ونحن نقترب يوماً بعد يوم إلى ذكرى شهادة السيدة الزهراء روحي فداها في الرواية الثانية، بدأت تتزاحم مواكب التشييع الرمزي لنعش سيدة نساء العالمين (ع) جهاراً نهاراً في كل محافظاتنا العزيزة في عراقنا الحبيب بدءاً من يوم السبت الـ ١٠ من جمادى الأولى، وبنظرة ملؤها الدموع الجارية إلى ذلك النعش الرمزي الذي حجبت صاحبته (عليها السلام) الأمة انئذ عن حمل صورته الحقيقية، ولم ترض لأحد في وقتها ممن ظلموها، وممن سكتوا عن ظلامتها، وممن طبعوا العلاقات مع ظالميها أن يسيروا خلفه، ومنعت وبكل ثبات على الموقف الشرعي والسياسي والعقدي أي صورة للحضور الرسمي والشعبي في مراسيم تشييعها إلى مستودع القبر الشريف.
نستعرض بعض الكلمات التي تترجم لنا بعض الإيحاءات الروحية الصادقة، وبعض القيم الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية _ وبإيجاز _ التي تختزنها صورة الأعواد المحمولة على أكف المعزين الذين أذنت لهم بضعة النبوة (ع) أن يشيعوا نعشها ويحيوا ذكراها.
فالتشييع الرمزي للنعش الفاطمي يعتبر:
1. هوية ثقافية:
كل طائفة وكل فرقة وكل جماعة في العالم؛ ومهما كانت ظروفها وتوجهاتها وثقافتها؛ لها مناسبات وفعاليات وتجمعات سنوية وموسمية، تبذل لأجل إقامتها كل ما تملك من إمكانات اقتصادية وإعلامية، وتحشد لها الجماهير من كل حدب وصوب، وتعبر من خلالها وفي إعلامها عن تمسكها بهويتها الثقافية والحضارية، وهذا في حقيقته يكشف عن سلوك إنساني متحضر، حتى تبقى الأجيال المتعاقبة تتمسك بهويتها، وتفتخر بعمق انتمائها لتاريخها، وتتجذر عندها حالة التواصل مع ماضي أسلافها بكل ما يحمله من عطاء وفداء، والمشيعون لنعش السيدة الزهراء (ع) ليسوا بدعا من بقية البشر، بل إنهم في تشييعهم ينطلقون من هوية ثقافية صورتها الإسلام بكل معطياته الحضارية التي تساير كل جيل، وتسهم في بناء مرتكزاته الفكرية والثقافية والقيمية.
2 . هوية دينية:
كل جماعة وكل طائفة في أية دولة من دول العالم؛ يحق لها وبضمانات عقلائية و دستورية؛ أن تعبر عن انتمائها العقائدي والديني والقيمي بما تراه مناسباً من فعاليات على اختلاف أشكالها، في كل زمان ومكان، بل وتصر على كشف هويتها الدينية، واستعراض أصواتها في صندوق إثبات الوجود الديني غير القابل للتنازل أو المساومة أو التغيير، وهكذا يصنع في التشييع الرمزي الفاطمي، حيث ينطلق محبو سيدة النساء (ع) وموالوها وشيعتها في مسيرتهم الدينية الولائية الراجلة، ومن ثوابت إلهية من وحي الثقلين:
قال تعالى: “ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ” [1]
روي عن الإمام الصادق (ع): “أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا “[2]
3 . هوية قلب:
من أبجديات السلوك الإنساني والحضاري هو التعبير عن حالة الحب الذي تختزنه القلوب المخلصة التي تنجذب تجاه شخص معين، وهذا التعبير يترجم من خلال سلسلة أخلاقيات عالية المضامين؛ تتضمن الإكرام والاحترام والصلة والإنصاف والتواصل بمختلف أشكاله، وهذا ما يوصف قرآنياً أنه (مودة) وهو ما طلبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الأمة الإسلامية تجاه أهل بيته (ع)، قال تعالى: [قل لا اسالكم عليه اجرا الا المودة في القربى] [3]
فالمشيعون السائرون خلف النعش الرمزي بمشاعر مخلصة وبقلوب متصدعة على ماجرى على الزكية المرضية (ع)، هم يعبرون بذلك عن حالة المودة تجاه بضعة النبي (صلى الله عليه وآله)، َويكرمون نبيهم عليه الصلاة والسلام بإكرامها وإعلاء شأنها، ورفع الظلامة عنها.
4 . هوية علم:
المشيعون للنعش الرمزي كثير منهم من أهل العلم والمعرفة من المراجع الإعلام والعلماء وذوي الفضيلة، ومن حملة الشهادات العليا الجامعية، ومن أصحاب التاريخ السامق في العطاء العلمي، إضافة إلى إعلاميين وكتاب، ومن مختلف طبقات المجتمع من جهة شرائحه العلمية، فالتشييع الفاطمي مسيرة حضارية تتلاقح فيها الأفكار، وتنصهر فيها الأفهام من كل الشرائح المثقفة في بودقة مصدر من مصادر الشريعة الموصى بها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
[إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض] [4]، وهي السيدة المعصومة الكبرى (ع)، وهذا يعبر عن عمق الانتماء المعرفي للمصادر العلمية الأمينة والموثوقة، ويكشف أن الهوية العلمية لهذا المذهب الشريف رصينة، وأتباعه متمسكون بمبانيه وثابتون على أسسه بالدليل الصحيح والمتين.
السلام عليك يا بهجة قلب المصطفى
وروحه التي بين جنبيه
______
الهامش :
[1] الحج : 32
[2]بحار الأنوار، المجلسي، ج٢ص٣٠
[3] الشورى : 23
[4] الوسائل ، الحر العاملي، ج27ص34
____
الشيخ عمار الشتيلي
٩ جمادى الأولى ١٤٤٥ هج
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية