع)، فإن العبقرية والنبوغ المؤديين إلى القدرة على الاستمداد من الشعور الداخلي أو التمتع باندفاعة قوية للحياة وبالتالي الاستفادة من ذاكرة خلايا أجسامهم، لا يمكن أن يكونا كافيين لنفي الاستفادة كذلك من علم الإمامة أو ما نسميه العلم اللدني خصوصاً بعد ثبوت هذا العلم لمن شاء الله سبحانه وتعالى من الأنبياء والأولياء.
وقد قال تعالى: (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) الكهف:
وكذلك فإن العلم اللدني لا ينفي الاستفادة من الشعور الباطني أو من ذاكرة خلايا الجسم.
ويبقى السبق للإمام الصادق (ع) في كافة هذه العلوم بحيث كان المنارة التي شعت منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري – القرن السابع الميلادي – لتذكي فتيل النهضة العلمية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولتلفت أنظار علماء الغرب إلى ذلك العبقري الفريد الذي تمتع بنبوغ متميز لم يسبقه سابق قبله بألف عام ولم يلحقه لاحق بعده خلال ألف عام، ذلك هو الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع).