الغَيبة والظُهور
إنّ الحَديثَ حولَ كلّ واحدٍ من الاَئمةِ الاثني عشر خارجٌ عن نِطاق هذا البحث المختصر، وإنّما تجدر الاِشارة إلى مسألة أُخرى وهي: مسألة الاِعتقاد بوجود إمام العَصْر الذي يقضي أيامَ حياته خَلف ستار الغيبة، ريثما يأذنُ الله له بالظهور فيملأ الاَرضَ قسطاً وعَدلاً بعد أن مُلِئتْ ظُلماً وجَوراً، ويقيمَ حكومَة الله على المعمورة جمعاء، وفيما يلي بعضُ النقاط حول هذه المسألة.
ظهور مصلح عالمي في آخر الزمان
إنّ ظهورَ رجلٍ من أهل بَيت الرِّسالة لاِقامة حكومة الله العادلة العالَميّة في مُستقبل الحياةِ البَشريّة (بَعد أن تُملاََ الاَرضُ ظلماً وجَوراً) مِن مُسَلَّماتِ العقائِدِ الاِسلامية التي اتّفقَ عليها جمهورُ المُسْلمين، ونقلوا في هذا المجال أحاديث بَلَغَتْ حَدَّ التواتر.
فهناك طبق بعض إحصاءات أهلِ التحقيقِ من العُلَماء حوالي 657 حديثاً حول هذه المسألة، نذكر منها حديثاً واحداً رواه “أحمدُ بن حنبل” في مسنده:
قالَ النَبيُّ صلى الله عليه واله وسلم: “لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنيْا إلاّ يومٌ واحِدٌ لَطَوَّل اللهُ ذلك اليومَ حَتّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِي فَيَمْلاَُها عَدْلاً وقِسطاً كما مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْر”.
وعلى هذا الاأساس يكونُ قيامُ رَجُلٍ من أهلِ البيت النَبَويّ وظَهورُهُ في آخِر الزمان موضعَ اتفاقٍ بين المسلمين شيعةً وسنةً.
المصلح العالمي هو الاِمام المهدي عجل الله فرجه الشريف
لقد جاءَت خصوصياتُ هذا المصلِحِ العالَميّ في الرّوايات الاِسلامية نَقَلها الفريقان، وهي على النحو التالي:
1- أنّه من أهل بيت النبي6 389 رواية.
2- أنّه من أولاد الاِمام علي عليه السلام 214 رواية.
3- أنّه من أولاد فاطمة الزهراء 3 192 رواية.
4- أنّه تاسع وُلد الحسين عليه السلام 148 رواية.
5- أنّه من أولاد الاِمام علي بن الحسين عليه السلام 185 رواية.
6- أنّه ابن الاِمام الحسن العسكري 146 رواية.
7- أنّه الثاني عشر من أئِمة أهل البيت 136 رواية.
8- الرّوايات التي تتحدّث عن ولادته 214 رواية.
9- الرّوايات التي تقول: إنّه يعمّر طويلاً، 318 رواية.
10- الرّوايات التي تقول: إنّ غيبته ستكون طويلة، 91 رواية.
11- الرّوايات التي تقول: إنّ الاِسلام سيصير عالمياً عند ظهوره، 27 رواية.
12- الرّوايات التي تقول: إنّ الاَرض ستُملاَُ عَدلاً وقِسطاً عند ظهوره، 132 رواية.
وعلى هذا الاأساس فإنّ وجود مثل هذا المصلح العالمي في مستقبل البَشَرية أمر مقطوعٌ به ومسلَّمٌ من حيث الرّوايات والاَحاديث الاِسلامية بحيث لا يمكن الشكّ أو التشكيك فيه.
وأما ما وَقَعَ الخلافُ فيه فهو ولادته، وأنّه هل وُلِدَ هذا الرَّجُل من أُمّه ولا يزال منذُ ولادَته حَيّاً، أم أنّه سيولد في المستقبل؟.
يذهب الشِيعة وفريقٌ من أهل التحقيق من أهل السُّنّة إلى الرأي الاَوّل، فيعتقدون بَأنّ الاِمامَ المهديّ وُلدِ من أُمّه (نرجس) عام 255 هـ وهو لا يزال حَيّاً إلى هذا اليوم.
وذهَبَ فريقٌ من أهلِ السّنة إلى أنّه سيُولَد فيما بعد.
وحيث إنّنا نحن الشيعة نعتقدُ بأنّ الاِمامَ المهديَّ عليه السلام وُلِدَ عام 255 هجرية، وهو لا يزال على قيد الحياة إلى هذه الساعة، لهذا لابدّ من أن نذكّر بنقاط حول غيبته وطول عمره في هذا البحث في حدود ما يسعُه هذا المختصرُ.
الاِمام المهدي وليّ إلهيّ غائب عن الاَنظار
إنّ أولياءَ اللهِ حَسْب نَظَر القرآن على نوعين:
وَليٌّ ظاهرٌ يعرفُه الناسُ، ووَليٌّ غائَبٌ عن أنظارِ الناس لا يعرفُه أحدٌ منهم، وإن كان يعيشُ بينَهم، ويعرفُ هو أحوالَهُمْ وأخبارهم.
وقد ذُكر في سورة الكَهف كلا النوعين منَ الاَولياء في مكانٍ واحدٍ أحدهما “موسى بن عمران” والآخر مصاحبُهُ ورفيقهُ المؤقّت، الذي صحِبَه في سَفَره البرّي والبَحْري، ويُعْرَف بالخِضر.
إنّ هذا الوليّ الاِلَهيَّ كانَ بِحَيْث لم يعرفُه مصاحِبهُ ومرافِقُه النبيُّ موسى وإنّما صاحَبَه ورافقه بتعليمٍ وأَمرٍ من الله، واستفاد من عِلمه خلال مرافَقَته إيّاه كما يقول تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا ءاتَيْناهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْناهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ ممَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ (الكهف:65 ـ 66).
ثم إنّ القرآنَ الكريم يُقَدّم شرحاً مفصّلاً عمّا فَعَله هذا الوليُّ الاِلَهيّ من أعمال مفيدة، ذلك الذي لم يكن أحدٌ حتى النبي موسىعليه السلام يَعرفهُ، ولكن كانوا يَستفيدون من آثار وجوده المبارك ومن أفعاله المفيدة.
إنَّ الاِمامَ المهديّ عَجَّل الله فَرَجَه الشَّريفَ على غرارِ مرافق موسىعليه السلام، وليٌّ غيرُ معروف للنّاس مع أنّه في نفس الوقت منشأ لآثار طيبة للاَُمّة، أي لا يعرفهُ أحَدٌ منهم مع أنّهم يَستَفيدون مِن بركات وجودهِ الشريف.
وبهذا لا تكونُ غيبةُ الاِمام المهَديّ عجّل الله فرجَه الشريفَ بمعنى الاِنفصال عن المجتمع، بل هو كما جاءَ في روايات المعصومين: كذلك مثل “الشَمس خَلفَ السَحاب لا تُرى عينُها، ولكنها تبعَث الدفءَ والنورَ إلى الاَرض وساكِنِيها”.
هذا مضافاً إلى أنّ فريقاً من الاَبرار والطيّبين الاَتقياء الذين كانوا يَتمتّعون باللياقة والاَهليّة للتشرّف بِلقاءِ الاِمام المهديّ قد رأوه وَالتَقَوْا به واستفادوا مِن إرشاداته، وعُلُومِه، واسْتفادَ الآخرون من هذا الطريق، من آثارهِ المباركة وبركات وجوده الشريف.
وكلاء الاِمام المهدي عجل الله فرجه الشريف
إنّ الطَّريقة المتعارَفة والمَعْمُول بها بين البشر ماضياً وحاضراً هو أنّ الحاكمَ والقائد يقوم ببعض الاَعمال بنفسه مباشرةً، ويقومُ بالبعض الآخر وكلاؤُهُ ونوّابه.
صحيح أنّ عِلَلاً مختَلِفَة تَسَبَّبت في غيبة الاِمامِ المَهْدي عجّل الله فَرَجَه الشريف فحُرِمت البشريةُ من الاستفادة المباشرة من ذلك الاِمام، ولكنه ولحسن الحظ لم يُغلَقْ بابُ الاستفادة من وُكَلائه ونوّابه وهم الفقهاء العُدول الاَتقياء في وجه أتباعه، ومريديه.
فالفقهاء والمجتهدون الاَجلّة كانوا ولا يَزالون نُوّابَ الاِمامِ المهديّ الذين أوكَلَ أمرَ بَيان الاَُمورِ الشَرعية والحكوميَّة وإدارة شؤون المجتمع الاإسلامي في عصر الغيبة إليهم.
هذا مع العلم بأنّ حرمان الاَُمّة الاِسلامية من آثار حضور الاِمام المهدي كان لعلل وظروف خاصة جَعَلت غيبتَه أمراً لا مناص منه.
غيبة بعض الأنبياء والأولياء في الاَُمم السابقة
إنّ علّة غَيبة الاِمام المَهديّ عَجّل الله فرجَه الشريفُ هي من الاأسرار الاِلَهيّة التي لا نستطِع الوقوف على حقيقتها وكنهها، كما أنّ لهذه الغَيبة المؤقتة نظائر في حياة أولياء الله السابقين والاُّمم السابقة.
فقد غابَ النبيُّ موسى الكليمُعليه السلام عن أُمّته أربعين يوماً، وقضى كلَّ هذه المدة في الميقات.
وغاب السيدُ المسيح عليه السلام بمشيئة الله عن أنظار أُمّته، فلم يقدر أعداؤُه على قَتْله، والقضاء عليه.
وغاب النبيُّ يونس عليه السلام عن قومه مدّةً من الزَمان.
إذن فليست غيبةُ الاِمام المهَدي عليه السلام عن أنظار الناس بدعاً من الاََمر كما لا يصحّ أن تَقَعَ هذه الغَيبة مهما طالت ذريعةً لاِنكار أصل وجودِ المهَديّ عليه السلام.
وأساساً إنّ كلَّ ما يثبُتُ عن طريق النقل المتواتر، ولكن لا يقدر الاِنسان على التحقّق منه، ومشاهدته لا يجوز له أن ينكره أو يتردّد في القبول به مادام رُوِيَ ونُقِلَ بالتّواتر الموجب للاطمئنان، لاَنّ قِسماً من الاَحكام الاِلَهيّة التي هي من مسلّمات الدين الاِسلاميّ وضروريّاته سيتعرَّض للتردِيد والاِنكار إذا تجاهَلْنا هذه القاعدةَ العقلائيةَ الصائبةَ، وهذا الاَمر العرفي المعقول جداً.
وغيبةُ الاِمام المهديّ عجل الله فرجَه الشريف ليس بمستثنىً من هذه القاعدة، وعَدَم الاِطلاع على سِرّها أو أسرارها الحقيقية لا يجوزُ الترديدُ فيها، وإنكارُها.
ومع ذلك فإنّنا يجب أن نقول: إنّه من الممكن إدراك سرّ الغيبة هذه في حدود فكرِنا البشريَّ وهذا السِرّ هو ما يلي:
حيث إنّ آخرَ حُجَّةٍ من حَجَج الله وآخر إمامٍ من أئِمة أهلِ البيت قد أرادَ اللهُ تعالى أن يُحقّق به الاَُمنيةَ الكبرى (وهي بسط العدل والقسط ورفع راية التوحيد على كل ربوع الاَرض) وهذه الاَُمنية الكبرى وهذا الهدف العظيم لا يمكن أن يَتحقق إلاّ بعد مرور ردح من الزمان، وإلاّ بعد تكاملِ العقلِ البَشَريّ وتهيّؤهِ الروحيِّ والنفسِيّ لذلك، حتى يستقبلَ العالَمُ بشوقٍ ورغبةٍ موكبَ الاإمام والمصلح العالميّ، موكبَ العَدلِ والحريّةِ والسلامِ، لهذا فإنّ منَ الطبيعيّ أنّ هذا الاِمام لو ظَهَرَ بين النّاس، وعاشَ بين ظهرانيِّهم قبلَ نُضُوج الاَمر، وحصولِ المقدّمات اللازِمة، والاَرضيّة المناسبة، كان مَصيرُه ومآلهُ، مصيرَ من سَبَقه من آبائِه من الاَئمِةِ الكرامِ البرَرَة (أي الشهادة)، ولَقُتل عليه السلام قبل أن يتحقّق ذلك الهدفُ العظيم، وتلك الاَُمنِيّة الكبرى على يديه.
ولقد أُشير إلى هذه الحكمة في بعض الرّوايات الصادِرةِ عن أهل البَيْت: أيضاً.
فقد رُوي عن الاِمام الباقرعليه السلام أنّه قال: “إنّ لِلْقائِمِ غَيْبَةً قَبْلَ ظُهُورِهِ”.
يقول الراوي: قلتُ: ولِمَ؟
فقالَ الاِمامُ الباقر: “يَخافُ (أي القتل)”.
أي منعاً من أن يُقتَل قبل تحقّق الهدفِ المنتظَرَ مِنه.
وَرُبّما ذُكِرَ وجهٌ آخر لغيبته في بعض الرّوايات وهي إختبارُ النّاس وتمحيصُهم، وامتحانهم، يعني أنّ الناس يُختَبَرون في عَصر الغَيبة، ويمرُّون بالاِمتحان الاِلَهيّ، ويُعرَفُ مدى ثباتهِم على طريق الاِيمان، ومدى استقامَتهِم في طريق الاِيمان والعقيدة.
وجود الاِمام المعصوم لطف إلهي في حضوره وغيابه
إنّ البراهينَ الكلاميَّة ترى أنّ وجودَ الاِمام المعصوم في المجتمع، وحضورَه بين الناس لُطفٌ من ألطاف الله الكبرى لكونه سبباً لِهداية الناس.
ومِنَ البديهيّ أنّ النّاسَ إذا رَحَّبوا بهذا المظهر البارِزِ مِن مظاهر اللُطفِ الاِلَهيّ واستقبلوه، والتفّوا حولَه، انتفَعوا بآثار وجوده المباركة.
وإلاّ حُرِموا من الاِستفادة الكامِلَة والانتفاع التامّ من نعمة وجوده الشريف.
وفي هذه الحالة لا يكونُ السبب في هذا الحِرمان إلاّ الناس أنفسُهم، لا الله ولا الاِمام.
الاِمام المهدي وطول العمر
لقد وُلِدَ الاِمامُ المهديّ عجّل الله فرجَه الشَريف عام 255 هجرية، وعلى هذا الأساس يكونُ عُمرُه الآن (عام 1418 هـ) قد تجاوَزَ أحَدَ عشر قرناً.
إنّ الاِذعان بهذا العُمُر الطَويل جداً، مع أخذ القُدرة الاِلَهيّة المطلقة بعين الاِعتبار ليس أمراً مشكلاً.
وفي الحقيقة إنّ الذين يَعتَبروُن طولَ عُمُر الاِمام المهَديّ عليه السلام مشكلةً في طريق الاِيمان بوجوده، ومانعاً من القول بولادته، يَغْفَلُون عن قدرة الله اللاّمتناهية فهم كمن قالَ عنهم سبحانه: ﴿وَما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ﴾ (الاَنعام:91).
هذا مضافاً إلى أنّ في الاَُمَم السالِفة معمَّرين كثيرين عاشوا طويلاً ذكرهم القرآن الكريم.
فقد ذكَر أن نوحاً عاشَ في قومه ألفَ سنة إلاّ خمسين عاماً .
كما أنّ العِلم البشريّ الحديث يسعى في عَصرِنا إلى أنْ يُحِلّ مشكلة طولِ العُمُرِ، بالاَساليبِ الِعلميّة، والصِحّية.
وهذا يُفيد أنَّ الاِنسان يمكن في نظر العُلَماء أن يَعيشَ طويلاً بعد رَفْع الموانِعِ الّتي تحول دونَ العُمُر الطويل.
إنّ اللهَ قادرٌ على إطالة عُمُر من يُريد إلى يوم القيامة إذا شاء، أليسَ هو القائل بأن يونس لو لم يكن من المسبّحين لَلَبِث في بَطن الحوتِ إلى يَومِ الدِّين.
ألا يَستَطيع هذا الاِلَهُ الخالقُ القادر أن يُطيلَ عُمُرَ حُجَّته البالِغَة، وخَلِيفَتِهِ الحقّ بِلُطْفِهِ وعِنايَتِهِ؟
الجوابُ هو: نعم.
علائم ظهور الاِمام المهدي عجل الله فرجه الشريف
لا يعرف أحدٌ بَوْقت ظهور الاِمام المهدي قط، فهذه الحقيقة من الاأسرارِ الاإلَهيّة، مثل مَوعد يومِ القيامة، الذي لا يَعرفُ بِهِ أحدٌ إلاّ الله وحده.
ولهذا يجب أن لا يُصدَّقُ زعمُ من يَدّعي أنّه يَعْلَمُ بوقتِ ظهورِ الاِمام المهديّ، أو يعيّنَ وَقتاً، ويضرب أجلاً معيّناً لذلك، (كَذِبَ الَوقّاتُون)، ولو أنّنا تجاوَزْنا مَسألة توقيت ظهور الاِمام المهديّ عليه السلام، وَجَبَ أنْ نقولَ: إنّ الروايات ذَكَرَتْ علائمَ كُليَّةً لِظهورِ الاِمامِ المهديّ وهي تَنْقَسِمُ إلى نَوعين:
1. العلائم الحَتمية القَطعيّة.
2. العلائم غير الحتمية.