عند متابعة تعاليم الإسلام؛ تستوقفنا محطة تعتبر القسم الأكبر منه وهي تنظيم العلائق الاجتماعية بين الناس، ووضع الأُسسٍ المتينة والقواعد الرصينة لها، وهذا يدل على أنّ هذه العلاقة بذاتها لها قيمةٌ رفيعة في الشريعة الإسلامية.
وعند قراءة تاريخ المعصومين من الأنبياء والأوصياء ع نلحظ أنهم أفضل من مثل الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة في علاقاتهم مع الناس، وكانوا القدوة الانموذجية والأسوة الحسنة التي ترجمت اجتماعيا جميع أسس ومرتكزات وقواعد الشخصية الإسلامية ذات البعد الاجتماعي الجذاب والفاعل والمستقيم ، قال تعالى :﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ الأنعام : ٩٠
وعند التوقف في محطة التسامح نلحظه من السلوكيات الرائعة التي تمثلها المعصومون ع في حياتهم، وتعاملاتهم مع الناس، وقد جُمعَت فيه غُرر من مكارم الأخلاق ، فالأصلُ فيه مِن الحلم، وفَرعُه من العفو، وذُروته من الصفح والغفران، وسنامه من الإحسان، وما بين ذلك من كَظْم الغيظ ما يحبّه الله لعباده ويرضاه.
قال تعالى :﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ ال عمران : ١٣٣ _ ١٣٤
وهو مفهوم أخلاقي اجتماعي له أهمية كبيرة في تحقيق وحدة وتماسك المجتمعات؛ والقضاء على الخلافات بين الأفراد والجماعات، والتسامح يعني احترام ثقافة وعقيدة وقيم الآخرين، وهو ركيزة أساسية للعدل والحريات الإنسانية العامة.
وللتسامح آليّاته التنفيذيّة التي ينتج عنها فعل قُدرةٍ بحيث يستر المرء القادر الفعل القبيح أو الكلام المسيء الذي صدر بحقّه ممّن هو تحت قدرته، فيعمَد إلى الحِلْم والصَّفح والغفران والإحسان “التسامح”، من مُنطلق القوّة والاقتدار على المـُسيء المُذنِب.
يقول الشاعر :
تسامحُ النفس معنىً من مروءتها …
بل المروءةُ في أسمى معانيها
تخلقِ الصفحَ تسعدْ في الحياةِ به …
فالنفسُ يسِعدُها خلقٌ ويشقيها
مع ملاحظة وجود اتجاه من التسامح غير محبذ ، ويعتبر من النوع المذموم لأنه يخرج عن فلسفة وابعاد هذا الخلق ، لان التسامح لا يعني _ والحال هذه _ اللين والمـُدارة والمـُداهنة والمذلة التي ينتج عنها إعطاء الدنيّة في الدين.
من آثار التسامح الفردية والاجتماعية :
___________________
١ _ إنّ التعامل بخلق التسامح و العفو يمكن أن يؤثر إيجابيا في نفس الشخص المقابل وان كان عدوّا لدودا ، وقد يحوله إلى صديق حميم ، وخاصّة إذا سلك المتسامح طريق الحسنة مقابل السيئة ، قال تعالى : ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ فصلت : ٣٤
٢ – إنّ تمثل خلق التسامح سلوكا اجتماعيا مع الناس يثمر زيادة في عزّة الشخص المتسامح ، وتقوية مكانته الاجتماعية ، لأنّ ذلك علامة على قوّة الشخصية وسمو النفس وسعة الصدر ، روي عن النبي صلى الله عليه وآله : ( عَلَيكُم بِالعَفوِ، فَإِنَّ العَفوَ لا يَزيدُ إِلاّ عَّزاً ) الكافي، ج٢، ص ١٠٨ .
ورأيتك النفس الكبيرة لم تكن
حتى على من قاتلوك حقودا
3 – إشاعة ثقافة التسامح والعفو عامل مهم من عوامل تحقيق الأمن الاجتماعي ، والاستقرار المجتمعي ، لأن التسامح والعفو والصفح بمثابة المحطّة الأخيرة التي تقف عندها كلّ السلوكيات الذميمة، و الانفعالات الانتقامية ، فالتسامح يوقف سلسلة الحوادث اللأخلاقية في واقع الناس من الحقد والكراهية والبغضاء والقساوة ، والتي تؤدي إلى نشوب نزاعات بين طائفتين أو قبيلتين أو جماعتين ، و تسفك في ذلك كثير من الدماء ، وتدمّر كثير من الطاقات والأموال.
وهذا ما نحتاجه اليوم في عشائرنا وقبائلنا ، والمعول في ذلك على ذوي الدين والمروءة والتعقل والحكمة .
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله : ( تَعـافُوا تَسقُطُ الضِّغـائِنُ بَينَكُم ) المتقي الهندي، كنز العمال، ج٣، ص٣٧٣
ومسك الختام…
لا نريد أن نغفل عن الآثار الأخروية للتسامح والعفو فهي كثيرة ، منها ما روي عن أمير المؤمنين ع : ( العَفوُ مَعَ القُدرَةِ جُنَّةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ سُبحـانَهُ ) غرر الحكم .
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
______
الشيخ عمار الشتيلي
النجف الاشرف
٢٠ ربيع ١_ ١٤٤٢ هج