عاش الإمام الهادي عليه السلام بعد استشهاد أبيه ظروفاً صعبة وقاسية وقد عاصر حكم المتوكل الذي عرف بحقده على الإمام عليه السلام وملاحقته لأصحابه وقواعده التي كانت تتسع يوماً بعد يوم، هذا التوسع الذي انعكس على واقع الجهاز الحاكم، حتى شعر المتوكل بخطورة الموقف وحرجه، فحاول تفادي المضاعفات، بطريقين متلازمين في آن واحد معاً:
1- شن حملة مطاردة واضطهاد، لقواعد الإمام عليه السلام وأصحابه، وتدمير كل أثر شيعي لهم زيادة في إرهابهم وإمعاناً في إذلالهم، “حتى أنه هدم قبر الحسين عليه السلام وعفّى اثاره”1.
2- عزل الإمام عليه السلام عن قواعده تمهيداً لشرذمتها، وتمييع قضيتها وتيئيسها من الإنتصار.
وقد رأى المتوكل أن تواجد الإمام الهادي عليه السلام بعيداً عن رقابته (في المدينة) يشكل خطراً على دولته، فأمر باستقدامه إلى سامراء لكي يضعه تحت رقابته، ويرصد حركاته بعيداً عن قواعده الشعبية.
فقد أرسل المتوكل رسالة للإمام عليه السلام يدعوه فيها للحضور إلى سامراء مع من يختار من أهله ومواليه2 بشكل لا يثير الأمة عليه، وهو نفس أسلوب من سبقه من الخلفاء، وكما فعل المأمون قبله مع الرضا والجواد عليه السلام ومحاولة دمجهما في الجهاز الحاكم ليكونوا تحت رقابة القصر.
وأرسل المتوكل كتابه مع يحيى بن هرثمة أحد قادته العسكريين كما أرسل معه فرقة من الجند إلى المدينة وأمره باستقدام الإمام عليه السلام إلى سامراء، بعد تفتيش بيته، والبحث عن أي مستمسك يدين الإمام بالعمل والتامر ضد الدولة، فلما سمع أهل المدينة بالحادث ضجوا استنكاراً على فعلة ابن هرثمة حتى أنه أخذ يسكتهم ويحلف لهم “بأنه لم يؤمر فيه بمكروه”3 وهذا مما يدل على معرفة أهل المدينة بسوء نية السلطات تجاه الإمام عليه السلام. ويقول ابن هرثمة “ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم”4.
وقد خرج الإمام الهادي عليه السلام مصاحباً ولده الإمام العسكري عليه السلام وهو صبي، مع ابن هرثمة يقودهما إلى سامراء، وبعد وصوله إليها بيوم استدعاه المتوكل، وتلقاه جملة من أصحاب المتوكل ودخل عليه فأعظمه وأكرمه ثم حوله إلى دار قد أعدت له عليه السلام!!
وأراد المتوكل بأسلوبه الماكر هذا أن يغطي على منهجه السياسي وعدائه الدفين للإمام عليه السلام، وهو بهذا الإستدعاء يفرض عليه الإقامة الجبرية تحت عين ومراقبة القصر المُحْكَمَة والتي سوف تحصي عليه كل تحركاته وسكناته بدقة تامة.
الإمام عليه السلام تحت الرقابة:
وقد سبق أن لاحظنا أن هدف استدعاء المتوكل للإمام الهادي عليه السلام إلى سامراء هو وصحبه وصَهْرَه في حاشية الخلافة بقدر الإمكان ليكون الإمام بين سمعهم وأبصارهم فلا تفوتهم منه شاردة ولا واردة.
“وكان الإمام عليه السلام يعطي من نفسه بإزاء ذلك وكأنه يوافق الدولة العباسية على سياستها تجاهه، فكان يحضر موائدهم، ويجلس مجالسهم ويخرج في مواكبهم”5.
ولم يكن هذا الموقف من الإمام عليه السلام تنازلاً أو تسامحاً مع الدولة، فإن هذا لا يمكن مع شخصية كشخصية الإمام عليه السلام المبدئية.
وأي تنازل يبديه الإمام عليه السلام معناه التصرف ضد المصالح الإسلامية العليا. ولو أن الدولة كانت تحس في الإمام تنازلاً في مواقفه، لنال عندها أقصى المنازل الرفيعة والجاه العظيم، ولألغت مراقبتها الشديدة عليه دون أن تكرهه على الإقامة الجبرية، مع العلم أن سياستهم الجائرة تجاه الإمام كانت تتزايد يوماً بعد يوم، حتى أن المتوكل في اخر أيام حكمه ألقى بالإمام في غياهب السجون لكثرة ما رفع عنه للمتوكل من سعايات ووشايات بين اونة وأخرى، وكانت هذه الأخبار توقظ شكوك المتوكل على الإمام وتثير توجسه الكامن في نفسه، وكانت هذه الأخبار والوشايات تجعله يأمر بكبس دار الإمام للتأكد من صدق الوشاية أو كذبها.