الخطاب الفاطمي العشرين … من هم الذين يرونه بعيداً ؟
بقلم : محمد العامري
يجتمع المؤمنون في صبيحة يوم العزاء الفاطمي قرب مجسرات ثورة العشرين في النجف الاشرف وقلوبهم تترقب متلهفة لخروج جوهرة النجف وحوزتها بخطابه الفاطمي السنوي سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله الشريف) على جموع الزائرين المعزين لامير المؤمنين عليه السلام الحاضرين في النجف الاشرف لترتفع هتافات الانتماء والنصرة (لبيكِ يازهراء) ذلك الشعار الذي يدخل بيوت النجف متكررا منذ عشرين عاما وهو يشق حجب التغييب والتضييع لهذه المناسبة العظيمة وهي ذكرى استشهاد الزهراء (عليها السلام) في الثالث من جمادى الاخر ، فمنذ احياء تلك المناسبة والوعي الديني لمتطلبات المرحلة وتقلباتها وماينبغي ان يقوم به المؤمن اصبح هو البرنامج السنوي الذي يستلهمونه من تلك المنصة المباركة المسددة ببركات صاحبة الذكرى المظلومة (عليها السلام) ورعاية وعناية ولدها ولي الله الاعظم (عجل الله فرجه الشريف) ونور وبهاء القبة العلوية على مشرفها الالاف التحية والسلام.
ومن روائع ماذهب اليه سماحته في خطابه الفاطمي العشرين تفسيره لقوله تعالى {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَرَاهُ قَرِيباً}
فقال سماحته : “فإنها (اي الاية) تحمل معنى التهديد والوعيد لأعداء الإسلام من نهايتهم المخزية والبائسة في الدنيا والآخرة {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]، وتقول للنبي (صلى الله عليه وآله): إن يوم القيامة الذي نقتص فيه منهم يرونه (أي يعتقدون) بأنه بعيدٌ عن الواقع وغير محتمل بحكم عقولهم القاصرة وأنه لا وجود له، إذ كيف يبعث الإنسان من قبره بعد أن يتلاشى جسده في القبر {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات: 16]، وهم يرونه بعيداً زماناً أيضاً {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3] فهو عندهم بحكم العدم، لكنهم لا يستطيعون نفيه وهذا ظاهر من زعمهم أن آلهتهم ستشفع لهم “.
فقد حدد سماحته بمضمون شرح الاية المعنيين بالرؤية القاصرة ممن اعمتهم الدنيا عن رؤية نور الحق والهداية ولم يكتفوا ان تغيب عقولهم بل عادوا الاسلام رغم قناعتهم ان يوم القيامة امر واقع في نصوص كثيرة اشارت لها الايات القرآنية عن مجادلتهم واحتجاجهم بشفاعة اصنامهم لهم.
ويلفت سماحته الانظار الى سرعة تحقق الوعد الالهي بنزول العذاب على اعداء الاسلام والمسلمون حاضرون ويرون باعينهم ذلك.
قال سماحته “وسرعان ما تحقق وعد الله تعالى فيهم، فقد قتل الله تعالى صناديد قريش وطغاتها في بدر، بل إنهم يتعذبون بالنار وهم في دار الدنيا {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49]، فأيَّ وعد يتشبثون به ويخدعون به أنفسهم؟”
وهنا تحققت الحجة والبرهان على المؤمنين بأحقية هذا الدين وان وعد الله آتٍ لا محال الا انه يحتاج الى التربص والانتظار والثقة التامة بوعد الله تعالى ليروا ما يحلّ بالكافرين {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52] {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 102].
ثم يعرج سماحته الى قراءة ظروف الاية واسباب النزول فيقول : “وإذا لاحظنا الآية الكريمة ضمن سياق الآيات السابقة عليها {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] التي دلت الروايات على أنها نزلت في المعترضين على تنصيب النبي (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) خليفةً من بعده وولياً لأمر الأمة في يوم الغدير ، وقالوا {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، وعلى هذا فالآيات الكريمة تتوعد الذين أنكروا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بالعذاب القريب”.
وكأني بسماحته يذهب الى ان العذاب الذي يتعلق بغصب حق الولاية هو عذاب منجز واقع متحقق كوعد الهي محتوم لا مناص منه ولكنه يحتاج الى الصبر الجميل من المؤمنين ليروا بأم اعينهم ما سيحلُ بمن سرق منصب الولاية من مستحقها الشرعي ولن تطول المدة حتى يشفي الله صدور المؤمنين بتحقق هذا الوعد.
فيشير سماحته “وإلى أن تتحقق هذه النهاية الشقية للكافرين والسعيدة للمؤمنين تأمر الآية الكريمة السابقة بالصبر الجميل {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} وهو الصبر الذي يكون لوجه الله تعالى ورضاً بقضائه وتسليماً لأمره ليس فيه شكوى ولا اعتراض، على النحو الذي سلّى به النبي يعقوب (عليه السلام) نفسه عند فقد ولده يوسف النبي (عليه السلام) {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] قال الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الصبر الجميل: أنه (بلا شكوى) ومثل هذا الصبر يكون حافزاً على العمل والتقدم وليس مثبّطاً أو محبطاً، والله تعالى قادر على أن يحقق المطلوب فوراً من دون انتظار، لكنه تعالى أراد للأمور أن تجري بأسبابها ليتميز الصابر المحتسب العامل عن غيره فيثيب المحسن على إحسانه.”.
وقبل ان نذهب الى (المعنى الاوسع) للآية الكريمة فلابد ان نقف عند مجمل الكلام الذي ذهب اليه سماحة المرجع (دام ظله) في المقاطع السابقة فالقرآن الكريم وصف العذاب المُحقق للوعد الالهي بالقريب من حيث الذات الالهية ووصفه بالنسبة للكافرين بالبعيد وعلى هذا المعنى يكون الوعد الالهي بعيدا اذا فقد شروط الصبر والثقة التامة بالفرج الالهي والانتظار الايجابي الملازم للطاعة من قبل المؤمنين وكما انه تحذير ووعد ووعيد للكافرين فهو في نفس الوقت تحذير وتنبيه للمؤمنين بعدم التراخي والغفلة وإلتزام منهج الولاية الموصلة لله تعالى.
ثم يذهب المرجع العارف بزمانه الى التعمق في شرح الاية المباركة وطرح الجديد الذي يتشوق له المؤمنون فيقول :
” وللآية الكريمة معنى أوسع من هذا يقوّي إيماننا، ويربط على قلوبنا، ويعيننا على تحمّل كل ما نلاقيه في حياتنا ويكون بلسماً لجراحنا، وهو أن كل مشكلة تحصل لنا، أو أزمة تمرُّ بنا، أو أمر يتعسّر علينا أو ابتلاء سواء في البدن أو الرزق أو الأمن أو المصائب والابتلاءات في الأهل والأقرباء والأحبّة أو الكوارث العامة التي تعاني منها الأمة، والتحديات المعقّدة التي تواجهها، وترى أنها مستعصية على الحل وأن الخروج منها بعيد المنال وقد يحصل اليأس منه، فعليك أن تتذكر حينئذٍ هذه الآية الكريمة وتستحضرها في وجدانك لتعيد إليك الأمل والاطمئنان وتزيد في إيمانك، وتقّوي عزيمتك، وترفع درجتك عند الله تعالى، فإنها تعدك بأنَّ العقدة ستحلّ، والخطر سيزول، ويتحوّل الفشل إلى نجاح وسيأتي الفرج بأقرب ما يكون ومن حيث لا تحتسب، (فكم يا الهي من كربة قد فرجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرة قد أقلتها) (فكم من موهبة هنيئة قد أعطاني، وعظيمة مخوفة قد كفاني، وبهجة مونقة قد أراني) وما عليك إلا حسن الظن بالله تعالى والاستعانة بالصبر الجميل المحرك نحو العمل الصالح قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] من دون أن تذكر الآية أن الاستعانة بالصبر على ماذا؟ ليبقى مطلقاً ومفتوحاً، فإن الاستعانة بالصبر والصلاة يكون على كل شيء، فبالصبر ينال الظفر والدرجات الرفيعة، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: ((إن العبد ليكون له عند الله الدرجة لا يبلغها بعمله فيبتليه الله في جسده أو يصاب بماله أو يصاب في ولده فإن هو صبر بلّغه الله إياها)) ، قال أمير المؤمنين (): (عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء) وعليكم أن تحسنوا الظن بالله تعالى {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110].
وعلى هذا الفهم فإن ضمير (هم) في {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} يعود إلى المؤمنين، وبذلك تؤسس الآية الكريمة قاعدة عامة توجّه سلوك المؤمن، وتجعل قلبه مفعماً بالأمل والانشراح، وتجعله مندفعاً نحو العمل الإيجابي المثمر المبارك، فلنستفد منها في كل شؤون حياتنا.”.
وهنا الكلام فيه تأمل كبير لا ينبغي للمؤمن الفطن ان يتعداه فهذه الاية اذا ماقرأناها بروح الايان فأنها آية للتفائل والامل فكل بعيد عند الله قريب وهي آية تقوي الايمان والعقيدة بقدرة الله وضرورة الرجوع اليه.
كما انه قد سبقت الاشارة قبل (المعنى الاوسع) ان الكافرين هم من يرونه بعيدا الا ان سماحة المرجع هنا عندما ذهب الى توسيع المعنى وقراءة النصوص من جانب اخر يقول ان المؤمنين هم من يرونه بعيداً !؟.
فالمقصود بالذين يرون الفرج والفتح والنصر الالهي بعيدا هم (المؤمنون) وليس غيرهم والله عز وجل يراه قريبا، وعلة هذا الفهم هو تعلق شرط الفرج بالصبر من قبل المؤمنين فيكون المعنى ان تصبروا فالكافرين يرونه بعيدا وانتم ترون برؤيتنا فترونه قريبا ، وان لم تصبروا ايها المؤمنون فسترونه بعيدا ، لانكم لم تتلزموا بمااراد الله تعالى ولم تعملوا بما يقربكم من الله ، (واستعينوا بالصبر) وهذا الصبر هو ليس الصبر الساكن الراكد بل الصبر المتفاعل المتحرك الذي يسعى لنصرة القضية واحقاق الحق واعادة الامور الى نصابها ، والصدع بشجاعة بهوية الانتماء والعقيدة ، ولم نذهب بعيدا عن تعلق هذا الامر بقضية الولاية فلا انفكاك بين الايات اعلاه وتعلقها بنصرة الولي والعمل على تمكينه ، وهذا التأسيس مبتني على موقف الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لذلك يكمل سماحته في خطابه الذي اسماه (السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) والوعد بالفتح) والذي اختاره بعناية ، لتجد انه يشير بصراحة الى ان اندفاع سيدة نساء العالمين لانها وعت هذه الحقيقة وكانت تراها امام عينها ، فيقول (لقد وعت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الحقيقة القرآنية، لذا وقفت متحدية طغيان القوم لتحذرهم من مغبّة ظلمهم وعدوانهم وانقلابهم على تعاليم الدين ووصية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأن هذه النهاية التي يرونها بعيدة هي قريبة منهم وتراها السيدة الزهراء (عليها السلام) رأي العين) ، فنرى كيف اصبحت الفكرة واضحة ملتصقة بالنهج القرأني الذي جمعها سماحته وانتقل بآفاق الوعي الديني الى مساحات لم تفتح من قبل فكأننا نرى حديث الثقلين صورة متكاملة واقعية في هذا السرد القرآني وسلوك المعصوم (اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما ان تمسكتم بها لن تضلوا بعدي) واذا ماتقدمنا خطوة الى الامام فيمكن ان تنطبق مضامين النصرة على كل منصب شرعي الهي يقوم مقام الولاية ، والوعد بالفتح والنصر قائم ايضا شريطة ان تتحرك الامة كما تحركت الزهراء (عليها السلام) لنصرة الحق والدفاع عن الولي.
ولا يفوتني ان اتوسع في عبارة (هذه النهاية التي يرونها بعيدة هي قريبة منهم وتراها السيدة الزهراء (عليها السلام) رأي العين) وهنا ينبغي ان نمعن النظر وحري بالمؤمن ان يتأمل هذه العبارة التي هي مفتاح لكل خير فإذا اردنا ان نرى العذاب الذي يقع على الظالمين والغاصبين قريبا كما يراه الله فعلينا مجاهدة النفس وتهذيبها حتى يكون المؤمن نظره وسمعه ولسانه إلهياً جاء في كتاب بحار الانوار للعلامة المجلسي (ج ٨٤ – الصفحة ٣١ و ٣٢) عن عبد الرحمن بن حماد، عن حنان بن سدير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال الله تعالى: ما تحبب إلي عبدي بشئ أحب إلي مما افترضته عليه، وإنه ليتحبب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها… يقول العلامة المجلسي :
تحقيق هذا الخبر يحتمل وجوها “:
الأول/ أنه لكثرة تخلقه بأخلاق ربه ووفور حبه لجناب قدسه، تخلى عن شهوته وإرادته، ولا ينظر إلى ما يحبه سبحانه ولا يبطش إلا إلى ما يوصله إلى قربه تعالى وهكذا.
الثاني/ أن يكون المراد أنه تعالى أحب إليه من سمعه وبصره ولسانه ويده ويبذل هذه الأعضاء الشريفة فيما يوجب رضاه، فالمراد بكونه سمعه أنه في حبه وإكرامه بمنزلة سمعه بل أعز منه، لأنه يبذل سمعه في رضاه وكذا البواقي.
الثالث/ أن يكون المعنى: كنت نور سمعه وبصره، وقوة يده ورجله ولسانه.
والحاصل أنه لما استعمل نور بصره فيما يرضى ربه، أعطاه بمقتضى وعده سبحانه “لئن شكرتم لأزيدنكم” نورا من أنواره به يميز بين الحق والباطل وبه يعرف المؤمن والمنافق، كما قال الله تعالى: “إن في ذلك لآيات للمتوسمين” وقال صلى الله عليه وآله: المؤمن ينظر بنور الله.
وكذا لما بذل قوته في طاعته، أعطاه قوة فوق طاقة البشر، كما قال مولانا الأطهر “ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية بل بقوة ربانية ” وهكذا.
الرابع/ أنه لما خرج عن سلطان الهوى، وآثر على جميع مراداته وشهواته رضى المولى، صار الرب تبارك وتعالى متصرفا في نفسه وبدنه، مدبرا لقلبه وعقله وجوارحه، فبه يسمع وبه يبصر وبه ينطق وبه يمشي وبه يبطش، كما ورد في تأويل قوله تعالى: “وما تشاؤن إلا أن يشاء الله”. انتهى كلام العلامة المجلسي (قدس سره).
فعندما يقوم المؤمن بدوره ويعبد الله كما يريد تبارك وتعالى فسيكون نظره وسمعه ولسانه وقلبه ألهياً {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَرَاهُ قَرِيباً} فسيرى بعين الله فيرى الفرج قريبا حتى وان كان بعيدا واقعا لان الصبر الجميل سيكون جزء لايتجزء من كيانه بفضل الله تعالى ومنه عليه ويتحول بكامل كيانه انسانا الهيا يمتلك الحلم والصبر الالهي لانه اطاع الله فعلا ، وخير من تجسدت لديه وفيه هذه الصورة بعد النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) هم المعصومون (عليهم السلام) ومن ذلك نفهم صبر امير المؤمنين على ماجرى عليه بعد استشهاد النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) لانه كان يرى بوضوح الوعد الالهي بالفتح قريبا في حين يرى الاخرون انه بعيد فلا حساب ولا عذاب ولا عقاب حتى وان كان خلف الباب فاطمة علامة الرضا والغضب الالهي.
ويستشهد سماحته بخطاب السيدة الزهراء (عليها السلام) الذي وصف ماترى من وعد الله وماأعد ومغبة ماجنى القوم وعاقبة امرهم “(ومما قالت (فدونكموها فاحتقبوها باقية العار، موسومة بغضب الجبار، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون وسيعلم الذين ظلموا أي مقلب ينقلبون، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون).
وقالت (عليها السلام): (أمَا لعمري لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبّ -أي عاقبة – ما أسّس الأولون، وأبشروا بسيف صارم، وسطوة معتد غاشم، وبِهَرج شامل، واستبداد من الظالمين: دع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم! وأنى بكم وقد عميت عليكم! {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]) .
وسرعان ما حلّ بهم ذلك، وكانت البداية ضياع دينهم وآخرتهم وانحرافهم عن شريعة الله تبارك وتعالى، روى البخاري بسنده عن الزهري قال: ((دخلت على أنس بن مالك – الصحابي – بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي ((صلى الله عليه وآله)) إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيّعت)) .”
وقد تحقق الوعد الالهي بالغاصبين لمقام الولاية وما إن وعت الامة خطأها وتراجعت عن مناصرة الظالمين والمنحرفين حتى عاد الحق الى امير المؤمنين (عليه السلام) سريعاً وتزاحموا على مبايعته ليتحقق الفتح وتنعم الامة برعاية وليه ولتستقي الامة بل كل الشعوب والامم الى يومنا هذا من بركات تلك الحكومة العادلة نبراسا للعدالة والحكم الرشيد واليد النظيفة والمساواة بين مختلف فئات المجتمع الاسلامي وغيرهم ممن يعيشون تح رعاية حكومة علي بن ابي طالب (عليه السلام).
ويكمل سماحته “إن الباطل والظلم والعدوان مهما تفرعن وتجبّر وطغى، وظنّ بعدم وجود من يردعه فإن نهايته قريبة وغير متوقعة، فمن كان يتصور أن نجاة النبي موسى (عليه السلام) والذين آمنوا معه تكون بتلك الطريقة وهي إغراق فرعون وجيشه العظيم في الماء في اللحظة التي يئس المؤمنون فيها من النجاة {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61-62]؟ وهل كان أصحاب الكهف يتوقعون أن نجاتهم تكون بالنوم ثلاثمائة وتسعة أعوام حتى انتشر التوحيد وأضمحلّ الكفر؟ ومن كان يصدّق أن النمرود الطاغية المتجبّر تنهي حياته حشرة، والأمثلة لا تعد ولا تحصى.”.
وهذه المصاديق القرآنية التي ذكرها سماحته تستحق التأمل والقراءة فأنها ايات لقوم لقوم يتفكرون لانها تبين قوة وقدرة الله وارادته في تحقيق وعده بالفتح ونصرة دينه واولياءه ففيها عبرة عظيمة ، فما هي الا لحظات حتى اندثر الباطل وتحقق الفتح فغرق فرعون وانتصر موسى ومات النمرود بحشرة دخلت في أنفه وانتصر ابراهيم ونام اصحاب الكهف حسب اعتقادهم يوما او بعض يوم ليصحوا من ملاحقين الى مقدسين او يغتسل النبي ايوب بعين ماء فيشفى بعد لحظات من مرضه وسقمه بعد ان انهكه المرض سنين ويعود له ولزوجته قوة الشباب ويعيد له ابناءه وخدمه بعد موتهم كلمح البصر قال تعالى فيه (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص:44) ، فالصبر مفتاح كل خير.
ويعرج سماحته دام ظله الى القضية الاهم الا وهي قضية الامام المهدي (عجل الله فرجه) وظهوره المبارك التي يتمنى المؤمنون ان يرونه قريباً فيقول :
“وهكذا يوم الظهور الميمون لإمامنا المهدي (عجل الله فرجه الشريف) مهما رأوه بعيداً عن التصور ومستحيلاً ، فإنه قريب وسينعم برؤيته واتّباعه المؤمنون، وسيشرق نوره على الأرض كلها ، وهو ما ورد في دعاء العهد (اللهُمَّ اكشِف هذِهِ الغُمَّةَ عَن هذِهِ الأُمَّةِ بِحُضُورِهِ وَعَجِّل لَنا ظُهُورَهُ إنَّهُم يَرَونَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) وورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) قوله: (إن الشيعة تربى بالأماني منذ مائتي سنة) أقول: ولا زالت الأمة تُرّبى بالأمل بعد ألف ومئتي عام.
فإن الفتح يشرق من داخل النفس ثم يتحقق في الخارج {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وما زال الأمل يحدونا بقرب الفرج والنصر، وظهور دين الإسلام المحمدي الأصيل على الدين كله ولو كره الكافرون والمستكبرون جعلنا الله تعالى وإياكم من أنصاره والممهدين له والممكَنّين في دولته المباركة إنه نعم المولى ونعم النصير.”.
وهنا يؤكد المنهج والتأسيس الذي أسسه منذ بداية الخطاب الفاطمي وهو نفس الطريق الذي مضت في طريقه الصديقة الزهراء (عليها السلام) شهيدة صابرة محتسبة والذي خلاصته ان الانسان هو نقطة التحول والتغيير فأذا لم يستحضر التغيير والفرج من داخل نفسه فلن يرى نور الله في الخارج فالفرج كل الفرج من داخل النفس ونصرة الحق والثبات عليه وتهذيب النفس وان يكون الانسان فردا اسلاميا كاملا رؤيةً وعقيدةً وسلوكاً .
يقول سماحة المرجع في خطاب سابق :
” فحينما ندعو لإمامنا المهدي (عليه السلام) بالفرج وتعجيل الظهور فان الفرج الحقيقي يبدأ من داخل أنفسنا حينما نهذّبها بطاعة الله تبارك وتعالى وتسير نحو الكمال، وإلا فما الذي نجنيه من ظهور الإمام (عليه السلام) إذا لم نحقق هذه الدرجات في داخلنا؟ ربما سنكون في الصف المعادي له أو مع المتخاذلين عن نصرته حرصاً على مصالح دنيوية او وضع اجتماعي او مكاسب سياسية ونحوها.
فالدولة الكريمة والفرج يبدأن من داخل النفس ثم يشرقان على الآخرين فإذا عاش المجتمع أجواءاً إسلامية وكان سلوكه إسلامياً، وتفكيره مبنياً على أساس الإسلام فهذه هي الدولة الكريمة وهذا هو الفرج الحقيقي.
وهذا لا يتحقق الا بمواصلة العمل الدؤوب على صعيد تهذيب النفس وعلى صعيد إقامة المشاريع الاسلامية الإصلاحية في المجتمع وإدامتها وأن لا يكتفي بالعمل الارتجالي الذي دافعه وهج العاطفة أو ردود الأفعال وعلينا أن نفهم الأعداء قبل الأصدقاء من الكبار والصغار، إن اندفاعة هذا الشعب الكريم نحو الإسلام ونشر تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) ليس رد فعل على طول حرمانهم من ممارسة شعائرهم من قبل الطواغيت كما ربما يصوّر البعض، ولا إنها فرار من الواقع المرير وتعلّق بالغيب للشعور العميق بالإحباط واليأس كما يصوّر البعض الآخر، وإنما هو نزوع نحو الكمال مبني على القناعة والمعرفة، ولا يمكن إيصال هذه الرسالة إلا بإدامة هذه المشاريع المباركة وبذل الوسع في تأصيلها وترسيخها”.
نسأل الله ان يرزقنا جميعا شفاعة السيدة الزهراء (عليها السلام) وان نوفق لرؤية الحق كما يريده الله تعالى وننصره انه نعم المولى ونعم النصير.
محمد العامري
8 – جمادى الاخر – 1446 الموافق 10 – 12-2024