ولئن كان مجدا لمالك أن يكون أكبر أشياخ الشافعي ، أو مجدا للشافعي أن يكون أكبر أساتذة ابن حنبل ، أو مجدا للتلميذين أن يتلمذا لشيخيهما هذين، إن التلمذة للإمام الصادق قد سربلت بالمجد فقه المذاهب الأربعة لأهل السنة. أما الإمام الصادق فمجده لا يقبل الزيادة ولا النقصان .
فالإمام مبلغ للناس، كافة، علم جده عليه الصلاة والسلام. والإمامة مرتبته. وتلمذة أئمة السنة له تشوف منهم لمقاربة صاحب المرتبة”، عبد الحليم الجندي [1] .
يقرر المستشار الدكتور عبد الحليم الجندي ببلاغته الأدبية حكمه كفقيه قانوني، ولا يريد من هذا الحكم غمط حق أحد من أئمة المذاهب الإسلامية، وهو صاحب المؤلفات التي قدمت كلا منهم بروح حريصة على إبراز روح طلب الحق والتواضع للعلم والشهادة للحق في تقديم الإسلام الجامع.
وقال الشيخ محمد أبو زهرة:” ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم كما أجمعوا على فضل الإمام الصادق وعلمه، فأئمة السنة الذين عاصروه تلقوا عنه وأخذوا، أخذ عنه مالك ابن أنس (رضي الله عنه)، وأخذت عنه طبقة مالك: كسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وغيرهما كثير، وأخذ عنه أبو حنيفة مع تقاربهما في السن واعتبره أعلم الناس؛ لأنه أعلم الناس باختلاف الناس، وقد تلقى عليه رواة الحديث طائفة كبيرة من التابعين، منهم يحيى بن سعيد الأنصاري وأيوب السختياني وأبان بن تغلب وأبو عمرو بن العلاء وغيرهم من أئمة التابعين في الفقه والحديث. وذلك فوق الذين رووا عنه من تابعي التابعين ومن جاء بعدهم والأئمة المجتهدين الذين أشرنا إلى بعضهم”[2].
وبعيدا عن إثبات التلمذة بمعناها الأكاديمي فإن القارئ المتتبع لسيرة الإمام جعفر بن محمد الصادق في عصره ومع معاصريه من فرق ومذاهب وحركات وأعلام يجد أن ليس من مبالغة في الكلام أن يكون من تتلمذ في مجالسه تسعمائة في رواية أو أربعة آلاف في رواية أخرى ، سواء من شيعته أو من غيرهم بما يعم حتى أرباب الدعوات والحركات الرافضة للإسلام إذا لاحظنا مجالستهم له أو مجالسته لهم وحواراتهم المنتجة.
يجري التفريق بين الفرقة والمذهب بحصر عنوان الفرقة بالجماعة ذات الرأي في المسائل العقائدية فقط دون غيرها من المسائل، بينما تسمى الجماعة التي تمتلك إضافة إلى رأيها في المسألة العقائدية رؤية سياسية وفقهية مذهباً، وإن كانت الأدبيات الإسلامية عموما تظهِّر الجانب الفقهي في المذهب فذلك من باب التغليب لأحد العوامل الثلاثة التي يمكن معها عد المذهب إسلاميا بينما يمكن إخراج بعض الفرق من عنوان الإسلام وإن كانت نشأتها في المجتمع الإسلامي كالراوندية التي تفرعت عن الخرّمية، وقد خرجت الراوندية على أبي جعفر المنصور بعدما كانوا يؤلهونه ، وذلك في سنة 141 هـ أي قبل وفاة الإمام عليه السلام بسبع سنوات.
هذه المقدمة ضرورية لتتبع آثار الإمام الصادق عليه السلام وتأثيره في ما عاصره من أطروحات، حيث نقرأ في ما أثبته غير المسلمين الشيعة له مع رؤسائهم تدخله كلما رأى ضرورة لتصويب الاتجاهات؛ وهو المقصود من القول بالتأسيس.
المعتزلة هي أشهر الفرق على أن لها موقفها السياسي وقد كتب كبارها في الفقه وأصوله، لكنها لم تحظ بالانتشار والإستمرار فيهما بقدر اشتهارها بمواقفها الكلامية والسياسية، وممن عاصر الإمام الصادق عليه السلام وكان له معه حواران شهيران في مسألة الكبائر وفي مسألة الخروج على الخليفة شيخهم عمرو بن عبيد (الولادة : ٨٠ هجرية – الوفاة : 143 هجرية). وقد سبقتها أقوال القدرية ومن أعلامهم غيلان الدمشقي (توفي ١٠٦ هجرية) والمرجئة ومن أعلامهم الجهم بن صفوان الترمذي (الولادة : ٧٨ هجري – الوفاة : ١٢٨ هجرية).
الزيدية والمالكية والحنفية هي المذاهب التي يمكن الكلام عن حضور أئمتها في حياة الإمام الصادق عليه السلام واستمرت بعده فيما انحسر غيرها كمذهب الأوزاعي والليث بن سعدلأسباب عديدة، أما الشافعي وتلميذه أحمد ابن حنبل فقد تأخرا عنه لكنهما تأثرا بالإمام مالك وكانت لهما مواقف تظهر تقديرهما له.
يمكن استقراء منهج الإمام الصادق عليه السلام في توجيه الذين كانوا يعتقدون بفضله وعلمه دون إمامته باصطلاحنا في محاوراتهم معه ، وخلاصة منهجه كانت الرد إلى القرآن الكريم والصحيح من سيرة النبي صلى الله عليه وآله ومقارنة أقوال الفقهاء.
بيان منهجه مع الزيدية والمعتزلة في السياسة والكلام:
ذكر المؤرخون أن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكان إماماً ثانياً بعد يحيى بن زيد وقد ذكر الشهرستاني أنّ يحي أوصى إليه ، كان مرشح أبيه ومرشح المعتزلة للخلافة بعد قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك إثر خلاعته ومجانته عام ۱۲٦ هـ، وقد جرى عرض الأمر على الإمام الصادق من الطرفين في مجلسين مستقلين: الأول خاص ببني هاشم دُعي إليه الإمام حيث جمع عبد اللّه بن الحسن بني هاشم وألقى فيهم خطبة ودعاهم إلى ابنه نقلها وما دار في المجلس أبو الفرج الاَصفهاني في كتابه[3] ، والمجلس الثاني عندما قدم عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد، وواصل بن عطا، وحفص ابن سالم، وأناس من رؤوسائهم[4]، ونظرا لضيق المساحة أترك للقارئ مراجعتها مكتفيا بإيراد بيانه عليه السلام للكبائر في جوابه لشيخ المعتزلة من كتاب مناقب ابن شهرآشوب: دخل عمرو بن عبيد على الصادق عليه السلام وقرأ ” إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ” وقال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله فقال: نعم يا عمرو ثم فصله بأن الكبائر الشرك بالله ” إن الله لا يغفر أن يشرك به ” واليأس ” ولا تيأسوا من روح الله ” وعقوق الوالدين لان العاق جبار شقي ” وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ” وقتل النفس ” ومن يقتل مؤمنا متعمدا ” وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم ” إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ” والفرار من الزحف ” ومن يولهم يومئذ دبره ” وأكل الربا ” الذين يأكلون الربا ” والسحر ” ولقد علموا لمن اشتريه ” والزناء ” ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ” واليمين الغموس ” إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا ” والغلول ” ومن يغلل يأت بما غل ” ومنع الزكاة ” يوم يحمى عليها في نار جهنم ” وشهادة الزور وكتمان الشهادة . ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ” وشرب الخمر لقوله عليه السلام:
شارب الخمر كعابد وثن، وترك الصلاة لقوله: من ترك الصلاة متعمدا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله، ونقض العهد وقطيعة الرحم ” الذين ينقضون عهد الله ” وقول الزور ” واجتنبوا قول الزور ” والجرأة على الله ” أفأمنوا مكر الله ” وكفران النعمة ” ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ” وبخس الكيل والوزن ” ويل للمطففين ” واللواط ” الذين يجتنبون كبائر الاثم ” والبدعة قوله عليه السلام من تبسم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه.