كلمة سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي “دام ظله” حول السيدة الزهراء “سلام الله عليها” بتاريخ
2007/6/19 م .
بسم الله الرحمن الرحيم
الزهراء العارفة بالسر المكنون تدلّنا على سبيل توحيد المسلمين:
ليس بدعاً من الأمم أن تحتفل أمتنا بذكرى الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، فإنها سنّة عقلائية جارية أن تحتفل الأمم بعظمائها وبناة حضارتها وتشيد بمآثرهم وفاءاً لحقهم واستنهاضاً لهمم الأجيال اللاحقة لكي يسيروا على هداهم ، ولا يتخلف عن هذه السُنة إلا الأمم المتخلّفة المتوحشة لأنها لا حضارة لها ولا تاريخ حتى تهتم به وتجدده.
والزهراء فاطمة (عليها السلام) من القمم الشامخة التي يتضاءل أمامها كل العظماء وتفخر بها البشرية جمعاء ، يكفي أنها من أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بنصّ الآية الشريفة [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً] (الأحزاب:33).
وخصّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل البيت بنفسه الشريفة وعلي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) وعندما سألته أم المؤمنين أم مسلمة أن تكون منهم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لستِ من أهل البيت ولكنك على خير لجلالة قدرها وعظم شأنها.
ومن خصائص أهل البيت (عليه السلام) المعرفة الكاملة بالحقائق الإلهية التي أودعها الله بارك وتعالى في كتابه الكريم وجعل ألفاظه كالأمثال التي لها تأويل وحقائق قال تعالى: [وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ] (العنكبوت:43).
وقد وصف الله تبارك وتعالى هذه الحقائق والمعارف بأنها [فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ] (الواقعة:78-79).
فهذه المعارف الإلهية لا يمسّها ولا يصلها ويعرف كنهها إلا المطهرون من الرجس والدنس والدرن وهم من عرفّتهم الآية الشريفة المتقدمة في آهل البيت (عليهم السلام) [وَيُطَهِّرَكُم تَطْهِيراً].
فكفى بفاطمة شرفاً وعظمة أنها ممن عنتهم الآية وأعطتهم هذه المنزلة الرفيعة ، لذلك لا نستغرب من وجود حديث قدسي عن الله تبارك وتعالى مضمونه (إنني ما خلقت الكون إلا لأجل هذه الأنوار الخمسة) لان الله تبارك وتعالى خلق الكون وما فيه لكي يُعرف ويعبد قال تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات:56)، وفسرها الإمام (عليه السلام) بـ(ليعرفوه) ولم يتحقق هذا الهدف كاملاً إلا عند هؤلاء الخمسة، وتحقق بدرجات متفاوتة عند الآخرين من كرام الخلق وعلى رأسهم الأنبياء والرسل ثم العلماء والصالحين وهكذا، لذا ورد في الحديث الشريف إن درجات الخلق في الجنة تتفاوت بحسب معرفتهم فأكمل الخلق أكملهم معرفة وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه أهل بيته.
وأُقرّب هذه الفكرة بمثال لدفع الاستغراب ، فمثلا تحتاج الدولة ضمن خطّتها إلى ألف من الأطباء والمهندسين وهي تعلم أن ليس كل من ينتمي إلى المدارس يصل إلى هذه النتيجة فتقبل مئة ألف طالب في الدراسة الابتدائية وباستمرار الدراسة يتناقص العدد حتى يتحقق في النهاية العدد المطلوب فيصّح عندئذٍ أن تقول الدولة أنني ما أسست تلك المدارس وأنفقت تلك الأموال الطائلة إلا من أجل هؤلاء الألف لأنهم حققوا الهدف النهائي.
فعظمة فاطمة في ذاتها وصفاتها وليس لأنها البنت الوحيدة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل قولها سلام الله عليها في خطبتها على أصحاب أبيها صلوات الله عليه (أيها الناس اعلموا: أني فاطمة وأبي محمد صلى الله عليه واله إلى أن قالت (فإن تعزوه وتعرفوه: تجدوه أبي دون نسائكم ) وليس لأنها الزوجة المثالية لأمير المؤمنين (عليه السلام) وليس لأنها أم السبطين الحسن والحسين عليهم الإسلام والأئمة المعصومين وإن كان كل ذلك شرفاً ما بعده شرف.
