يعد أمير المؤمنين الإمام علي ( عليه السلام ) أول خليفة يزور البصرة وقد تركت زيارته آثاراً بعيدة المدى في البصرة رغم قصر الفترة والظروف المعقدة التي أحاطت بخلافته .
أولا : الموقف السياسي :
لم تلاق السياسة التي اتبعها الامام علي ( عليه السلام ) قبولاً لدى طلحة والزيبر ، فخرجا من المدينة الى مكة بعد بيعتهما للامام علي ( عليه السلام ) بعد ان سمعا بالموقف السلبي للسيدة عائشة من الامام علي ( عليه السلام ) ، ومن هناك تحركا صوب البصرة ، حيث تمت لهم السيطرة التامة عليها ، لذا عد الامام علي ( عليه السلام ) خروج طلحة والزبير نكثاً للبيعة ، لكنه أثر الامساك عن حربهم أولاً ، قائلاً : « وسأمسك الامر ما أستمسك ، واذا لم أجد بداً فآجر الدواء الكي » .
اي امسك نفسي عن محاربة هؤلاء ما أمكنني ، وأدفع الايام بمراسلتهم ، وتخويفهم وإنذارهم ، وأجتهد في ردهم الى الطاعة ترغيباً وترهيباً ، فإذا لم أجد بداً من الحرب ، فآخر الدواء الكي ، أي الحرب ، فهي الغاية التي اليها ينتهي أمر الخارجين .
ثم وجد ان الواجب الشرعي يحتم عليه استخدام القوة لأرجاعهم الى الطريق الصحيح حيث يقول : « فما وجدتني يسعني الا قتالهم او الجحود بما جاء به محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فكانت معالجة القتال اهون من معالجة العقاب ، وموتات الدنيا أهون علي من موتات الآخرة » .
والملاحظ ان الامام علياً ( عليه السلام ) لا يستند في قتاله على شرعة حكمه بل على أحاديث تنسب للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنه سيقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين وهذا من دلائل نبوته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأنه أخبار صريح بالغيب ، لا يحتمل التويه ولا التدليس ، كما تحتمله الاخبار المجملة .
فأضطر الامام علي ( عليه السلام ) للخروج الى البصرة دعياً أهل الكوفة للخروج معه ، وبعد وصوله للبصرة دخل في مفاوضات مع طلحة والزبير لم تسفر الا عن حالة الحرب ، والتي انتهت بمقتل طلحة في ساحة المعركة ، فيما خرج الزبير من المعركة فأغتاله ـ ابن جر موز ـ في وادي السباع ، وبعد ذلك القى أهل الجمل السلاح ، وتمت أعادة السيدة عائشة الى المدينة .
هذا الحدث التاريخي المهم في تاريخ المسلمين ، كان فاتحة للحروب الاهلية في الاسلام ، اذ كان لخروج طلحة والزبير أمر مألوف مسبقاً عند المسلمين لذا كان من الصعب اتخاذ موقف بصددهم ، وهنا يقول الامام علي ( عليه السلام ) : « فأني فقأت عين الفتنة ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري بعد ان ماج غيهبها ، وأشتد كلبها » .
لأن الناس قبل معركة الجمل كانوا يهابون قتال اهل القبلة ، ولا يعلمون كيف يقاتلونهم ؟ هل يتبعون موليهم ام لا ؟ وهل يجهزون على جريحهم ام لا ؟ وكيف يتعاملون مع غنائمهم ؟ وكانوا يتعظمون قتال من يؤذن بأذان المسلمين ، ويصلي بصلاتهم ، وكذلك أستعظموا حرب أم المؤمنين وطلحة والزبير ، لمكانهم في الاسلام ، وتوقف جماعتهم عن الدخول في هذه الحرب ، كالاحنف بن قيس وغيره ، فلو لا ان الامام علي ( عليه السلام ) اتجترأ على سل السيف ما اقدم أحد على الحرب .
حيث قال ( عليه السلام ) : « قد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة ، ولا يحمل هذا العلم الا البصر والصبر والعلم بمواقع الحق ، فأمضوا لما تؤمرون به ، وقفوا عندما تنهون عنه ، ولا تجعلوا في أمر حتى تتبينوا فأن لنا مع كل امر تنكر ونه غيره » .
