مشت السيّدة الزهراء عليها السلام إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما تخرُم مشيتها مشية أبيها صلى الله عليه وآله وسلم(1)، وفي نفسها مبادئ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وروح خديجة عليها السلام وبطولة عليّ عليه السلام(2)، لتخطب خطبة عصماء تضمّنت أسمى درجات البلاغة والفصاحة وفنون الأدب، والعلم. يعرض هذا المقال شذرات فكرية دينية، أسست سلام الله عليها خطبتها عليها.
* خطاب سياسيّ – دينيّ
إنّ الخطبة العصماء التي خطبتها السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جاءت بعد سلسلة أحداث، كان آخرها قرار ضمّ فدك وبعض متروكات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملكيّة الخلافة، ومن خلالها طالبت بحقّها وصرّحت بأنّ فدك مُلك لها. وقد روى هذه الخطبة الشريفة أعلام الرواة من العامّة والخاصّة(3).
إنّ تحليل خطبة الزهراء عليها السلام يوضح أنّها ليست مجرّد خطاب سياسيّ محض، بل هي خطاب دينيّ، عقيديّ، تاريخيّ، قانونيّ، سياسيّ، اجتماعيّ، ثوريّ.. ذو أبعاد وأهداف متعدّدة. والخطاب الدينيّ هو ما سنقف عنده ونضيء على بعض معارف الخطبة لناحية التأسيس العقائديّ في مطلعها، وبيان علل التشريعات العباديّة فيها.
* تأسيس عقديّ في مطلع الخطبة
تبدأ عليها السلام الخطبة بحمد الله والثناء عليه، ثمّ تعرّج على: التذكير بنعَمِهِ، والكلام عن توحيد الله وعظمته، وفلسفة الخلقة، وبعث الرسل، وعلّة الثواب والعقاب، ثمّ تنتقل إلى أبيها العظيم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك الرسول الذي شرّفه الله وفضّله على جميع المخلوقات قبل أنْ يخلُق الخَلق أجمعين، ثمّ تتحدّث عن القرآن الكريم ودور المسلمين في المحافظة على دساتيره وقوانينه وأحكامه، لتوضّح بعد ذلك عليها السلام غاية الإيمان بقولها: “فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشّرك…”، إذ تؤكّد أنّ الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، الذي أوجب الله الالتزام به كعقيدةٍ رصينة للمسلم، يمثّل المناعة الطبيعيّة التي يمتلكها المسلم لدرء وباء الشّرك الذي يُزلزل العقيدة القويمة ويهدّد كيانها بالانهيار.
بعد ذلك تحددّ عليها السلام معالم الإسلام بقولها: “وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة، فاتقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتُنّ إلّا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه…”. فهي تعلن حرمة الشّرك الذي إذا دخل في كيان المرء لا يمكن أن تتحقق منه العبوديّة المطلقة لله.
ثم تعلن عليها السلام فلسفة تحريمه التي تنسجم ومتطلّبات الإيمان الصّحيح، وأنّ تحريمه كان حفظاً لمبدأ العبوديّة المطلقة لله سبحانه.
* عِلل الأحكام في خطبة الزهراء عليها السلام
وفي لفتة جميلة تنتقل عليها السلام إلى أهمّ ما جاء في القرآن الكريم من أحكام وشرائع، مع بيان مقتضب وعميق لفلسفة الأحكام، كالصلاة والصيام، والحج والجهاد والقصاص، فالتفتت عليها السلام إلى أهل المجلس وقالت: “… فجعل الله… الصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحجّ تشييداً للدين، والجهاد عزّاً للإسلام وذلاً لأهل الكفر والنّفاق…”.
* “الصّلاة تنزيهاً لكم عن الكبر”
فالصّلاة في منطق الزّهراء عليها السلام رفع للإنسان من حضيض التكبُّر إلى مستوى التّواضع، وهي ابتداءٌ لصلة روحيّة بين الإنسان وخالقه، تتّخذ طابعاً خاصّاً من الدُّعاء والتجرُّد، ولوناً متميّزاً من السُّلوك، فحين يقف المرء أمام خالقه الكبير يعلن اعترافه بربوبيّته وعبوديّته وحاكميّته المطلقة. والاعتراف بالعبودية لله تعالى يرسم للمسلم الواقعيّ صورةَ حياة مثاليّة متعدّدة الجوانب، مطبوعة بطابع الخضوع المُطلق للعزيز الحكيم. وبهذا، تُلغى كلُّ معالم الخيلاء والتكبُّر من المجتمع الذي يعيش في إطار الرسالة الإسلاميّة، وعمليّة الإلغاء لصفة التكبُّر في نفسيات الأفراد بعضهم على بعضهم الآخر، لا تتمّ إلّا عن طريق الشعور بالخضوع لله وحده.
* “والزكاة تزكية للنّفس ونماء في الرّزق”
يتكرّر في كثير من آيات التشريع المباركة ذكر الزكاة بعد ذكر الصّلاة، ولهذا السّر عينه راحت الزّهراء تجلّي فلسفة الزّكاة. والسرّ في ذلك أنّ الله خلق الإنسان وخلق معه غرائز وطاقاتٍ لا يمكن التغاضي عن إشباعها، وفي طليعة هذه الطّاقات غريزة حبّ التملُّك. وعندما تستبدُّ هذه الغريزة بالإنسان تجعل من حياته حياةً جافّةً سلبيةً لا تحمل في رحابها أيّ نوع من أنواع الرّحمة والعطف تجاه الفقراء. ولهذا، فإنّ أحد المقوّمات التي رسمها الإسلام الحنيف لتوجيه غريزة التملُّك توجيهاً تربويّاً ينتفع منه الفرد والمجتمع بعيداً عن عنفوان الأنانيّة والاستئثار، ففرض ضريبة الزّكاة على الأغنياء ما داموا يعيشون في مستوىً لائق من العيش.
أمّا في الوجه الثاني لفلسفة الزكاة، فتقول عليها السلام: “ونماءً في الرّزق”، فليست الغاية من الزكاة تزكية النفوس من الأنانيّة والبغضاء -فحسب- وإنّما لها غاية تتعلّق بمحيط الإنسان -نفسه- فينمو رزقه وتزداد ثروته وتكثر خيراته.
* “والصّيام تثبيتاً للإخلاص”
الصّوم الذي فرض الإسلام طبيعته وحدّد إطاره: هو إقلاع عن المتطلّبات الجسمية من أكل وشرب وجماع، وفيه تتحقّق عمليّة قهر أعنف الغرائز في كيان الإنسان، فتقهر غريزة المعدة والغريزة الجنسيّة. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، وإنّما يتعدّاه إلى صوم الجوارح. وثّمة نقطة أُخرى تلوح لنا كشعاع ينبثق من فريضة الصّيام، هي: أنّ المسلم الذي استطاع أن يكبت أشدّ غرائزه إلحاحاً، وأعظمها خطراً، فانتصر عليها هازئاً بالمادّة، هو أقدر على أن ينتصر لمبدئه الذي استجاب هو لندائه، فمنع نفسه عن لذاتها ومشتهياتها، ليدكّ صروح أعدائه، وإن ادلهمّ الخَطب وازدحم الدّرب بالمخاطر، وحينئذ يبرهن على فاعليّة إيمانه وعلى مدى إخلاصه لله سبحانه.
* “والحجَّ تشييداً للدّين”
بهذه العبارة القصيرة، تكشف الزّهراء عن فلسفة الحجّ وأهدافه السامية، فهو تشييد للرسالة وإقامة لصروحها الشامخة. ولكن، لماذا تعلن الصّدّيقة عليها السلام كون الحجّ تشييداً للدّين دون غيره من الفرائض؟ لأنّه في حقيقته مؤتمر إسلاميّ كبير يضمّ ممثّلين عن مختلف الشعوب الإسلامية.
وحين يعيش الحجيج هذه الإشعاعات التي تنبثق من فريضة الحجّ، فإنّما يعيشون الإسلام حقيقة واقعة، ويعيشون الوحدة التي حمل الإسلام لواءها بكلّ أبعادها، حيث يجتمعون في بقعة واحدة، ويردّدون نداءً واحداً، ويحملون هدفاً واحداً، هو رضوان الله تعالى، وتسودهم المساواة بكلّ أبعادها أيضاً، فاللباس موحّد، والهتاف موحّد، والعمل واحد، والفعّاليّات واحدة. وهذه المراسيم تمثّل المساواة التي رسم الإسلام حدودها بأعلى صورها وأنصع ألوانها، وعلى هذا الأساس، يتحقّق مفهوم الأُخوّة ويتجسّد حقيقة ملموسة. فحين ينكشف لنا هذا المغزى الرّصين من تشريع الحجّ نكون قد فهمنا الدّافع الذي حمل الزهراء عليها السلام لتعدّ الحجّ تشييداً للدّين.
