محمد تقي المدرسي
جاءت النظرة الإلهية لتنسف روح الاستعلاء، والسيطرة العنصرية للرجل على المرأة، هذه السيطرة التي ظلت سائدة في مجال التعامل الاجتماعي مع المرأة طيلة قرون عديدة، وهي للأسف مازالت سائدة حتى في المجتمعات الغربية التي تدّعي تحرير المرأة، وإعطائها حقوقها.
وكان من نتيجة تلك النظرة العادلة ان ظهرت نساء ارتفعن وسمون الى منازل القدوة في جميع الخصال والصفات الرفيعة السامية، فتراهن مثال الشجاعة والصبر والمقاومة والتحمل حين الإقدام، والمبادرة الى رفض الظلم والتجبر والطغيان .. فإذا بهن قمم شامخة في الشجاعة والجرأة والعلم والتقوى، وكل معالم الفضيلة، والأخلاق الرفيعة، وآفاقها الواسعة.
ولا شك ان فاطمة الزهراء عليها السلام تقف في مقدمة هؤلاء النساء الرافضات للظلم والطغيان، والمعلمات للمرأة دروس الجهاد والمشاركة في تحمل اعباء المسؤولية الرسالية.
والسؤال المهم المطروح في هذا المجال هو: لماذا كان هذا النور الإلهي الذي انبثق من صلب خاتم النبيين والرسل محمد صلى الله عليه وآله، فتجسد في شخصية فاطمة الزهراء عليها السلام، وامتد في حياة ووجود الرسالة، وكان ركنا أساسيا في بقائها واستمرارها الى يومنا هذا، ولماذا اقتصرت ذريته الكريمة صلى الله عليه وآله على هذه الريحانة الطاهرة المباركة؟
السبب في ذلك دون شك أن فاطمة، هذه الصديقة الطاهرة، هي جزء لا يتجزأ من نور الرسالة، ودعامة أساسية من دعامات الإيمان. فالزهراء البتول عليها السلام غدت من خلال سيرتها الطاهرة، وظلامتها التي تتصدر كل ظلامة في التاريخ البشري؛ غدت مسيرة رسالية جهادية، وملاك رحمة للعالمين. فهي بذرة الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهي جوهر أهل البيت الطاهر الذي شاء الله عزّ وجلّ له أن يكون مشكاة لنور يسطع وهاجاً في ضمير الزمان، وعلى امتداد الدهور. ففاطمة عليها السلام هي أم أبيها قبل أن تكون أما لأحد عشر كوكبا يسطع في سماء الإمامة، وعالم الرسالة.
منطلق ذرية الرسول
فما هي الحكمة- يا ترى- في ان تشاء الإرادة الإلهية أن تكون ذرية الرسول صلى الله عليه وآله منطلقة من ريحانته الزهراء عليها السلام؟
أن هذه الحكمة تتضح لنا اذا ما عرفنا أن المرأة التي أصبحت في أحيان كثيرة عرضة للاستضعاف والاستغلال وسلب حريتها وكرامتها، هي أحوج ما تكون الى من تقتدي بها في سلوكها وتصرفاتها في نطاق المجتمع والأسرة، لتكون هذه القدوة هي المدافعة عن حقوقها وكرامتها من الإجحاف والتطاول، ولتبثّ في النسوة كافة المعنوية العالية، والثقة بالنفس للدفاع عن كرامتهن، والمطالبة بحقوقهن، واستنكار الانحراف والاعوجاج في التعامل الاجتماعي معهنّ، وخصوصا فيما يتعلق باستبداد الرجال واستضعافهم لهنّ.
فلو تعرضت المرأة للظلم الاجتماعي ولم يكن بمقدور أي احد ان يطالب بحقوقها لأسباب قاهرة، فما الذي تصنعه المرأة في هذه الحالة، وكيف تواجه هذا الظلم والإجحاف، وهل تتخذ موقف السكوت والصمت فتتنازل وتتراجع وتستسلم للهزيمة؟
أن ذلك لا يمكن مادامت هناك فاطمة في التأريخ تتحدّى، وتقف في وجه الانحراف والظلم. فهي القدوة التي وقفت تطالب بحقها، لا طمعا فيه، بل لانه حق يجب أن لا تسكت عنه. وفي نفس الوقت فان مطالبتها هذه هي درس لكل الاجيال، وخصوصا الشطر النسوي من المجتمع بأن لا يسكتن عن المطالبة بالحق، وتحقيق العدالة عندما ترتكب المظالم، وتسحق الكرامات.
فالزهراء عليها السلام نزلت الى الساحة السياسية ودافعت عن حقها الذي كان ينطوي في حقيقته على الدفاع عن الإمامة، والتراث النبوي، وأولوية أهل بيت العصمة عليهم السلام في الإمساك بزمام أمور الأمة.
والمهم في قضية الزهراء عليها السلام تصدّيها بنفسها للدفاع عن الحق، حيث ان هذا الدفاع يمثل في حد ذاته قيمة إلهية، ولاسيّما عندما تنطلق صرخات الاحتجاج والمعارضة من فم امرأة مظلومة كفاطمة.
ومن ذلك كله تتجلى أمامنا الحكمة الإلهية التي اقتضت أن تكون الصديقة الطاهرة عليها السلام هي العقب الطاهر، والامتداد الكريم لرسول رب العالمين. فقد شاء الله تبارك وتعالى أن يمنّ على البشرية في آخر عهد من عهود الرسالات الإلهية برجل فوق كل الرجال سموّاً وعلوّاً وأخلاقاً رفيعة، وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله؛ وبامرأة هي سيدة نساء أهل الدنيا والآخرة، ورثت علم النبوة والرسالة من أبيها، فكانت المدافعة عن تراثه صلى الله عليه وآله حتى آخر رمق من حياتها الشريفة.
وهكذا لم يكن من اللهو والعبث أو العاطفة الأبوية المحضة قوله صلى الله عليه وآله:” فاطمة؛ أم أبيها” 1، وحاشاه من ذلك وهو كما قال تعالى: ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ﴾ 2، فقوله ذلك وقوله الآخر الذي اجمع عليه أهل القبلة كما في موسوعة بحار الأنوار:” الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا” 3 لم يصدرا منه اعتباطا، بل هما تأكيد
على الامتداد والبقاء الرسالي في فاطمة وعلي والذرية الطاهرة من أبناء الحسين عليهم السلام أجمعين.
وهذه الأحاديث وغيرها تعني ان قيم ومفاهيم وتعاليم الإسلام وتشريعاته كادت ان تمحى لولا الجهود التي بذلتها فاطمة الزهراء عليها السلام، ولولا تصدّيها، وهدير خطبتها التاريخية في نساء الأنصار عندما وضعت النقاط على الحروف، وأبانت الحقائق لكل ذي لبّ.
وهكذا فمن أجل أن تدفع المرأة عن نفسها التردي والابتذال الرخيص اللذين ابتليت بهما في العصر الراهن، فانها لابد لها ان تدافع عن نفسها، وتستنكر التيارات الجاهلية التي تستهدف النيل من عفّتها وكرامتها، وذلك من خلال الاقتداء بالزهراء عليها السلام المرشدة والمعلمة الاولى لكل نساء العالم وعلى امتداد التأريخ. فقد علّمت هذه المرأة العظيمة النساء درس العفاف، وصيانة الشرف والكرامة، وحذّرتهن من الوقوع في شرك الشهوات الرخيصة، وسدّت عليهن عبر سيرتها المباركة أبسط منفذ من الممكن ان يؤدي بهنّ الى الانحطاط والابتذال .. فدعت المرأة الى ان تحفظ كرامتها وعزّتها، وتصون استقلالها وشخصيتها، وان لاترتضي لنفسها ان تكون دمية واداة بيد طلّاب الشهوات، وحذّرتها من التبرج والتهتك المؤديين الى الانحلال والفساد والانحطاط الأخلاقي.
حجة الله على النساء
وهكذا فان هذا الامتداد الرسالي الذي تمثله سيدة نساء العالمين عليها السلام، هو مصداق قول النبي صلى الله عليه وآله:” فاطمة أم ابيها”، وبذلك فإنها عنوان المرأة المتكاملة، والقدوة والمثل الأعلى لكل النساء اللاتي يردن لأنفسهن الشرف والاستقلال والحشمة، وعدم الابتذال والتهتك. ومن ذلك يتضح أن حق فاطمة عليها السلام على النساء هو حق عظيم. فهي الحجة عليهنّ أولًا، قبل ان تكون حجة بالغة على المؤمنين.
وعلى هذا الصعيد نشاهد اليوم بوضوح موجة العودة الى العفاف والتمسك بالحجاب، وفي المقابل نجد أذيال الاستكبار ورواد الفساد والتحلل واتباعهم يحاولون التصدي لهذه الموجة من خلال محاربة الحجاب، وشنّ الحملات الإعلاميّة الظالمة ضدّه. ولا غرابة في ان يصدر ذلك منهم، لأن انتشار هذا المدّ المبارك يعني انهدام ركن أساسي من أركانهم التسلّطية التي يقومون عليها، وبالتالي فانه سيؤدي إلى دمارهم ونهايتهم.
انهم يشجّعون التهتك والفساد بمختلف وسائلهم الدنيئة، بغية إلهاء الشعوب المسلمة، وصرفها عن التفكير في مصائرها، واغفالها عما يجري من نهب لثرواتها، وسحق لكراماتها .. وعلى هذا فان نشر الفساد، والخلاعة، ومظاهر التبرج انما هو هدف سياسي استعماري قديم. ومن هنا يجب على المرأة ان تعي هذه الحقيقة لكي لا تتحول الى وسيلة لتحقيق تلك الأهداف، وبالتالي تكون السبب في نزول الضرر والدمار عليها وعلى أبناء جيلها 4.
1. فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى، عن المناقب، ج 3، ص 357.
2. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآيات: 2 – 5، الصفحة: 526.
3. بحار الانوار ج 43 ص 291، ح 54.
4. کتاب فاطمة الزهراء عليها السلام قدوة الصديقين، لآية الله السيد محمد تقي المدرسي