فهنا يشير الامام لهيبة الناس من قتال اهل القبلة ، حتى ان الامام الشافعي يقول : ( لو لا علي لما عرف شيء من احكام البغي ) ، وأكد الامام علي ( عليه السلام ) ان مثل هذا الحال لا يعرف مواقع العمل به الا من خصه الله بالبصيرة والعلم ، ولذا قال ( عليه السلام ) : « لو لم اك فيكم لما قوتل اهل الجمل واهل النهروان » ، ولم يذكر اهل صفين وذلك لان الشبهة كانت في اهل الجمل ظاهرة الالتباس فأم المؤمنين زوجة رسول الله ، وحال طلحة والزيبر في السبق والجهاد معروفة ، وكان اهل النهروان في حالة من العبادة والزهد ، وهم قرّاء العراق ، في حين كان معاوية مشهوراً بقلة الدين وكذاك من ناصره وهو عمر بن العاص ، ومن تابعهم من اهل الشام واعرابهم فؤلئك كان حالهم معروفاً في الانحراف فلا يستحرمون قتالهم .
أما عن موقف الامام بعد المعركة ، فالمعروف ان الزبير خرج منها اثر احتجاج الامام عليه ، فأتبعه ـ ابن جرموز ـ فاغتاله وجاء برأس وسيف الزبير للامام علي ( عليه السلام ) ، وادرك الامام ان ابن جرموز لم يقتل الزبير مبارزة وإنما غدراً حيث قال له : « والله ما كان ابن صفية جباناً ولا لئيماً ، ولكن الحين ومصارع السوء » ، ثم أخذ سيف الزبير وقال : « سيف طالما جلا به الكرب عن وجه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) » فقال ابن جرموز : الجائزة يا أمير المؤمنين ! فقال ( عليه السلام ) : « أما اني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : بشر قاتل ابن صفية بالنار » ، فخرج ابن ججرموز خائباً ، وقتل في النهروان مارقاً .
اما طلحة فقد قتل في ساحة المعركة ، واتهم مروان ابن الحكم بقتله ، بل كان مروان يصرخ بذلك ، حيث لما ضعف اصحاب الجمل قال مروان : ( لا اطلب ثأر عثمان من طلحة بعد اليوم ! فأنتحى له بسهم فأصاب ساقه ) .
أما بالنسبة لأم المؤمنين فقد اوكل امير المومنين ( عليه السلام ) أمرها لاخيها محمد بن ابي بكر ، ثم أعادها الى المدينة بصحبة اربعين من نساء بني عبد القيس ، اما عن باقي الناس فقد ( إتفقت الرواة على انه ( عليه السلام ) قبض ماوجد في المعسكر من سلاح ودابة ، ومملوك وتاع وعروض فقسمه بين أصحابه ، وأنهم قالوا له : أقسم بيننا اهل البصرة فأجعلهم رقيقاً ، فقال : لا ، فقالوا : فكيف تحل لنا دمائهم وتحرم سبيهم ! فقال : كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في هجرة والاسلام ، أما ما اجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم ، واما ما اورت الدور وأغلقت عليه الابواب فهو لاهله ، ولا نصيب لكم في شيء منه ، فلما اكثروا عليه قال : فاقرعوا على عائشة لادفعها الى من تصبيه القرعة ! فقالوا : نستغفر الله يا أمير المؤمنين ، ثم أنصرفوا ) .
ثانياً : قبلة المسجد :
وكان من بين اصلاحات الامام علي ( عليه السلام ) في البصرة انه قام بتصحيح اتجاه قبلة المسجد لانها كانت منحرفة عام 36 هـ .
ثالثاً : الجانب العلمي :
تنامت الحركة الثقافية في مسجد البصرة بعد زيارة الامام علي ( عليه السلام ) للبصرة سنة 36 هـ ، حيث القي عدد من الخطب في هذا المسجد وأجاب على الكثير من الاسئلة المتنوعة ، فبعد انتهاء وقعة الجمل رقى منبر مسجد البصرة قائلاً : يا أهل البصرة . . . أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول تفتح ارض يقال لها البصرة أقوم ارض الله قبلة قارئها اقرأ الناس وعابدها اعبد الناس .
إن الامام ( عليه السلام ) سبق الفلكيين في التوصل لبعض المسائل الفلكية ، كاشارته الى ان منطقة الابلة هي ابعد موضع في الارض عن السماء ، فقد جاء في خطبه له عن البصرة انها : « بعيد عن السماء » إن الامام يشير الى ما توصل اليه علماء الفلك في أن ابعد موضع في الارض عن السماء هو « الابلة » ، ومعنى البعد هنا ، هو بعد تلك الارض المخصوصة عن دائرة معدل النهار والبقاع ، والبلاد تختلف في ذلك ، أكد ابن ابي الحديد إن الالآت الفلكية الارصاد دلت على ان ابعد ارض في المعمورة عن دائرة معدل النهار هو الابلة ، ان الاشارة اعلاه تعد من خصائص امير المؤمنين ( عليه السلام ) لانه اخبر عن أمر لا تعرفه العرب ، ولا تهتدي اليه ، وهو أمر خاص بالمدققين من الحكماء ، لذا عدت هذه الاشارة من اسراره وغرائبه البديعة .
تجدر الاشارة ان للجاحظ تحليل للنملة ربما اخذ فكرته نم الامام وزاد في تحليله ، حيث تحدث ( عليه السلام ) عن النملة واصفاً اليها : « انظروا الى النملة في صغر جثتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ الصبر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبت على الارض ، وصبت على رزقها ، تنقل الحبة الى جحرها ، وتعدها في مستقرها ، تجمع في حرها الى بردها ، وفي وردها لمصدرها ، مكفول برزقها ، مرزوقة بوقتها ، لا يغفلها المنان ، ولا يحرمها الديان ، ولو في الصفا اليابس ، والجحر الجامس ، ولو فكرت في مجاري اكلها ، وفي علوها وسفلها ، وما في الجوف ، ومن شرا بطنها ، وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً ، ولقيت من وصفها تعباً » .
وقد جاء في كلام الامام ( عليه السلام ) اشارة مستقبلية تنبأ بها ، إذ ان كلامه ( عليه السلام ) « داخل في باب المعجزات المحمدية لاشتمالها في الاخبار الغيبية وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية » ، فكان ( عليه السلام ) يخبر عن امتلاكه المعرفة بحوادث ومستقبل الايام إذ يقول : « فأسألوني قبل ان تفقدوني ، فولذي نفسي بيده لا تسالوني عن شيء في ما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مئة الا أنبئتكم بناعقها ، وقائدها وسائقها ، ومناج ركبها ، ومحط رحلها ، ومن يقتل من اهلها قتلاً ، ومن يموت منهم موتاً ، ولو فقدتموني ونزلت بكم كرائه الامور وحوازب الخطوب لاطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسؤلين » .
وقال ايضاً : « والله لو شئت ان اخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ، ولكن أخاف ان تكفروا في برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولذلك اضطر ( عليه السلام ) الى ان يبلغه فقط الى ( الخاصة ممن يؤمن من ذلك منه ) وكان ( عليه السلام ) يكيل العلم كيلاً بلا ثمن ، ولكنه لا يجد حملة لهذا العلم » .
فلما وقع مروان بن الحكم اسيراً في الجمل وجيء به الى امير المؤمنين ليبايع رفض الامام بيعته واصفاً يده بأنها كف يهودية أي إنه سينقض البيعة ، ونبأ ( عليه السلام ) لوصول مروان بن الحكم الى تولي الحكم اذ يقول ( عليه السلام ) : « يحمل راية ضلالة بعدما يشيب صدغاه ، وان له أمرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الاكبش الاربعة ، وستلقى الامة منه ومن ولده يوماً احمر » .
إن ما أشار اليه الامام ( عليه السلام ) قد وقع ، فمران وصل للحكم بعد ان بلغ الخامسة والستين ، وقد فسر البعض ( الاكبش الاربعة ) بأولاد عبد الملك الاربعة واللذين تولوا الخلافة ( الوليد وسليمان ويزيد وهشام ) في ما يرى ابن ابي الحديد ان الاكبش الاربعة هم اولاد مروان لصلبه وهو عبد الملك ، وعبد العزيز وبشر ومحمد ، حيث تولى عبد الملك الخلافة ، واما عبد العزيز فتولى مصر ، فيما تولى بشر العراق ، في حين تولى محمد اقليم الجزيرة .
وفي كلامه ( عليه السلام ) للاحنف بن قيس اشار لبعض ما سيجري في البصرة ، ومنها اشارته الى ظهور حركة الزنج « يا أحنف ، كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب ، ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل ، يثرون الارض باقدامهم كأنها اقدام النعام » ، أشار الشريف الرضي : إن الامام يقصد بذلك حركة الزنج التي ظهرت في العصر العباسي ( 255 ـ 270 ) ، وقد ترك ظهورها آثار سلبية على مدينة البصرة حيث يقول الامام : « ويل لسككم العامرة ، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور ! وخراطيم كخراطيم الفيلة ، من ؤلئك الذين لا يندب قتيلهم ، ولا يفقد غائبهم » .
وتنبأ ( عليه السلام ) بفتن تترك آثار سلبية على مدينة البصرة إذ يقول : « فتن كقطع الليل المظلم ، لا تقوم لها قائمة ، ولا ترد لها راية ، تأتيكم من زمومة مرحولة يحفزها قائدها ، وجندها راكبها ، اهلها قوم شديد كلبهم ، قليل سلبهم ، يجاهدهم في الله قوم اذلة على المتكبرين ، في الارض مجهولون ، وفي السماء معروفون فويل لك يا بصرة عند ذلك من جيش من نقم الله ! لا رهج له ولا حكس ، وسيبتلى اهلك بالموت الاحمر ، والجوع الاغبر » .
وقد اخلفت الآراء في طبيعة هذا الجيش ، ورأى البعض ان الامام يقصد به حركة الزنج ، ولكن ابن ابي الحديد لا يرى ذلك ، لان جيش الزنج كان ذا حس ورهج خلاف ما وصفه الامام اعلاه ، ولانه انذر البصرة بهذا الجيش عند حدوث تلك الفتن حيث لم يكن قبل خروج صتاحب الزنج فتن شديدة على الصقات التي ذكرها الامام ( عليه السلام ) .
وقد تنبأ ( عليه السلام ) بظهور التتار بقوله : « كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة ، يلبسون السرق والديباج ، ويعتقبون الخيل العتاق ، وكون هناك استحرار قتل حتى يمشي امجروح على المقتول ويكون المفلت اقل من المأسور » ، قال اين ابي الحديد : ( واعلم ان هذا الغيب الذي اخبر ( عليه السلام ) عنه قد رأيناه نحن عياناً ، ووقع في زماننا ، وكان الناس ينتظرونه من اول الاسلام ، حتى ساقه القضاء والقدر الى عصرنا وهم التتار ) .
وقد استنتج ابن ابي الحديد من اول كلام الامام « ويكون هناك استحرار قتل » ان الامام اتى بالكاف ، حيث اذا وقعت عقيب الاشارة افادة البعد ، فنقول للقريب هنا ، ولبعيد هناك كما هو في لغة العرب اذ لو كان لهم استحرار قتل في العراق فلا يقول : هناك ، بل المفروض انه يقول : هنا ، لانه ( عليه السلام ) خطب خطبته هذه في البصرة وهي بغداد ضمن بلد واحد وهو العراق ، وعلق قائلاً : ( فليلحح هذا الموضوع فأنه لطيف ) .
إن ابن ابي الحديد كان وقت احاطت المغول لبغداد يكتب شرح نهج البلاغة ، وقد لاحظ ان جند بغداد قد حققوا بعض الانتصارات على المغول مما ادى لانسحاب المغول عن بغداد قبيل عام 649 هـ وهي السنة التي انتهى بها من تاليفه لشرح نهج البلاغة ، وقد تناسى ابن ابي الحديد ان بغداد ايام الامام لم تكن موجودة ، وانه لا يمكن استخدام ضمير الاشارة القريب لمكان يبعد حوالي 600 كم عن البصرة .
وتنبأ ( عليه السلام ) لغرق مدينة البصرة بقوله : « كأني انظر الى قرتكم هذه قد طبقها الماء ، حتى ما يرى منها الا شرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر » ، قال ابن ابي الحديد في شرحه : ( اما اخباره ( عليه السلام ) ان البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها ، فقد رأيت من يذكر ان كتب الملاحم تدل على ان البصرة تهلك بالماء الاسود ينفجر من ارضها فتغرق ويبقى مسجدها ، والصحيح ان المخبر به قد وقع ، فإن البصرة غرقت مرتين ، مرة في أيام القادر بالله ، ومرة في ايام القائم بأمر الله غرقت بأجمعها ولم يبق منها الا مسجدها الجامع بارزاً بعضه كجؤجؤ الطائر ، حسب ما أخبر به امير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وجائها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس ، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام ، وخربت دورها ، وغرق كل ما في ضمنها ، وهلك كثير من اهلها واخبار هذين الغرقين معروفة عند اهل البصرة ، يتناقلها خلفهم من سلفهم ) .
وفي هذا المسجد علم الامام علي ( عليه السلام ) كميل بن زياد دعاء كميل المشهور والذي يستحب قراءته ليلة النصف من شعبان وليالي الجمعة .
ولما اراد الامام الانصراف من البصرة عين عليها عبدالله بن عباس المعروف بفقهه حيث اخذ يلقي دروس في الفقه والتفسير والاخبار في مسجد البصرة حيث تخرج على يديه كبار التابعين وتشكلت نواة مدارس في الفقه والتفسير والاخبار والكلام ، فمن اهم المهام التي اضطلع بها مسجد البصرة القضايا الثقافية حيث صار اشبه بجامعة مصغرة يجتمع فيها الاساتذة من مختلف الاختصاصات مع طلبتهم ، حيث تتشكل حلقات عدة ، فحلقة للنحو حيث عرفت البصرة بمدرستها النحوية فعلم النحو من علوم اللغة العربية التي ابتدعها الامام ( عليه السلام ) حيث املى على ابي الاسود الدؤلي جوامعه واصوله التي منها : الكلام على ثلاث اقسام : اسم وفعل وحرف .
والكلمة : اما منكرة او معرفة ، وتقسيم وجوه الاعراب من حيث الرفع والنصب الجر والجزم ، ان هذه الامام ( يكاد يلحق بالمعجزات لان القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر ، ولا تنهض بهذا الاستنباط ) ، وحلقة لتدريس اللغة ، واخرى للكلام والقضايا الفلسفية ، وحلقة للتفسير ، ومن بين تلك الحلقات حلقة الاصمعي ، والحسن البصري ، ووائل بن عطاء ، وقتادة السدوسي ، ولا يعني هذا ان هذه الحلقات مقتصرة على اهالي البصرة ، بل ان شهرة علماء البصرة دفعت طلبة العلم الى المجيء اليها والتزود من علمائها .
وبجانب هذه الحلقات كانت حلقة عمرو بن ابي العلاء والخليل الفراهيدي الذي وصف بأنه مفتاح العلوم ومعرفتها ويونس بن حبيب ، اما الاصمعي فكانت حلقته في اللغة والاخبار ، وبالاضافة الى حلقات الدرس كانت تعقد المناظرات وادت بعض من هذه المناظرات لايجاد اتجاهات فكرية جديد كالمناظرة بين الحسن البصري وتلميذه ابو الحسن الاشعري والتي ادت لنشوء مذهب الاشاعرة في علم الكلام ، استمر هذا المسجد كجامعة مصغرة يستقبل طلبة العلم من مختلف ارجاء العالم الاسلامي حتى نشأ من بعضهم اساطين من اختصاصات مختلفة فيعودوا الى بلادهم .
الاصلاح الاقتصادي :
عثر الاثريون على نوعين من الدراهم ضربا في عهد الامام علي ( عليه السلام ) اولها مضروب في مدينة الري سنة 37 هـ / 657 م وقد نقشت عليه العبارة ( ولي الله ) ، الا انها مضروبة على الطراز الساساني ولكنها تعد الاولى من نوعها التي تظهر عليها القاب الخلفاء ، أما النوع الثاني فقد عثر على درهم ضرب في مدينة البصرة سنة 40 هـ / 660 م ، اذ تحتفظ المكتبة الموطنية بباريس بدرهم عربي يعود لسنة 40 هـ ، وقد نشره ( لا فوكس ) سنة 1887 م وقد نقشت عليها العبارات الآتية :
مركز الوجه :
لا اله الا الله وحده لا شريك له ، اما الطوق فنقش عليه بسم الله ضرب هذا الدرهم سنة اربعين ، في حين نقش على مركز الظهر : الله احد الله الصمد لم يلدولم يولد ولم يكن له كفواً احد ، وعلى طوق الظهر : محمد رسول الله ارسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، والملاحظ على كلمات هذا الدرهم انها بدون تشكيل او اعجام .