* “والجهاد عزّاً للإسلام وذلاً لأهل الكفر والنّفاق”
الجهاد فرض عباديّ تتولاّه الأُمّة الإسلامية، استجابةً لنداء الإسلام المفروض عليها، كونه يحفظ بقاء الإسلام وقوته وعزة المسلمين وبلدانهم وأعراضهم. والزّهراء عليها السلام حين تحدّد لنا الغاية التي شُرِّع الجهاد من أجلها تضع أمام الأجيال نقطتين هامّتين تكشف عن طريقهما الحقيقة التي شرع الجهاد من أجلها بأقصر وأفضل السُّبل، فالجهاد في نظر الزهراء يحقّق النّصر المؤزر للرسالة الإسلامية أوّلاً، ويكسبها العزّة والظهور على كل المناهج الجاهلية المعوجّة ويهزم قوى الضّلال والكفر ثانياً، حيث يتمخّض عن الجهاد إذلال المعسكر الجاهليّ وتوهين مكائده وتوجيه صفعة شديدة لأهل النّفاق، كما يفيد كلامها عليها السلام.
* “وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة”
وهنا تُبرز الزهراء عليها السلام مفهوماً إسلاميّاً، ما اختلفت الأُمّة الإسلامية في شيء كاختلافها فيه، ذلك: هو المفهوم السياسيّ الإسلاميُّ الذي يبتني على أساسه الكيان الدولي والإداريّ لهذه الأمّة.
وقد أبرزت هذا المفهوم بجانبيه: التشريعيّ والتطبيقيّ. وعبّرت الزهراء عليها السلام عن العنصر الأول (عنصر التّشريع) بالفقرة الأولى من عبارتها: “وطاعتنا نظاماً للملّة”، حيث أعلنت: أنّ طاعة أهل البيت عليهم السلام تحفظ الشّرع المقدّس من كلّ اختلاف أو تصدُّع، وهنا تبرز عظمة الزهراء عليها السلام حيث تقول: “وطاعتنا” حقيقة منطقيّة ثابتة نطق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بها وأكّدتها عشرات المواقف بشهادة كبار الصحابة والتابعين.
ثمّ تكشف الزهراء عليها السلام الشّطر الثّاني من المفهوم السّياسيّ في الإسلام، فتقول: “وإمامتنا أماناً من الفرقة”. فإذا كانت الزهراء قد قصدت الجانب التشريعيّ من المسألة الإدارية لشؤون الأُمّة في العبارة الأُولى “وطاعتنا نظاماً للملّة”، فإنّها ترسم هنا الشقّ الثاني من الموضوع ذاته، فتعلن كون إمامة أهل البيت عليهم السلام وقيادتهم لهذه الأُمّة مفروضتين من الله سبحانه كسائر الواجبات، وعلّة هذا الفرض تتجلّى في تخليص الأُمّة من شبح التمزُّق والتخريب والانقسامات المصلحيّة؛ لأنّ إقصاء أهل البيت عليهم السلام عن مركزهم القياديّ يفضي إلى قيام صراع سياسيّ على الحكم والإدارة، أمّا إذا تولّى أهل البيت هذا المقام الرّفيع، فإنّ أحداً من الناس غير قادر على بلوغ مقامهم الذي بوّأهم الله سبحانه إيّاه من معرفة تامّة لمعالم الشّريعة الإسلامية أو من عصمة نفسيّة تحفظهم من كلّ خطأ في أحكامهم وقراراتهم. إذاً، فإنّ الزهراء عليها السلام قد لفتت في كلامها إلى أهميّة المسألة وحساسيتها حين لخّصت ذلك بقولها عليها السلام: إنّ إمامة أهل البيت عليهم السلام ابتعاد عن الفرقة والاختلاف على الصعيدين السياسيّ والاجتماعيّ.