لعلّه من المتعذّر، بل المستحيل، الحديث عن حياة أيّ زوجة بمعزل عن البيت الزوجيّ الذي عاشت فيه ومعرفة حجم المسؤوليّات والأخطار والتحدّيات التي واجهها ذلك البيت، فكيف لو كان ذلك البيت هو البيت العلويّ الذي واجه تحدّيات على مستوى الأمّة، وتهدّدته الأخطار والمكائد الكبرى، وحيكَت ضدّه الدسائس والمؤامرات التي استهدفت بنيان الدّين وصرْح الرسالة، وتهدّدتها بشكلٍ مباشر وقويّ، عندها سنشعر بذلك الدور الكبير وعظمة المشهد لسيّدة عظيمة كالسيّدة الزهراء عليها السلام.
* عليّ عليه السلام كفؤ فاطمة عليها السلام
حينما ننظر إلى حياة السيّدة الزهراء عليها السلام، التي واكبت فيها أمير المؤمنين عليه السلام كزوجة، ندرك عظمة دورها عليها السلام، ونفهم بشكل أكبر معنى الحديث المرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لو لم يخلق الله عليّ بن أبي طالب ما كان لفاطمة كفؤ”(1)، أو ما رُوي من أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة الزفاف قال لعليّ عليه السلام: “يا عليّ، نِعمَ الزوجة زوجتك”، وقال لفاطمة عليها السلام: “يا فاطمة، نعِم البعل بعلُك”(2).
* كمال الزهراء عليها السلام الزوجة
وإذا أردنا الوقوف على نصٍّ صريح يبيِّن لنا حقيقة وكمال السيّدة الزهراء عليها السلام كزوجة، فإنّه من الطبيعيّ أن نرجع إلى كلام أمير المؤمنين عليه السلام، والذي يبيِّن فيه ليس كمال السيّدة الزهراء كزوجة فحسب، بل كمال الزوجة بشكلٍ مطلق؛ لأنّه من الطبيعيّ أن يتجسّد كمال الزوجة في السيّدة الزهراء عليها السلام، وبالتالي فإنّ هذا الحديث يشكّل الأفق الذي ينبغي أن تسعى إليه أيّ زوجة.
فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في حقّ فاطمة عليها السلام: “فوالله ما أغضبتُها ولا أكرهتُها على أمرٍ حتّى قبضها الله عزّ وجلّ، ولا أغضبتْني ولا عَصَتْ لي أمراً، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان”(3).
وهذا الحديث يُظهر مدى المساحة الإنسانيّة المشتركة بينهما، والتي لو رجع إليها أيّ زوجين لأدركا أنّ الحقوق الإنسانيّة هي التي تفرض جوّ الوئام والانسجام بين الطرفين، وأنّ احترام هذه الحقوق وتقديسها من أوجب الواجبات في الحياة الزوجيّة. لذلك لم تكن علاقة عليّ عليه السلام بالسيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام في كونها زوجته فقط، بل لمكانتها العظيمة التي ارتقت بها لتكون سيّدة نساء العالمين، ولأنّها بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت الشخصيّة الجامعة لمختلف الفضائل والقيم والكرامات.
* تقسيم المهام والأدوار
ومن الطبيعي أن يتحوَّل كلّ فعلٍ أو قولٍ أو سلوك في ذلك البيت الزوجيّ الذي يعيش فيه معصومان إلى أسوةٍ وسنّةٍ حسنة لكلّ البيوتات الزوجيّة. البيت الوحيد الذي كان يضمّ بين جدرانه زوجين يتّصفان بالفضائل الأخلاقيّة والكمال الإنسانيّ هو بيت عليّ وفاطمة عليهما السلام، ولا سيّما في ما يرتبط بتقسيم الأدوار وتوزيع المهام. ولعلّ هذه النقطة من أولى النقاط في حياة وسعادة أيّ بيت زوجيّ، وفي هذه النقطة نقرأ ما جاء عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: “إنّ فاطمة ضمنت لعليّ: عمل البيت والعجين والخبز وقمّ (كنس) البيت، وضمن لها عليٌّ ما كان خلف الباب: نقل الحطب، وأنْ يجيء بالطعام، فقال لها يوماً: يا فاطمة، هل عندكِ شيء؟ قالت: والذي عظّم حقّك ما كان عندنا منذ ثلاث إلّا شيء آثرتك به، قال: أفلا أخبَرْتني؟ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهاني أن أسألك شيئاً، فقال: لا تسألين ابن عمّك شيئاً، إن جاءك بشيء عفواً وإلّا فلا تسأليه…”(4).