لقد اشار الى هذا الدرهم جودت باشا بقوله ( ان المسلم عند اهل العلم ان الذي احدث ابتداء ضرب السكة العربية هو الحجاج بامر عبد الملك ، حينما كان والياً على العراق من قبله ( 75 ـ 76 ) ، ولكن ظهر خلاف هذا عند الكشف الجديد في سنة 1276 هـ وذلك ان رجلاً ايرانياً اسمه جواد اتى دار السعادة بسكة فضية عربية ، ضربت في البصرة سنة 40 من الهجرة ، والفقير قد رأيتها بين المسكوكات القديمة عند صبحي بك افندي مكتوب على احد وجهيها بالخط الكوفي ( اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) وفي دورتها : محمد رسول الله ( الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) وعلى الوجه الآخر ( لا اله الا الله وحده لا شريك له ) وفي دوريتها : ( ضرب هذا الدرهم بالبصرة سنة 40 ) .
وقد انتقد الرحالة الشيخ محمد امين بن الشيخ حسن الحلواني المدني ما جاء لدى جرجي زيدان القائل : ( ولم تضرب النقود الفضية في الاسلام حتى ايام الخليفة عبد الملك ) ، فقال الحلواني : ( لم يثبت في الرواية الصحيحة ان احداً من الخلفاء الاربعة ضرب سكة اصلاً الا علي بن ابي طالب ، فأنه ضرب الدراهم على ما نقله صبحي باشا الموردلي في رسالة له رسم فيها صورة ذلك الدرهم وعزا الى لسان الدين بن الخطيب في الاحاطة ) .
واشار لهذا الدرهم ايضاً صاحب كتاب وفيات الاسلاف بقوله : ( . . . وفي درهم بالخط الكوفي بجانب منها ( اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) وف يدورته محمد رسول الله ( أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) وف يالجتانب الآخر ( لا اله الا الله وحد لا شريك له ) وفي دورته ( ضرب هذا لادرهم في البصرة سنة اربعين ) ) ، وقال الكتابي : ( وبمكتبتنا في قسم النقود دراهم مكتوبة بالكوفي عليها : لا اله الا الله محمد رسول الله ، وفي أخر الكتابة اسم علي يقطع نظر المتأمل فيها وفي كتابتها ونقشها القديم انها لعلي بن ابي طالب ( رضي الله عنه ) ) .
ولقد اثار هذا الدرهم نقاشاً بين المختصين في دراسة النقود بين رافض له ومؤيد ، إذ عد المستشرق ( جون ووكر ) ان الرقم هو ابع وتسعين وليس اربعين ، الا ان الملاحظ ان المسافة الموجودة فيها كلمة اربعين لا تتسع لكلمتين ، اما المستشرق الامريكي جورج مايلز فقد عد الرقم تسعين وليس اربعين ، في ما قال النقشبندي : ( قد يحدث الخطأ في تأريخ الضرب من العمال الذين يحفرون السكك ، فالدرهم رقم ( أ ) ضرب في البصرة سنة أربعين على الطراز الاسلامي الخالص لفت انظار العلماء ، إذ لم يعثروا على نسخة أخرى ضربت بهذا التاريخ ، ولذا فقد اعتبر العلماء سنة اربعين يقصد بها سنة تسعين حدث في حفرها الخطأ فكسرت السكة ) ، وقد نفى السيد محمد مهدي الخرسان ذلك لعدم وجود تشابه بين رقمي 40 و 90 .
اما الاتجاه الثاني فقد ايد صحة هذا الدرهم إذ جاء في دائرة المعارف البريطانية ما نصه : ( ان اول من أمر بضرب السكة الاسلامية ان يصدر نقوداً لا تحمل صوراً . . . ان العملة المنقوشة التي اصدرها علي وعليها تاريخ سنة 40 هـ لم تعد الآن موضعاً للشك ) ، وذهب الى ذلك أيضاً موريس لومبارد .
اذن تبين ان امير المؤمنين ( عليه السلام ) هو اول من ضرب النقود العربية الاسلامية ، ولكن لنا ان نتساءل عن السبب الذي دعا الامام ( عليه السلام ) لضرب النقود ؟ ولمذا ضرب الدرهم فقط ؟ ولماذا في البصرة ؟ وهل استمر ضرب هذه النقود بعد الامام ( عليه السلام ) ؟
ان الاجابة تكمن في الظرف السياسي الذي احاط بخلافة الامام ( عليه السلام ) حيث منذ البدء واجه الامام ( عليه السلام ) عدم الاعتراف بالخلافته ، اذ كان للموقف السلبي لأم المؤمنين عائشة ضده ( عليه السلام ) أثر في اتخاذها مقتل الخليفة عثمان ورقة سياسية ضد الامام ( عليه السلام ) ، إذ قادة جموع مبغضيه ( عليه السلام ) وممن لم يكن لديه معرفة بحقيقة الامام ( عليه السلام ) ممن دخل الاسلام بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث كان الامام قد ابعد عن الساحة السياسية ، فكانت وقعة الجمل الاليمة فاتحة الحروب الاهلية في الاسلام .
ثم تلا ذلك تحدي والي الشام المتمرد معاوية بن ابي سفيان الذي استفاد من حرب أم المؤمنين وطلحة والزبير للامام مضافاً لورقة مقتل الخليفة عثمان فكانت معركة صفين سنة 37 هـ ، وما افرزته من ويلاة حيث كانت سبباً لخروج الخواج ، ولم يكتف معاوية بذلك بل اخذ يمد سلطانه على المدن التابعة لساطة الامام ( عليه السلام ) ، وتواطئ مع عمرو بن العاص حيث انتزعا مصر من سلطة الامام ( عليه السلام ) ، ثم اخذ يرسل غاراته على المدن التابعة لسلطة الامام ( عليه السلام ) ، ومن اهمها ارسالها لواليه المتطرف بسر بن ابي ارطأة الذي اربك الوضع الامني في مكة والمدينة واليمن ، ثم شجع معاوية تمرداً في خرسان بذل زيادج ابن ابيه والي الامام جهوداً للقضاء عليه .
ان مثل هكذا وضع جعل بلاد الامام تشهد شحة في كميات النقد لذا قام الامام ( عليه السلام ) بضرب عملات نقدية من الدراهم ، ومع ان الخليفتين عمر وعثمان قد ضربا نقوداً ايضاً لكنها على الطراز الاجنبي ، أما الامام فضرب نقوداً عربية اسلامية وخالية من أي طراز اجنبي ، ولما كانت بلاد العراق معتادة على التعامل بالدرهم لذا جاء ضرب الامام للدرهم في البصرة من هذا الباب ، الا ان هذا لا يعني ان الامام ( عليه السلام ) لم يضرب الدنانير وربما يأتي يوم يكشف لنا ذلك .
ولم يتضح ان الامام ضرب النقد في البصرة لما قدمها اثر أصحاب الجمل ؟ ام ضرب النقد في سائر البلاد الا ان هذه النقود لم تصلنا ، وإنما وصل لنا درهم واحد من هذه الدراهم كانت قد ضربت منه كميات في البصرة والارجح إن الامام ضرب نقوداً في الكوفة البصرة واليمن والري ـ كما مر بنا ـ الا ان هذه النقود لم تصلنا ، ووصل فقط درهم ضرب في البصرة سنة 40 هـ مضافاً للدرهم العلوي في اليمن ، والدرهم الذي وصلنا من الري منقوشاً عليه عبارة ( ولي الله ) .
إن هذا الاصلاح الاقتصادي الكبير انتهى كومضة برق اذ بعد استشهاد الامام ووصول الامر لمعاوية فإنه بذل جهوداً مكثفة من اجل اسدال الستار على كل ما هو علوي اذ اتخذ سلسلة من الاجراءات من بينها البراءة من الامام علي ( عليه السلام ) وضطهاد اصحابه وتقريب خصومه ، ثم جاءت المرحلة الاخيرة حيث شكل معاوية لجنة لاغتيال فضائل لخصوم الامام علي مقابل فضائله ( عليه السلام ) وأفتعال مثالب له ( عليه السلام ) ، وبهذا نخلص للقول ان الامام علي ( عليه السلام ) هو اول من ضرب نقداً عربياً في مدينة البصرة خال من اي اشارات اجنبية .