وهذا يفسّر لنا سر اهتمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بفاطمة والإشادة بفضائلها على المنبر وأمام الملأ لأجل هذا الكمال المتجسد فيها وليس لأنها ابنته فقط.
والاحتفال بذكرى الزهراء (عليها السلام) سبب لنزول البركات ونيل الألطاف الإلهية امتثالاً لقوله تعالى: [وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الوسيلة] (المائدة:35)، ومن أعظم من الزهراء وسيلة وهي التي (يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها) حسب ما نصّ عليه الحديث الشريف حتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقصد فاطمة كما في حديث الكساء المعروف الذي يُروى عن الزهراء (عليها السلام) حين اشتكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضعفاً في بدنه فقصدها وطلب أن تغطيه بالكساء اليماني إلى آخر الحديث الشريف.
وما أحوجنا اليوم للتوسل إلى الله تبارك وتعالى بأحب الخلق إليه ليكشف ما بنا من ضرّ ومحن ولا كاشف له إلا هو تبارك وتعالى.
وسأكتفي هنا بالإشارة إلى درسين نأخذهما من معين الزهراء الذي لا ينضب لمعالجة ما نعانيه من مشاكل:
الأول: يتعرض الإسلام لحملة تشويه واسعة من أعدائه مستغلين بعض الممارسات الشائنة لمنتحلي اسم الإسلام فخلطوا الأوراق على الناس ليضّلوهم ويبعدوهم عن الإسلام ويكون الرد عليهم في بعض أشكاله([2]) ببيان الصورة الناصعة للإسلام التي جسدها المصطفون الأخيار وببيان فلسفة أحكام الإسلام وأسرار تشريعاته ليتميز الخبيث من الطيب، وقد أشارت الزهراء (عليها السلام) في خطبتها في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مفاتيح هذه الأسرار ، ومما قالت (عليها السلام) (فجعل الله الإيمان: تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة: تنزيها لكم عن الكبر ، والزكاة: تزكية للنفس ونماء في الرزق ، والصيام: تثبيتاً للإخلاص).
ثم عدّدت الكثير من أحكام الإسلام وتشريعاته واعتقد إننا لو استطعنا تقديم نموذج الزهراء (عليها السلام) في مسلسل تلفزيوني أو فيلم يعرض سيرة الزهراء لتأثر بها ليس فقط نساء العالمين بل الرجال أيضاً ولاعترف الجميع بأنها سيدة نساء العالمين حقاً.
الثاني: إن دعوات –لا أتهم إخلاصها وصدق نواياها- انطلقت في العالم الإسلامي منذ ثلاثينيات القرن الماضي تدعوا إلى توحيد المسلمين ونبذ الخلاف وأسسوا في الأربعينات داراً للتقريب بين المذاهب الإسلامية سعت بمقدار ما تتيسر له لتحقيق هذا الهدف السامي ولا زالت المساعي مستمرة، ولكن يؤسفني أن أقول أنها لم تحقق الثمرة المنشودة وأحياناً يحصل العكس فحينما تثار نقاط الخلاف من أجل تسويتها وردم الهوة بينها يتم التركيز على هذا الخلاف وتفشل الحلول في التقريب بينها حتى صرنا نرجو أحياناً أن لا تنعقد مثل هذه اللقاءات والندوات والمؤتمرات حتى لا نستثير كوامن الاختلاف.
وتعلـّمنا الزهراء (سلام الله عليها) العلاج الصحيح للفرقة بين المسلمين والسبيل إلى لم شملهم وتوحيد كلمتهم كما أراد الله تعالى لهم ذلك ، قال تبارك وتعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ] (آل عمران:103)، فقالت سلام الله عليها (فجعل الله طاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً للفرقة) فالوحدة والاجتماع يتحقق بالرجوع إلى مصادر الإسلام الأصلية كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الثابتة عنه غير المكذوبة عليه والمأخوذة عن طريق الثقات من أهل بيته وأصحابه النجباء.
كنت قبل أيام في اتصال هاتفي مطول مع أحد علماء فلسطين([3]) من المهتمين بالتقريب بين المسلمين وتوحيد كلمتهم حتى يتمكنوا من إعزاز دينهم ودحر الأعداء المتكالبين عليه وناقشنا ما تقدم من عدم تحقق الثمرة من مؤتمرات التقريب وقلت له أن على إخواننا أبناء أهل السنة أن يتخذوا خطوتين على الطريق الصحيح:
الأولى: فتح باب الاجتهاد لاستخراج الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية وهي الكتاب والسنة الشريفة لأنهما المصدران للتشريع أما كلمات الفقهاء فمع إجلالنا إلا أنها تمثل فهمهم وما بلغه نظرهم في الدليل الشرعي وان الأدوات المتوفرة لدى الأجيال اللاحقة أعظم من السابقين تبعاً لتطور العلوم وتعميقها ثم أن الحوادث متجددة ومتنوعة وان كثيراً منها لم يتعرض لها السلف الصالح.
فالانغلاق على مذاهب عمرها أزيد من ألف عام يجمّد الفكر ويفتح الباب واسعاً أمام كل من يشتهي أن يطبق ما يشاء من الفتاوى والنصوص على الحادثة المعينة ليحقق مبتغاه لذا نرى التضارب والتشتت وعدم الانضباط في إصدار الفتاوى التي لا تتورع عن سفك الدم الحرام فلابد من ضبط الحالة وفق مقاييس علمية دقيقة ومؤهلات وهذا ما يتوفر لدى مراجع شيعة أهل البيت (عليهم السلام) حيث لا يحق لأحد إصدار الفتوى إلا بعد بلوغه هذه المرتبة العلمية السامية ونضج علمي وعملي لا يتيسر إلا للأفذاذ.
الثاني: عدم تسييس الدين وامتناع الفقهاء من السير في ركاب السلطة وإضفاء الشرعية على تصرفاتها المبنية على المصالح الدنيوية الضيقة وهي متقاطعة بين متسلط وآخر مما يولد نفوراً من الدين وتعارضاً بين مواقف العلماء وتصل إلى التشاجر والقتال، ولو تسامى الفقهاء عن حب الدنيا وعملوا مخلصين لله تبارك وتعالى وتكون علاقتهم بالحكام من أجل التوجيه والإرشاد والموعظة وتصحيح المسيرة وإصلاح الخط والفساد وتقديم المشورة وهذا الشرط أساسي في مراجع الشيعة وسموه (بالعدالة) .
ولتحقيق هاتين الخطوتين يتطلب الأمر إجراء تعديلات في مناهج دراسة العلوم الدينية لتنتج مجتهدين، وأن تؤسس هذه الحواضن للدراسات الدينية بعيداً عن تدخل السلطات الحاكمة كالحوزات العلمية الشيعية المستقلة عبر أكثر من ألف عام عن تدخل الحكومات، و أأمل أن يمنّ الله تبارك وتعالى على بغداد الحبيبة بالأمن والاستقرار والاستقلال والحرية لتكون هي الحاضنة لهذا الصرح العلمي العظيم كما كانت في عصورها المزدهرة، فقد كانت للشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي كما كانت لأبي حنيفة والشيباني والغزالي والكيلاني.
وكان طلاب العلم في كل من المدرستين يأخذ علوم المدرسة الأخرى وقد يكون بارعاً فيها فلا يعرف انتماؤه لأي منهما وألـّف الشيخ الطوسي كتاب الخلاف الذي يستعرض فيه أراء علماء المسلمين من جميع المذاهب ويذكر أدلتهم ثم يختار ما هو الصحيح.
وحينئذ سيجد الباحث (كما وجدت أنا من خلال البحث الذي القيه في الحوزة العلمية في النجف الأشرف واخترت له المسائل الخلافية) أن المصدر واحد وان كثيراً من الأحاديث التي نستند إليها متطابقة بحيث لا تشعر عندئذ بوجود فرق وإنما هو بحث علمي مستند إلى أدلة معتمدة وتستغرب حينئذ من هذا التباعد والاختلاف بين طوائف المسلمين.