وفي روايةٍ أنّه قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخدمة فاطمة دون الباب، وقضى على عليّ عليه السلام بما خلفه. قالت فاطمة عليها السلام: “فلا يعلم ما داخلَني من السرور إلّا الله، بإكفائي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحمّل رقاب الرجال”(5).
هذا القضاء جعل وجه فاطمة يتهلّل بالبِشر ويداخلها سرورٌ عظيم؛ لأنّها كانت تدرك أنّ معقل جهاد المرأة بيتها، وأكبر التحدّيات التي تواجهها إنّما تقع داخل المنزل، والتي يأتي في مقدّمتها تربية الأطفال وبناء الجيل الرساليّ الواعيّ الذي تليق به حمل أعباء مسؤوليّة مواجهة التحدّيات التي عصفت بالأمّة في تلك المرحلة، فجعلها كورقةٍ في مهبِّ الريح.
* تفانيها في عمل المنزل
لقد كانت بنت النبيّ الأكرم تبذُل قصارى جهدها لإسعاد أُسرتها، ولم تستثقل أداء مهامِّ البيت رغم كلّ الصعوبات والمشاقّ، حتّى إنّ عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام رقّ لحالها وامتدح صُنعها، وقال لرجل من بني سعد: “ألا أُحدّثك عنّي وعن فاطمة؟ إنّها كانت عندي، وكانت من أحبّ أهلي إليه، وإنّها استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وطحنت بالرّحى حتى مَجِلت يدها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتّى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألتِه خادماً يكفيكِ ضرّ ما أنتِ فيه من هذا العمل، فأتت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فوجدت عنده حدّاثاً فاستحت فانصرفت”.
قال عليّ عليه السلام: فَعلم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّها جاءت لحاجة، قال عليه السلام: فغدا علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم… فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “السلام عليكم”، فقلت: “وعليك السلام يا رسول الله، ادخل”، فلم يعد أن يجلس عندنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “يا فاطمة، ما كانت حاجتك أمس عند محمّد؟”. قال عليه السلام: “فخشيتُ إنْ لم تُجبه أنْ يقوم”، فأخبره عليّ بحاجتها، فقلت: “أنا والله أُخبرك يا رسول الله إنّها استقت بالقربة حتى أثّرت في صدرها، وجرّت بالرّحى حتّى مجلت يداها، وكسحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتّى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألتِه خادماً يكفيك ضرّ ما أنت فيه من هذا العمل”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “أفلا أُعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فسبّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين”(6). وفي رواية أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لها: “مَضَيْتِ تريدين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا فأعطانا الله ثواب الآخرة”(7).
وعن أَنَس: أنّ بلالاً أبطأ عن صلاة الصبح، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “ما حبَسك؟”، قال: مررتُ بفاطمة تطحن والصبيّ يبكي، فقلت لها: إنْ شئتِ كفيتُكِ الرّحى وكفيتني الصبيّ، وإنْ شئتِ كفيتكِ الصبيّ وكفيتني الرّحى، فقالت: “أنا أرفق بابني منك”.
فذاك الذي حبسني، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “فرحِمْتها، رحمك الله”(8).
نعم، كانت فاطمة عليها السلام تواجه الجوع بالصبر، والحرمان باليقين بما عند الله ومرارة العيش بحلاوة الإيمان، فهي لم تطمع في دنيا قطّ، ولم يذكر التاريخ لنا أيّ قصة أو كلمة خلاف ذلك، بل كانت تعيش في بيت عليّ عليه السلام وهي ترنو إلى النعيم الذي لا ينضب، والخلود الذي لا يوصف، يوم يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب.
والأهمّ في هذه النقطة أنّ حياتها الشاقّة لم تتغيّر حتّى بعد أن أصبحت موفورة المال، في سعة من العيش -خصوصاً بعد فتح بني النضير وخيبر وتمليكها أرض فدك وغيرها- عمّا كانت عليه قبل ذلك، رغم غلّتها الوافرة؛ إذ روي أنّ أرض فَدك كان دَخْلها أربعة وعشرين ألف دينار، وفي رواية سبعين ألف دينار سنويّاً، لكنّ هذا المال كانت عليها السلام تنفقه على الفقراء والمساكين، وفي سبيل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام.