الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
لم يكن القيام الحسيني واليوم العاشورائي يُعَبِّر عن رؤية شخصية ومصالح ضيِّقة وموقف ارتجالية، وإنما هو قيام له أبعاد رسالية خالدة منبثقة من صميم المنهج الإسلامي وعلاج يواكب حركة الأمة إلى قيام الساعة فكراً وممارسة بما لا يدع معه مجالاً للسفهاء والطغاة من قيادة الأمة وحرف مسيرتها نحو الهاوية والجاهلية، من دون كشفهم وتعريتهم واتخاذ ما يلزم من سبيل لامتثال التكليف الشرعي في مواجهة الطغيان والاستبداد والفساد، إذ لمّا تولّى يزيد بن معاوية الحكم بالترغيب والترهيب والحيلة عن طريق مؤامرة أبيه معاوية على الأمة، أراد أن يُضفي على ذلك شرعية من خلال فرض مبايعة الناس له على وجه العموم، وتحصيل بيعة الإمام الحسين عليه السلام على وجه الخصوص وإن رفض يُقتَل، فما كان من الإمام إلا أن يصدع بالحق في جوابه لوالي المدينة الوليد، حيث قال له الإمام عليه السلام : ” إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر و تنظرون أينا أحق بالبيعة والخلافة”.
ولمّا جاءته الكتب من العراق لتبايعه وتناصره صلوات الله عليه خرج من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة أيام الحج ولكن عَلِمَ أن يزيد لعنه الله يتابعه وبعث مَنْ يقتله ولو كان مُعلقاً بأستار الكعبة فخرج من مكة يوم الثامن من ذي الحجة الحرام، ولم يحضر الحج حرصاً منه على حرمة الكعبة المشرفة وحفاظاً على تأدية الناس مناسكهم ولاعتبارات رسالية أخرى، حتى صرّح الإمام عليه السلام في مقولته العظيمة جواباً للمنكرين عليه الخروج وكذا الخائفين عليه وحتى المستفهمين فقال : ” أنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي مـحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أُريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي مـحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة أبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين”.
وكان عليه السلام يدعوا الناس لمتابعته واللحوق بركبه ولكن لم يلحق به إلا القليل حتى لمّا وقعت المعركة واستشهد من أهل بيته وأصحابه ولم يجد الناصر والمعين أراد منح القوم فرصة أخيرة لهدايتهم والرجوع عن غيِّهم وعدوانهم فاستصرخهم وهو يقول كما ورد عنه عليه السلام : «هل من ناصرٍ ينصُرنا؟ هل من مُعينٍ يُعيننا؟ هل من ذابٍّ يذبّ عن حُرَم رسول الله».
ولكنه لم يجد وقد تهرب الناس من التزامهم المثبت بكتبهم الموقعة ببيعته ونصرته ليكونوا مصداقاً لقول الإمام الحسين عليه السلام : ” الناس عبيد الدنيا، والدّين لَعِق على ألسنتهم يحوطونه ما درَّتْ معائشهم، فإذا مُـحّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون”.
ولم يكفهم تنصلهم من التزامهم وكتبهم حتى أنهم لم يقفوا على الحياد وإن كان باطلاً بل اشتركوا بمحاربته وقتله، وامصيبتاه، واحسيناه، إذ قتلت الأمة سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيد شباب أهل الجنة ومن أركان العترة الطاهرة وقد شابهت بفعلها القبيح اليهود الذين كانوا يقتلون الأنبياء والأوصياء، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولعنة الله على الظالمين.
والأدوار متشابهة ومتكررة عبر العصور إلى وقتنا الراهن الذي نعيش فيه أزمات خانقة سياسية، واقتصادية، وفكرية، وثقافية، واجتماعية، وأمنية، وعسكرية، مع شيوع ظاهرة الفساد المالي والإداري، مع كثرة العملاء والخونة والدجالين وانتشار صُنّاع التفاهة والأعمال المزرية الهابطة والترويج لضرب القيم الأخلاقية وإشاعة الإباحية والشذوذ الجنسي والانحراف الفكري وهتك وتدنيس المقدسات الإسلامية ظلماً وعدواناً وتلميع المفاهيم الباطلة والضالة المناقضة للحقائق القرآنية وتضليل الناس وتجهيلها بذريعة الحرية الشخصية وحرية التعبير عن الرأي، وفرض مفهوم الجندر السيء الصيت في مؤسسات الدولة ويتم الترويج له على لسان الحكومة وزعماء الأحزاب والكتل السياسية وقبوله لأجل إرضاء الاستكبار العالمي وحفاظا على المكتسبات الحزبية الضيّقة في خطة استكبارية عالمية بذريعة أننا نأخذ من الجندر ما كانت نسبته مخففة وجرعته قليلة مقيدة غافلين أو متغافلين عن كون هذا المفهوم مخالفاً للحقيقة القرآنية والسنة المطهرة والطبيعة البشرية، فضلاً عن كون قبول هذه الجرعة باعتبارها مقدمة ستتبعها جرعات أخرى أقوى وأشد ويُبنى عليها في المستقبل بما تخرج عن السيطرة لتؤسس للانحلال والإباحية والشذوذ والسير مع ركب الحضارة الغربية المزيفة والسامّة مدعومة من بعض الزعامات الدينية كبابا الفاتيكان فرنسيس فرانشيسكو، الذي صار يدافع عن الشاذين كما بدأت زعامته بحضور محافل الصهاينة وتقبيل أقدام زعماء الماسونية العالمية، ودعوته إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني بمختلف الطرق والوسائل التضليلية بما فيها الدعوة إلى الديانة الإبراهيمية في سلوكيات منافقة ومتآمرة على الإسلام والمسلمين وحقوقهم الإنسانية المشروعة، وهكذا ينساق العالم من حيث يشعر أو لا يشعر نحو ترسيخ مبادئ وقيم وأخلاق الجاهلية مع سيادة منطق القوة وتهميش ونبذ قوة المنطق.
فما علينا أيها الأحبة إلا الالتزام بمبادئ الإسلام الإنسانية وقيمه الراقية وأخلاقه الكريمة والسير على خطى المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار وفهم سيرة الإمام الحسين عليه السلام ومتابعة أهداف قيامه ونهضته الإصلاحية وإلا لن نجد أمامنا إلا حاكمية يزيد وأعوانه وقوانينه الظلامية، ولات حين مندم.
ونسأل الله تعالى تعجيل فرج مولانا صاحب العصر والزمان وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه والراضين بفعله والمُسَلِّمين لأمره والذابِّين عنه والمستشهدين بين يديه في جملة أوليائه، إنه نعم المولى ونعم النصير.
أبو الحسن حميد المُقَدَّس الغريفي
النجف الأشرف
ليلة العاشر من محرم الحرام لسنة ١٤٤٥ هجرية.
٢٨ / ٧ / ٢٠٢٣ ميلادية.
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية