الزهراء عليها السلام هي الإنسان الكامل ذو الأبعاد المتعددة. هذه المرأة العظيمة الشأن، الجليلة القدر التي تُزهر لأهل السماوات إذا وقفت في محراب الصلاة، هي ذاتها تلك الابنة البارّة التي تمسح بيدَيها الصغيرتَين عن وجه أبيها لحظات الحزن، وهي الزوجة التي تُمسك جراحاتها وتنطلق نحو زوجها لتدافع عنه في لحظات العُسر، وهي الأمّ التي احتضنتْ فلَذات أكبادها وسقتْهم من روحها عطفاً، وإيماناً وتُقى؛ إنّها سيّدة نساء العالمين. سيتناول هذا المقال وجهاً مضيئاً من كيانها النوري، لنرى ما هي الأُسس التي بلورت السعادة والاستقرار الأسري في حياة الزهراء الأمّ عليها السلام!
* نورٌ يُضيء الأُسر الإسلاميّة
هذا الأنموذج الإسلاميّ كان ناطقاً بسلوكه وبأخلاقه بكتاب الله تعالى، فإذا أردنا أنْ ننظر إلى الزهراء عليها السلام الأمّ سنستقي نوراً يُضيء به الكثير من الأُسر الإسلاميّة إذا ما سارت على خطى هذه الأمّ العظيمة. “فالسيدة الزهراء عليها السلام مصداق كامل للمرأة المسلمة، وهي في أعلى مقام يمكن أن تبلغه، وهو القيادة. مع وجود هذه العظمة، فإنّ دور الأمّ والزوجة وربّة البيت كان واحداً من أدوار ومهامّ السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام المهمّة”(1).
* ملامح في حياة الزهراء عليها السلام
1- في أيّامنا، تشكّل الأوضاع الماليّة الصعبة عقبة أمام السعادة الأُسريّة وإتمام المهامّ التربويّة للآباء مع أبنائهم -في نظر بعض الناس-، لكن إذا نظرنا إلى حياة الزهراء عليها السلام من الناحية الماديّة، فإنّنا نجد أنّ منزلها عليها السلام كان في قمّة التواضع، وليس فيه أيّ نوع من أنواع الكماليّات التي يُعوِّل عليها الكثير من النّاس أنّها مصدر سعادة واستقرار… صحيح أنّ الصعوبات الماليّة لها تأثير على طبيعة الحياة وتلبية الحاجات، لكنّ الزهراء عليها السلام تُعلّمنا كيف يجب أنْ لا تقف هذه الضائقة الماديّة عثرة في طريق التعبير عن المشاعر العاطفيّة تجاه أولادنا، بل أنْ نجعل منها بلْسماً لجراحنا، فها هي تحنّ حنوّ الأمّ فطريّاً ليس على أولادها فقط، وإنّما على أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فعلى الرغم من يُتمها تخفّف عنه آلام الجراح حتى أصبحت “أمّ أبيها”. وكم هي صفة فريدة من نوعها أن تصل ابنة إلى مرحلة من المراحل تكون فيها أمّاً، ولمن؟ لخير خلق الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالعاطفة التي تبقى جيّاشة رغم الصعاب هي المشاعر الأسمى، لا سيّما بين الأهل والأبناء.
2- الأمّ الصالحة هي ثمرة لابنة بارّة في منبت حسن، فقد ترعرعت السيدة الزهراء عليها السلام في منزل يتمتّع بمودّة كبيرة بين الأب والأم، وقد تمثّل ذلك في أكثر من موقف، منها وقوف السيّدة خديجة عليها السلام الزوجة إلى جانب زوجها في أصعب الظروف، ودعمها له عاطفيّاً ومعنويّاً وماديّاً، وكذلك احترام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للسيدة خديجة عليها السلام من جهة أخرى، وإمدادها بكلّ الدعم المعنويّ والعاطفيّ، والتعامل معها بإجلال واحترام، وهو خاتَم المرسلين، وأقرب الناس لله عزّ وجلّ، وأكرم الخَلق.
لذا، فإنّ الاستقرار النفسي الذي تغذّت عليه روحها عليها السلام كان حجر الأساس في حياتها لبناء دار يفوح منها عبق الحبّ والحنان.
3- عندما أصبحت عليها السلام أمّاً، باتت مواقفها التربويّة محطّة نحاول أن نقرأها بعين علم التربية الحديث، لنستقي منها أساليب عمليّة كانت تقوم بها الزهراء عليها السلام في تربية أولادها. استخدمت عليها السلام ثلاثة أساليب نطلق عليها بعض المصطلحات الحديثة للتربية، كالتربية “بالعادة”، والتربية “بالقدوة” والتربية “بالموعظة”:
الأسلوب الأول: التربية بالعادة
هذا النوع من التربية يعتمد على تعويد الطفل على نمط معيّن وسلوك معيّن. فالزهراء عليها السلام كانت العابدة التي تقوم في محراب صلاتها، فيزهر نورها لأهل السماوات(2). هذا المشهد العبادي المتكرّر أمام أولادها هو نوع من أنواع التربية بالعادة، كما جسّدت نموذج كيفية البذل في سبيل الله ليؤْثِرَ أولادهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فصامتْ عليها السلام معهم ثلاثة أيّام، ولم تكن تفطر إلّا على كسرات الخبز، لكي تقدّم كلّ ما تملك من الطعام صدقة في سبيل الله، فكانت تُطعم الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، وهذا من أنواع التربية بالعادة على التضحية والعطاء؛ ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ (الإنسان: 8). عوّدتهم عليها السلام أن تصبر على غياب أبيهم لأجل الجهاد في سبيل الله دون تململ أو شكوى، فصبرت صبراً جميلاً، وتحمّلت الصعوبات الماديّة والضغوطات النفسيّة ممّن حولها تقرّباً إلى الله تعالى.
الأسلوب الثاني: التربية بالقدوة
كانت السيّدة الزهراء عليها السلام نِعم القدوة لعامّة المسلمين إلى يوم القيامة، وكذلك حال أولادها الذين هم في دارها، فقد ربّتهم على الوقوف في وجه الظالمين، فكان أولادها في مواقفهم كالزهراء عليها السلام يتجرّعون كل الأذى في سبيل الدين. فكان لسان حال الإمام الحسين عليه السلام: “إنْ كان دين محمد لم يستقِم إلّا بقتلي، فيا سيوف خذيني”(3).
وهذه زينب عليها السلام التي تقف وتخطب تصبر وتواجه وتفضح الحكّام الجائرين وحكوماتهم بكلمات عابرة للزمان والمكان، رغم ما يعتصرها من أسى وشجى وأسر وفقْد للأحبة: “فكِدْ كَيدَك، واسعَ سعْيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا”(4)، فبصبرها ويقينها نطقت: “ما رأيتُ إلّا جميلاً”(5).
الأسلوب الثالث: التربية بالموعظة
ربّت السيّدة الزهراء عليها السلام أولادها بالموعظة الحسنة، ويروى عنها الكثير من الروايات والأحاديث التي تتحدّث فيها عن ثواب الأعمال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعندما ينظر إليها الحسن عليه السلام ويراها تتعبّد في محرابها حتى تتورّم قدماها وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، يسألها: يا أمّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فتقول: “يا بنيْ، الجار ثم الدار”(6).
هذه الأم التي تذكر الروايات أنّها في ليالي القدر كانت تقلّل لهم طعام الإفطار، وتطلب منهم أن يناموا في النهار، ليستعينوا بذلك على إحياء ليالي القدر، وهم في عمر صغير، وتحدّثهم عن ثواب وعظَمة هذه الليالي وتحثّهم على أن يكونوا إلى الله أقرب، فكانت تفوح من موعظتها الحسنة وكلامها رائحة الجمال العبادي والنفحات الإلهيّة.
هذه الأم التي خرّجت من كنفها وجناحيها نِعم القدوة للأمّة الإسلاميّة، واستمرت المسيرة بأولادها، واستمرّت رغم قصر عمرها المعدود بالسنين منارة تقتدي به أمهات العالم، بل ورجاله، فقد كانت عليها السلام حجة تامة، مدرسة، وشعلة خالدة لن ينطفئ نورها؛ لأنّ الله متم نوره ولو كره المشركون.