تُعَدُّ مسألة تحديد الأعلم في الفقه من القضايا المحورية التي تشغل العقل الاجتهادي في المنظومة الإسلامية الشيعية، وذلك لأن منصب المرجعية لا يتحدد فقط بالكفاءة العلمية الآنية، بل هو عملية ديناميكية متغيرة تعتمد على معايير علمية دقيقة، منها التمرس والتجربة المستمرة في ممارسة الاجتهاد الفقهي.
وهذا ما يجعل الأعلمية مفهوماً متغيراً وليس رتبة ثابتة مدى الحياة، حيث قد يكون فقيهٌ ما الأعلم في زمان معين، لكنه مع مرور الزمن قد يفقد هذا الامتياز لغيره ممّن تجاوزوه في التمرس والتجربة الفقهية.
1. الفقاهة بين التنظير والتطبيق: ضرورة التمرس
إن الفقه لا يقتصر على تنظيم الفتاوى في رسالة عملية، بل هو عملية فكرية مستمرة تتطلب دقة في الاستنباط، وإدراكاً عميقاً لأصول الفقه، وقدرةً على معالجة القضايا المستجدة، وهنا يأتي دور التمرس، باعتباره العامل الأساسي الذي يميز الفقيه عن غيره في عدة أبعاد:
القدرة على الاستدلال المعمّق: الفقيه المتمرس لا يكتفي بنقل الآراء الفقهية، بل يُعيد تحليلها وتجديد النظر في أدلتها وفق المستجدات الفكرية والاجتماعية.
التفاعل مع الواقع: تمرس الفقيه يتيح له قراءة الواقع السياسي والاجتماعي بوعي فقهي يمكنه من تقديم فتاوى تتناسب مع تحديات عصره.
الموازنة بين الثبات والتطور: الفقيه الذي يواصل ممارسة الاجتهاد على مستوى عالٍ يكون أكثر قدرة على التوفيق بين ثوابت الشريعة ومتغيرات الزمن، مما يجعله متفوقاً على من اكتفى بالدراسات النظرية دون ممارسة فعلية.
2. معيار الأعلمية بين الثبات والتغير
التقليد الفقهي الشيعي لطالما شدّد على ضرورة الرجوع إلى الأعلم في الفقه، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل الأعلمية صفة دائمة أم متغيرة؟
الواقع يشير إلى أن الأعلمية ليست مرتبة ثابتة مدى الحياة، بل هي حالة تخضع للتطور والتراجع، تبعاً لعدة عوامل، من أهمها التمرس والاجتهاد المتجدد. فمثلاً:
قد يكون فقيهٌ معينٌ هو الأعلم في فترة ما، نظراً لتفوقه في التحليل الفقهي والتأصيل الأصولي.
لكن مع مرور الزمن، قد يظهر فقيه آخر أكثر دقةً في الاستنباط، وأوسع اطلاعاً، وأشد تمرساً في معالجة المسائل الفقهية، فيتراجع الأول عن مرتبته للأعلمية، ويصبح الثاني أكثر أهلية لهذا المنصب.
3. الفقاهة العملية
ثمة فرق جوهري بين الفقيه المنظّر والفقيه الممارس، فالفقاهة الحقيقية لا تتحقق بمجرد القدرة على التنظير الفقهي وكتابة البحوث، بل تتطلب الاحتكاك المستمر بالمسائل الفقهية الحية ومعالجتها بطريقة إبداعية ومواكِبة للواقع، وهذا هو جوهر التمرس الذي يرفع فقيهاً إلى مرتبة الأعلمية ويفقد آخر هذا الموقع.
4. تنازل الفقيه عن الأعلمية: بين الاجتهاد الذاتي وشهادة أهل الخبرة
قد يمرّ الفقيه بعدة مراحل في مسيرته العلمية، وقد يصل إلى قناعة ذاتية بأنه لم يعد الأعلم بسبب ظهور فقيه آخر أكثر تمرساً، ومن هنا نجد بعض الفقهاء في التاريخ الشيعي قد تنازلوا عن موقع الأعلمية بإرادتهم أو بناءً على شهادة أهل الخبرة الذين رأوا أن فقيهاً آخر أصبح أكثر كفاءةً ودقةً في الاستنباط.
هذه المرونة في تحديد الأعلمية تُعطي الاجتهاد الشيعي طابعاً ديناميكياً مفتوحاً، بحيث لا يكون المرجع مجرد صاحب أقدمية زمنية أو منصب ثابت، بل يُقيَّم بناءً على مدى استمراريته في التمرس والتجديد العلمي.
5. التمرس والقدرة على الإبداع الفقهي
الاجتهاد الفقهي ليس مجرد عملية استنتاجية، بل هو فن معرفي يحتاج إلى مرونة فكرية، ولهذا فإن الفقيه المتمرس يمتلك قدرات خاصة تجعله أكثر تأهيلاً للأعلمية، مثل:
إعادة قراءة النصوص الفقهية بعيون نقدية جديدة.
التعامل مع القضايا الفقهية المعقدة كالتكنولوجيا الحديثة، والقوانين الدولية، والطب الحديث، وعلاقتها بالاجتهاد الشرعي.
6. الأعلمية ليست منصباً سياسياً بل مسؤولية معرفية
بعض الفقهاء قد يُنظر إليهم اجتماعياً على أنهم الأعلم بسبب عدد المقلدين أو انتشار رسالتهم العملية، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنهم الأعلم فقهياً وأصولياً، بل إن تحديد الأعلمية يجب أن يكون مبنياً على معايير علمية بحتة، تعتمد على التمرس والقدرة على التجديد الفقهي.
الخاتمة: الفقاهة ليست مجرد رسالة عملية، بل مشروع فكري متجدد
الأعلمية ليست وساماً يُمنح مدى الحياة، بل هي رتبة علمية متغيرة تخضع للتطور والتراجع وفقاً لمستوى التمرس الفقهي والتجديد المعرفي، ولهذا فإن الفقيه الذي يواصل التفكير النقدي، وإعادة قراءة النصوص، والتفاعل مع الواقع بوعي فقهي معاصر، هو الأجدر بالأعلمية، حتى وإن كان هناك من سبقه في هذا المقام في فترات سابقة.
وهذا يفرض على المنظومة الفقهية أن تتبنى رؤية أكثر مرونة في تحديد الأعلمية، بحيث يكون المعيار هو التمرس الفقهي المستمر، وليس مجرد الأقدمية الزمنية أو عدد المقلدين. لأن الفقاهة الحقيقية ليست مجرد كتابة رسالة عملية، بل هي ممارسة فكرية وإبداعية تعكس القدرة على استنباط الأحكام الشرعية بأدق وأحدث المنهجيات العلمية.
الشيخ هادي حسين ناصري