﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
الإمام علي عليه السلام وعشق الشهادة:
من دروس الإسلام العظيمة درسٌ علّمنا إياه أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن عاشه في حياته، ووصل إلى غايته، ألا وهو عشق الشهادة والسير في دربها.
فقد انتهت معركة بدر بعد أن قَتَل الإمام علي عليه السلام نصف عدد قتلى المشركين وشارك في النصف الآخر، لكنّه بقيّ حيّاً تسطع من جبهته علامة النصر، ومضت معركة أُحد، وبقي الإمام علي عليه السلام المدافع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أصابته ثمانون جراحة حيث كانت الفتائل في جسده تدخل من موضع وتخرج من آخر، لكنّه لم يستشهد، فشقَّ ذلك عليه، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مفتخراً: “بأبي أنت وأمي، الحمد لله الذي لم يَرَني ولَّيْتُ عنك، ولا فررت، بأبي وأمي، كيف حرمت الشهادة؟!”
فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: “أبشر، فإنّ الشهادة من ورائك”.
وبقي الإمام علي عليه السلام ينتظر ذلك اليوم، وتأتي معركة الجهاد الأخرى، ويبقى عليه السلام دون شهادة، فيذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مذكّراً: “يا رسول الله، أوليس قد قلتَ لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين، وحيزت عنِّي الشهادة، فشقَّ ذلك عليَّ فقلت لي: أبشر فإن الشهادة من ورائك؟! فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن ذلك كذلك، فكيف صبرك إذاً”؟ فأجاب الإمام عليه السلام: “يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر .
وكانت الشهادة عنوان الدعاء لأمير المؤمنين عليه السلام وقت الحرب، فمن دعائه عليه السلام لمّا عزم على حرب صفّين: “اللهم ربَّ السقف المرفوع…. إن أظهرتنا على عدونا، فجنِّبنا البغي وسدِّدنا للحق. وإن أظهرتهم علين، فارزقنا الشهادة، واعصمنا من الفتنة “.
وكانت الشهادة خاتمة رسائله دعاءً منه لله تعالى:
ففي ختام كتابه لمالك الأشتر لما ولاّه على مصر: “…وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم مواهبه وقدرته على إعطاء كل رغبة…أن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة “.
وكان أمير المؤمنين عليه السلام يتحسّر على فقدان إخوانه وعشّاق الشهادة في صفّين أمثال عمّار رضوان الله عليه، فكان عليه السلام يقول: “… ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم بصفّين ألاّ يكونوا اليوم أحياء… أين إخواني الذين ركبوا الطريق، ومضوا على الحقّ!… الذين تعاقدوا على المنية… ” .
وكان عليه السلام حينما ينظر إلى أولئك الذين خذلوه يقول: “فوالله، لولا طمعي عند لقاء عدّوي في الشهادة، وتوطيني نفسي عند ذلك، لأحببت ألاَّ أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً “.
وكان يحرِّض الناس على القتال قائلاً: “أيّها الناس، إنَّ الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيد ولا محيص، من لم يقتل مات، إنّ أفضل الموت القتل، والذي نفس عليٍّ بيده، لألفُ ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على الفراش”
وكان الإمام عليه السلام ينتظر ساعة شهادته باشتياق، وكان في مرضه الشديد عارفاً بأنّه لن يؤدّي إلى موته، لأنّه كان ينتظر وعد الشهادة، لذا أجاب أبا فضالة حين خاف عليه الموت من مرضٍ ألمّ به: “يا أبا فضالة، أخبرني حبيبي وابن عمي صلى الله عليه وآله وسلم: أنّي لا أموت حتى أؤمَّر، ولا أموت حتى أقتل، ولا أموت حتى يخضّب هذه من هذه بالدم، وضرب بيده إلى لحيته وإلى هامته – قضاء وعهداً معهوداً إليَّ وقد خاب من افترى”.
وجاء وقت الشهادة
وكان الإمام علي عليه السلام ينتظر شهر رمضان الذي يعلم أنّه شهر شهادته، وكيف لا؟! وهو يتذكّر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن ارتكاب محارم الله عزّ وجل، ثمّ بكى صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له علي عليه السلام ما يبكيك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي، أبكي لما يُستحلُّ منك في هذا الشهر”
وكان الإمام علي عليه السلام ينتظر تلك الليلة المباركة التي سيصلّي في فجرها صلاةً كم كان قد انتظرها! إنَّها تلك الصلاة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “كأنّي بك وأنت تصلي لربّك، وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك، فخضّب منها لحيتك”.
وعرف أمير المؤمنين تلك الليلة، وخرج إلى المسجد مستبشراً. لقد أبت مسيرة الإمام علي عليه السلام إلا أن يكون المسجد مبتدأ ولادته ومنتهى شهادته. لقد دخل عليه السلام الصلاة هائماً في الله، وحينما شعر بضربة الشهادة على رأسه كانت كلمته التي عبّر فيها عن نتيجة كلّ ذلك العشق للشهادة، فقال عليه السلام:”فزت وربّ الكعبة”وقال بعدها: “والله ما فاجأني من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت إلا كقارب ورد، وطالب وجد”.
خصال الشهداء
تُرى لِمَ كلّ هذا الحب من أمير المؤمنين للشهادة والسعي إليها؟
إنّ جواب ذلك يكمن في قوله تعالى ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِه).
إنّ حال الشهيد بعد قتله ليس سباتاً وركود، بل هو في حياة حقيقية فيها الرزق المتجدّد من فضل الله تعالى.
ماذا يُرزقون؟
عن الإمام الصادق عليه السلام: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: للشهيد سبع خصال من الله:
الأولى: أول قطرة من دمه مغفور له كلّ ذنب.
والثانية: يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه فتقولان: مرحبا بك ويقول هو مثل ذلك لهما.
والثالثة: يكسى من كساء الجنة.
والرابعة: يبتدره خزنة الجنة من كل ريح طيبة، أيّهم يأخذ منه.
والخامسة: أن يرى منزله.
والسادسة: يقال لروحه: اسرح في الجنة حيث شئت.
والسابعة: أن ينظر في وجه الله، وإنّها لراحة لكلِّ نبيٍّ وشهيد”.
﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾
إنّ قول الله تعالى هذا يعني:
1- أنّ هؤلاء الشهداء تأتيهم أخبار خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا.
2- استمرار الأخوّة والتفكير بالجماعة، فالموقف في البرزخ بعيد عن الأنانية.
﴿أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
سئل أمير المؤمنين عن قوله تعالى ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون) ، من هم هؤلاء الأولياء. فأجاب عليه السلام: “هم قوم أخلصوا لله تعالى في عبادته، ونظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، فعرفوا آجلها، حين غرّ الناس سواهم بعاجلها، فتركوا منها ما علموا أنّه سيتركهم، وأماتوا منها ما علموا أنّه سيميتهم”.
ممّ يخاف الإنسان؟ الجواب أنّ سبب خوفه أحد أمرين: إمّا من محذور يخاف وقوعه وهو بعد لم يقع، أو من نعم يخاف زوالها.
مما يحزن الإنسان؟ الجواب من محذور وقع، مثل فقد الولد، وخسارة المال.
بناءً عليه، فإنّ الشهداء في مقامهم البرزخي لا خوف ولا حزن، فلا خوف، لأنَّ النعم دائمة، ولا حزن على فقده، لأن ﴿وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾.
﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون)
رغم كلّ الحفاوة السابقة بالشهداء، والنعم الكبيرة المغدقة عليهم، فإنهم يستبشرون بنعمة آتية تتحقق من مشهد يوم القيامة.
لعلّها نعمة الشفاعة التي تحدّث عنها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله الوارد عنه: “ثلاثة يشفعون إلى الله، فيشفّعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء” .
ولعلّها نعمة الموقف الذي لو رآهم فيه الأنبياء عليهم السلام لترجّلوا.
ولعلّه نعمة اللقاء مع الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم والأوصياء عليهم السلام…
أعرفت معنى قول رسول الله: “ما من نفس تموت لها عند الله خير يسّرها أنّها ترجع إلى الدنيا، ولا أنّ لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد، فإنّه يتمنى أن يرجع، فيقتل في الدنيا، لما يرى من فضل الشهادة”.