إنّ الحديث هنا عن الصلة التي تربط خير نساء الوجود بخير رجال الوجود، بل خير خلائق أهل السرّ والشهود؛ بين فاطمة سيّدة نساء العالمين، من الأوّلين والآخرين، وبين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خير الخلائق أجمعين. فالحديث عن هذه الصلة ذو رَهْبَة… نعم، إنّ الذهاب إلى استقصاء الأحداث والأحاديث المتعلّقة ببيان تلك العلاقة هو أمر متيسّر فنيّاً، لذوي الأقلام، من خلال كُتب الحديث والسيرة والتاريخ، إلّا أنّ جوهر العلاقة يظلّ طيّ الغيب؛ ففاطمة عليها السلام هي من متشابه الوجود الذي لا يعلم تأويله إلّا الله والراسخون في العلم.
لذلك، سوف أجول على شاطئ هذا البحر لأرصد ما أمكن لمثلي أنْ يراه ويعرضَه في بعض العناوين.
* رائحة الجنّة
في الروايات: “أنّ الله تعالى أمر نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم اعتزال خديجة أربعين ليلة، فاعتزلها تلك المدّة صائماً نهاره، قائماً ليله؛ حتّى إذا كان يوم الأربعين، جاءه جبرائيل عليه السلام بطعام من الجنّة”(1).
وما انفكَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يذكّر أنّها من العالم العُلويّ، فعن ابن عبّاس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: “فاطمة حوراء آدميّة”(2).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ فاطمة حوراء إنسيّة، كلّما اشتقتُ إلى الجنّة قبّلتها”(3).
وقد حظيت من أمّها باهتمام بالغ لم تحظَ به غيرها، حيث ذكر في “البداية والنهاية”: “أنّ خديجة كانت إذا ولدت ولداً دفعته لمن يرضعه، فلمّا ولدت فاطمة لم يرضعها أحدٌ غير خديجة”(4).
ومعلومٌ أنّ فاطمة عليها السلام وُلدت في العشرين من جمادى الآخرة، فعن الإمام الباقر عليه السلام: “وُلدت فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بخمس سنين”(5). وكانت أنيسة أمّها في حملها، ومحدّثتها، ولكنّ عطف الأمّ سرعان ما انكشف ظلّه عن فاطمة، فقد توفّيت والدتها وهي بنت خمس سنين، بعد فكّ حصار قريش عنها وعن المسلمين في شِعب أبي طالب، في العام العاشر للبعثة الشريفة، وقد أرخى ذلك بثقله على الطفلة. فعن الإمام الصادق عليه السلام: “فجعلت تلوذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتدور حوله وتسأله: يا أبتاه، أين أمّي؟”(6). فكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعطيها عطْف الأب وحنان الأمّ.
* أمّ أبيها
كانت فاطمة عليها السلام، رغم حداثة سنّها وصغرها، تحنو على أبيها، وتُدرك مدى الأذى الذي يلحق به من تَبِعات الدعوة، ومصدره مشركو قريش، فكانت تعمد إلى مختلف السُّبُل والوسائل للتخفيف عنه. فعن ابن مسعود: “أنّ النبيّ، عندما كان يصلِّي في المسجد الحرام، عَمَد بعض مشركي قريش إلى إلقاء سَلَى جزور (المشيمة) على كتفيه، وما من مانعٍ له ولا مُدافع. فانطلق أحدهم وأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية (فتاة صغيرة)، فطرحته عنه (…)، فلمّا قضى النبيّ صلاته رفع صوته، ثمّ دعا عليهم. قال عبد الله بن مسعود: “فلقد رأيتهم قُتلوا يوم بدر”(7).
ويوم حصلتْ معركة الخندق وحاصرت الأحزاب المسلمين، جاءت أباها بكَسْرة خبز تقدّمها له قائلة: “من قرصٍ اختبزته لابنَيّ، جئتك منه بهذه الكسرة، فقال: يا بنيّة، أما إنّها لأوّل طعام دخل فم أبيكِ منذ ثلاثة أيّام”(8).
ولا عجب في أنْ تكون فاطمة بهذا الرقيّ في تعاملها مع أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، تعرف سرّه ومقامه، ويعرف مكانتها ومنزلتها التي حباها الله، حتّى سُمع مرّات يقول على المسامع: “فاطمة أمّ أبيها”(9).
* بين مكة والمدينة
لقد عايشت فاطمة عليها السلام الجهاد النبويّ في مكّة المكرّمة، وشاهدت وواجهت ما كان يواجه به المشركون أباها من الاستهزاء والسخرية، ثمّ عانت مع المحاصَرين في شِعب أبي طالب، وواجهت ذلك بكلّ ثبات وعنفوان وصمود، رغم نعومة الأظفار؛ ولم يشفع لطفولتها البريئة ولا لحقّانيّة الوحي والنبوّة، أن يطالها الجوع والترهيب والقسوة المستمدّة من صمم الأوثان وريح الجاهليّة الهوجاء.
نعم، قرّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يهاجر المسلمون، على دفعات، إلى الحبشة، ثمّ إلى يثرب، وقرّر هو أن يستكشف المواطن التي يمكن أن تنصر دعوة الحقّ، فهاجر أخيراً إلى المدينة المنوّرة، وترك عليّاً ليقضي ديْنه ويُنجز عداتِه ويؤدّي أماناته إلى أهلها، ثمّ يلتحق به، مع مَن بقي في المدينة من ذويه، ومنهم فاطمة. فأدّى عليّ عليه السلام الأمانات إلى أهلها، ونفّذ وصيّة ابن عمّه، ثمّ تجهّز وهاجَر في وضح النهار، في تلك الصحراء، في درب طويلة، يحرس الرّكب في مجموعة من النساء بينهنّ الفواطم الأربع: فاطمة بنت محمّد، فاطمة بنت أسد (والدته)، فاطمة بنت الزبير بن عبد المطلّب، وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلّب(10).
* في المدينة تأسّس بيت الأمان
وفي المدينة، كان الموطن الجديد، الذي أسّست فيه مع بَعْلها، عليّ بن أبي طالب عليه السلام، بيت الأمان لأهل دائرة الإمكان. فكانت كوثر هذه الأمّة وربّت أبناءها. واجهت مع المسلمين بقيادة أبيها كلّ التحديات والحروب وأصناف الحصار، ثمّ المِحَن التي ابتليت بها بعد رحيل أبيها، حتى كانت شهادتها في عجلة من أمرها، ودُفنت ليلاً وسرّاً، بحسب وصيّتها، في مكان قريب من مرقد أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، غير محدَّد إلى اليوم.
* كوثر النبوّة
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ (سورة الكوثر).
وقد ورد أنّ قريشاً “كانت تقول: إنّ محمّداً أبتر؛ أي لا عقب له ولا نسل ولا ذرِّيّة؛ لأنّ أولاده الذكور كانوا يُتوفَّون الواحد تلو الآخر صغاراً، في حياته حتّى لم يبقَ منهم أحد”(11)، فأنزل تعالى هذه السورة، التي قيل الكثير في تفسير كوثرها، وقد أوْرد الفخر الرازي في تفسيره خمسة عشر قولاً في معناها؛ وفي الثالث من هذه الأقوال يقول إنّ المقصود بالكوثر: “أولاده؛ لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على مَنْ عابَهُ بعدم الأولاد. فالمعنى: أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قُتل من أهل البيت عليهم السلام، ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبقَ من بني أميّة في الدنيا أحدٌ يعبأ به، ثمّ انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام، والنفس الزكيّة وأمثالهم”(12).
وفي الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لخديجة عليها السلام عندما قربت ولادة فاطمة عليها السلام: “يا خديجة، هذا جبرائيل يبشّرني أنّها أنثى، وأنّها النسمة الطاهرة الميمونة، وأنّ الله سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نَسلها أئمّة في الأمّة، ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه…” (13).
* آية الحقّ
قال تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران: 61).
وقد ورد أنّ الآية نزلت بعد أن قدِمَ وفدٌ من نصارى نجران يجادلون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في النبي عيسى عليه السلام، وقد قدّم لهم الرؤية القرآنية في ذلك، فأصرّوا على موقفهم بغير دليل، فدعاهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المباهلة لمعرفة من صدقتْ دعواه وتنزل لعنة الله على الكاذبين.
“فلمّا أصبحوا على موعد المباهلة، جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إليهم محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسـن عليه السلام، وفاطمــة عليها السلام خلـفــه، وعلـيٌّ عليه السلام خلفـهما، وهو يقــول: اللهــمّ هؤلاء أهلي”. قال الشعبي: قوله تعالى: ﴿أَبْنَاءنَا﴾ الحسن والحسيـن، ﴿ وَنِسَاءنَا﴾ فاطمــة، ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ عليٌّ. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إذا أنا دعوتُ فأمّنوا”.
فلمّا رأى نصارى نجران ذلك وسمعوا قوله، قال لهم كبيرهم: يا معشر النصارى إنِّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى منكم على وجه الأرض أحد…
يقول ابن طلحة الشافعي: “فانظر بنور بصيرتك، أمدَّك الله بهدايتها، إلى مدلول هذه الآية وترتيب مراتب عبارتها، وكيفيّة إشارتها على علوّ مقام فاطمة في منازل الشرف وسموّ درجتها…” (14).
* روح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
فاطمة هي روح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كما صرّح بذلك في غير نصٍّ ومناسبة. فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: “فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبَيَّ”(15).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّما فاطمة شَجْنَةٌ(16) منّي…” (17).
* مِسك الختام
قالوا: وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ذات يوم، وقد أخذ بيد فاطمة وقال: “من عَرَفَ هذه فقد عرفها، ومَنْ لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمّد، وهي بضعة منّي، وهي قلبي الذي بين جنبَيّ؛ فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله”(18).
وهذا، إنْ دلَّ على شيء، فإنّما يدلّ على كون ما بين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبين فاطمة عليها السلام، هو سرٌّ عميق، لا ندرك نحن سوى ظاهره، فلا يعرفها عليها السلام سوى الراسخين في العلم، وعلى رأسهم أبوها وبعلها وبنوها المعصومون عليهم السلام… رزقنا الله محبّتها والتأسّي بها في الدنيا، وشفاعتها يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا مَنْ أتى الله بقلب سليم.