جاء في مقابلة لقاء قناة الفرقان مع سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي عام 2009 م والتي كانت تحت عنوان “الزهراء (ع): الأسوة الحسنة” مايلي:
س1: ما الذي يضيفه وجود الزهراء (عليها السلام) على الرسالة الإسلامية في مجتمع يرى الرجل مقدّماً على المرأة في أغلب الأمور؟
سماحة الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سادة الخلق أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.
بُعث النبي الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) في مجتمع جاهلي مليء بالفواحش والمنكرات وقد أعطينا صورة عن حاله في كتاب (الأسوة الحسنة)، ومن تلك المنكرات: احتقار المرأة وامتهانها ووصل بهم الأمر إلى قتلها ودفنها وهي حيّة للتخلص منها، وقد وصف الله تبارك وتعالى مشاعرهم عندما تولد لهم بنت بقوله: [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ] (النحل:59).
وقد عالج الشرع المقدس هذا الظلم بعدة أشكال منها:
1- التأكيد في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة على حقيقة المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات، والثواب والعقاب، ومنها قوله تعالى: [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى] (آل عمران:195).
2- ضرب الأمثلة من نساء فضليات لكي يتأسى بها الرجال والنساء وليعلم الرجال قبل النساء أن المرأة يمكن أن تبلغ مراتب سامية يغبطها عليها الرجال كمريم ابنة عمران وامرأة فرعون، قال تعالى: [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ] (التحريم:11-12) والآية تصرّح أنهما ضُربتا مثلاً لكل الذين آمنوا سواء كانوا من الرجال أو النساء.
3- التهديد والوعيد لمن يقتل المرأة مادياً بوأدها أو معنوياً بإهانتها وظلمها وسحق شخصيتها قال تعالى: [وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] (التكوير:8-9) وفي الحديث الشريف عن النساء: (ما أكرمهنّ إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم)([2]).
4- منح الدرجات الرفيعة لمن فرح بكون المولودة بنتاً وأكرم المرأة وأحسن رعايتها، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) بسند عالي الصحة قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنة، فقيل: يا رسول الله واثنتين؟ فقال: واثنتين، فقيل: يا رسول الله وواحدة؟ فقال: وواحدة)([3]) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً: (البنات حسنات، والبنون نعمة، والحسنات يثاب عليها، والنعمة يسأل عنها([4])) وعن الإمام الرضا (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن الله تبارك وتعالى على الإناث أرق منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة إلا فرّحه الله تعالى)([5]).
5- جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أكرم الخلق وسيدهم أبا بنات، ففي رواية صحيحة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا بنات)([6]) بل جعل ذريته من بنته الزهراء (عليها السلام) وسماها بالكوثر التي تعني الخير الكثير، قال تعالى: [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ] (الكوثر:1).
وأهم تلك المعالجات ما منَ الله تبارك وتعالى على المسلمين بل جميع الناس بسيدة كريمة هي أكمل الخلق أجمعين بعد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوجها أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهي سيدة العالمين من الرجال والنساء، ولا يتوهم أحد أنها سيدة نساء العالمين، وإنما هي سيدة العالمين جميعاً من الرجال والنساء لكنها من النساء، وأذكر دليلاً واحداً على ذلك، فقد ذكرت الآيتان في الفقرة (2) أعلاه أن الله تبارك وتعالى جعل مريم ابنة عمران وامرأة فرعون مثلاً وأسوة لجميع الذين آمنوا، ولا شك أن الزهراء (عليها السلام) هي أفضل منهما وأحرى بالتأسي بها.
س2: يتردد على ألسنة الخطباء وفي بعض الكتب أن الزهراء سميت فاطمة لأنها فُطمت هي ومحبوها من النار، فهل هذا معنى يمكن قبوله وأن مجرد حب فاطمة (عليها السلام) ينجي الشخص من دون عمل؟
سماحة الشيخ: يمكن الجواب على عدة مستويات:-
1- إن هذا المعنى قد ورد في روايات معتبرة وإذا كان الأمر كذلك فعلينا التسليم والقبول لما يصدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) وآله المعصومين (عليهم السلام) ولو كان سند الحديث غير معتبر لشككنا في صدوره، ومن الطرق المعتبرة ما رواه محمد بن مسلم قال: (سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لفاطمة (عليها السلام) وقفة على باب جهنم، فإذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل: مؤمن أو كافر فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه إلى النار فتقرأ فاطمة بين عينيه محباً فتقول: إلهي وسيدي سمّيتني فاطمة وفطمت بي من تولاني وذريتي من النار ووعدك الحق وأنت لا تخلف الميعاد، فيقول الله عز وجل: صدقتِ يا فاطمة إني سميتك فاطمة وفطمت بك من أحبك وتولاك وأحب ذريتك وتولاهم من النار ووعدي الحق وأنا لا أخلف الميعاد، وإنما أمرت بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه فأشفّعك وليتبين لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف موقفك مني ومكانتك عندي فمن قرأتِ بين عينيه مؤمناً فخذي بيده وأدخليه الجنة)([7]).
2- إن نقل هذا الحديث لم يقتصر على علماء الشيعة بل نقله علماء السنة أيضاً بطرق متعددة، وقد ذكر منها صاحب كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 3/151) عدة مصادر كتاريخ بغداد للخطيب البغدادي في ترجمة غانم بن حميد الشعيري: 6772 بسنده عن ابن عباس وفي ذخائر العقبى وكنز العمال.
3- لماذا نستكثر على الله تبارك وتعالى، أن يعطي من غير استحقاق إكراماً لأكمل عباده ولتعريف الخلائق بقرب منزلة الزهراء (عليها السلام) منه تبارك وتعالى، والله تعالى متفضّل منّان يبتدئ بالنعم من غير استحقاق، نَعم المنافي لعدله أن يعاقب من غير ذنب، أما التفضّل بالعطاء من غير استحقاق فهذا مناسب لكرمه.
وأضرب لك مثلاً من عملكم في الفضائيات، فإن لبعضها برامج مسابقات وإعطاء الجوائز للفائزين، وأحياناً تريد إدارة القناة إعطاء الجوائز بأي شكل لغرضٍ ما كالترويج لها أو لمساعدة الناس، فتسأل الشخص سؤالاً ما فلا يجيب فتبسّط له السؤال فلا يجيب، إلى أن تسأله: ما اسمك؟ وهو يعرفه قطعاً فإذا أجاب هللوا له فرحاً واعتبروه فائزاً وأعطوه الجائزة.
4- إن الحب الوارد في الرواية لا يراد به الميل العاطفي الذي ربما ينشأ من تعصّب لموروث اجتماعي أو تقليد الآباء والأجداد وهذه مناشئ لا قيمة لها، وإنما يراد به الحب المبني على المعرفة والذي تقترن به ملازماته من اتباع سيرة المحبوب وإدخال الرضا عليه، كما قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمرك في الفعال بديعُ
لو كان حبّك صادقاً لأطــعته إن المحبَّ لــمن أحبَّ مطيعُ
س3: هل تعد الامتيازات التي حظيت بها الزهراء (عليها السلام) حكراً عليها باعتبارها ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أم أن من الممكن أن توجد هذه الصفات (الامتيازات) في امرأة أخرى؟
سماحة الشيخ: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يحابي أحداً أو يجامله على حساب الحق، لأنه كما وصفه ربه: [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى] (النجم:3-4) وقال تعالى: [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ،لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ] (الحاقة:44-46).
وإن موازين التكريم والتفضيل محددة في كتاب الله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (الحجرات:13) أما النسب فلا اثر له بذاته قال تعالى: [فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ] (المؤمنون:101-103).
وقد نزلت سورة كاملة في ذم أبي لهب عم رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فالزهراء (عليها السلام) لم تحظَ بهذه المنزلة الرفيعة لمجرد بنوتها لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنما نالتها بما وصلت إليه من درجات الكمال.
نعم إن كونها بنتاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وفّر لها ظروفاً للتكامل من طيب الولادة إلى الأجواء الصالحة داخل الأسرة إلى حسن التربية إلى الرعاية المباشرة من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وفي ضوء ذلك فإن فرصة التكامل غير المتناهي متوفرة برحمة الله ولطفه لكل الناس، لكن سبق في علمه تبارك وتعالى أن لا يصل إلى مرتبة الزهراء إلا هي (سلام الله عليها).
س4: من بين جميع الأمور التي اتصفت بها الزهراء (عليها السلام) هو كثرة نقلها لأحاديث أبيها، في حين يعتقد البعض أن هذا الجانب مغيّب من حياة الصديقة فما رأيكم؟
سماحة الشيخ: هذا صحيح فإن الزهراء (سلام الله عليها) استفادت علماً جمّاً من أبيها (صلى الله عليه وآله) مباشرة ومن خلال استنطاق ولديها الحسنين يومياً عند عودتهما من مسجد جدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) عما نزل عليه من القرآن وما تحدث به في المسجد، وكانت لديها صحائف تدون فيها تلك الإفادات النبوية الشريفة، ولكن لم يصل إلينا إلا النادر، وبقي هذا المجموع من الصحائف الذي عُرف بـ(مصحف فاطمة) متوارثاً عند أولادها الحجج الميامين (سلام الله عليهم) ويأخذون منه ويحتجّون به، وقد ورد عن الإمام العسكري (عليه السلام): (نحن حجج الله على الناس، وجدتي فاطمة حجة الله علينا)ولكنه أُخفي عن الأمة كما أُخفي قبر الزهراء (عليها السلام) وحرموا من هذه البركات العظيمة.
وممن اطلع عليه الصحابي الجليل عبد الله الأنصاري ورأى فيه أسماء الأئمة الاثني عشر منصوصاً عليهم بالأسماء. ففي رواية معتبرة عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن جابر قال: (دخلت على فاطمة (عليها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها فعددتُ اثني عشر آخرهم القائم ثلاثة منهم محمد وأربعة منهم علي)([8]).
س5: كثر الأخذ والرد والشبهات على شيء اسمه مصحف فاطمة؟ هل يوجد مثل هذا الكتاب؟ وهل هذا الكتاب موجود في وقتنا الحاضر؟ ما هو هذا الكتاب إن وجد؟ وما هي مضامينه؟
سماحة الشيخ: قد أوضحنا في جواب السؤال السابق معنى مصحف فاطمة وأنه كتاب دوّنت فيه الزهراء (عليها السلام) ما استفادته من أبيها (صلى الله عليه وآله) من تفسير الآيات و بيان للأحكام و مواعظ وأخبار ما سيقع في المستقبل و نحوها.
وليس هو مصحفاً أي قرآناً غير هذا الذي في أيدنا والذي تلقيناه جيلاً بعد جيل حتى زمان المعصومين (عليهم السلام) الذين أمرونا أن نقرأ كما يقرأ الناس ونتلوه في صلواتنا ومساجدنا ونطهّر بتلاوته قلوبنا ونفوسنا، وقد استشهدت في كلامي الآن بآيات عديدة فهل وجدت فيها شيئاً غير ما في هذا المصحف الكريم؟ وأما الذي يلقي هذه الشبهات لتمزيق صف المسلمين و [حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ] (البقرة: 109) فليس عليه إلا أن يذهب لأي مسجد أو مكتبة أو دار لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) أو يستمع لمقرئيهم فهل يجد عندهم قرآناً غير هذا المتداول؟
إن اهتمام أئمتنا (عليهم السلام) بالقرآن وصدور مئات الأحاديث عنهم في تعظيمه والحث على تلاوته والتدبر في آياته والعلوم المكنونة فيه وشكواه (القرآن) من هجرانه، وحادثة الإمام العسكري (عليه السلام) الذي وقف بحزم بوجه فيلسوف العرب إسحاق الكندي الذي ألف في متناقضات القرآن حتى مزّق ما كتب.
كل هذا ينفي أي تشكيك في كون هذا القرآن المتداول هو ما أنزله الله تبارك وتعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
نعم كانت للصحابة مصاحب فيها اختلاف عما هو موجود كمصحف أم المؤمنين حفصة ومصحف عبد الله بن مسعود الذي حذف المعوذتين اجتهاداً منه بأنهما ليستا سورتين من القرآن وإنما هما تعويذتان نزلتا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعوّذ بهما الحسنين (عليهما السلام)، ونقل المؤرخون أن الخليفة عثمان أحرق كل تلك المصاحف وأبقى على نسخة واحدة هي المتداولة.
س6: تعوّدنا منك سماحة الشيخ ومن خلال كتبكم (الأسوة الحسنة) و (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) وغيرهما أن تركّزوا على الدروس المستفادة من سيرتهم (صلوات الله عليهم أجمعين) باعتبارهم المثل الأعلى الذي يُتأسّى به ولا تكتفون بالسرد التأريخي لحياة المعصومين فهل يمكنكم الإشارة إلى مثل هذه الدروس من حياة الزهراء (عليها السلام)؟
سماحة الشيخ: تحدثنا في ذلك الكتاب عن أهمية الأسوة الحسنة في أية رسالة إصلاحية ومنها رسالة الإسلام لإقناع الناس بها وإلا ما قيمة أن يعرض الإنسان كلاماً طيباً لكنه يخالفه في العمل، ولذا كان دور أهل البيت (عليهم السلام) عظيماً في تثبيت عقائد الإسلام وأحكامه والحفاظ عليه لأنهم جسّدوا الشريعة على أرض الواقع.
وهكذا كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) أسوة حسنة للعالمين جميعاً من الرجال والنساء، وسيرتها المباركة غنية بالدروس والعبر، وفيها الكثير مما يطلبه التواقون إلى الصعود في مدارج الكمال:
(الأول) فناؤها في ربّها وإخلاصها في طاعته تبارك وتعالى وبلوغها أعلى مراتب المعرفة، لأن منازل الناس تتفاوت في الجنان على قدر معرفتهم بربهم –كما في الحديث الشريف- وقد بلغت أعلى المراتب بعد أبيها وزوجها (صلوات الله عليهما) وكانت تفرّغ لعبادتها الكثير من وقتها، روى الإمام الحسن (عليه السلام) لأخيه الحسين (عليه السلام) قال: (رأيت أمي فاطمة (عليها السلام) قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح)([9]).
ويقول الحسن البصري: (ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة كانت تقوم حتى تورم قدماها)([10]).
ومن كلماتها (سلام الله عليها): (من أصعد إلى الله خالص عبادته أهبط الله عز وجل عليه أفضل مصلحته)([11]).
ومن نتائج هذه المعرفة المتكاملة بالله تعالى الإعراض عما سواه كما وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) المتقين: (عظُم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم)([12]) لذا عاشت فاطمة (عليها السلام) زاهدة في دنياها ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشجعها على ذلك؛ عن الإمام السجاد (عليه السلام) قال: (حدّثتني أسماء بنت عميس قالت: كنت عند فاطمة جدتك إذ دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي عنقها قلادة من ذهب كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) اشتراها لها من فيء له فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يغرّنك الناس أن يقولوا بنت محمد وعليك لباس الجبابرة، فقطّعتها وباعتها واشترت بها رقبة فأعتقتها فسرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بذلك)([13]).
(الثاني) الالتزام الدقيق بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أبوها، قالت أم المؤمنين عائشة: (ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاّ ً وهدياً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قالت: وكانت إذا دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)قام غليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها)([14]).
وكانت (صلوات الله عليها) لا تكتفي بإتيان ما ترغب فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) واجتناب ما يكرهه (صلى الله عليه وآله وسلم) بل إنها تتحرك للامتثال لمجرد علمها برغبته (صلى الله عليه وآله وسلم) وإرادته وإن لم يعبّر عنها، فقد روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قدم من سفر وكان أول ما يأتي إلى دار فاطمة فيسلم عليها وكانت (عليها السلام) قد علّقت ستراً وزينة احتفالاً بقدوم أبيها وزوجها (صلوات الله عليهما) فعرفت في وجهه عدم الرضا فتصدقت بالستر والزينة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (فعلت فداها أبوها -ثلاث مرات-، ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى فيها كافراً شربة ماء)([15]).
(الثالث) طاعتها لإمامها وهو زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام) ودفاعها عن حقه ونصرته بكامل ما تملك ومواقفها بعد وفاة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خير دليل على ذلك.
(الرابع) علاقتها بأسرتها، فقد جسّدت في علاقتها مع زوجها الحديث الشريف: (جهاد المرأة حسن التبعّل) وبذلت غاية الوسع في خدمة البيت والأسرة وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يذكر لها ذلك، واستشهدته عندما دنت منها الوفاة وقالت له: (يا ابن العم هل عهدتني كاذبة أو خائنة مذ عاشرتني؟ قال (عليه السلام): أنت أبرّ وأوفى من أن أوبّخك بكلمة يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولقد عزّ علي فراقك)([16]).
وأحسنت تربية أولادها وكانت تبعث الحسنين (عليهما السلام) مع أبيهما أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مسجد جدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسألهما إذا عادا عن كل ما قال أو فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت تعينهما على طاعة الله تبارك وتعالى، ففي كتاب مفاتيح الجنان في أعمال ليلة القدر أنها كانت تنيمهما في النهار مقداراً ليقويا على إحياء الليل بالعبادة، وكانت تخاطبهما: يا ولدي ويا قرة عيني، فخلقت أجواء غاية في السعادة والانسجام داخل الدار مع صعوبة الحياة يومئذٍ وشدة الحاجة والمحن التي مرّت على المسلمين في صدر الإسلام.
(الخامس) وضربت أروع الأمثلة في العفة والحياء فقد روي عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: (قال علي (عليه السلام): استأذن أعمى على فاطمة (عليها السلام) فحجبته، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها: لم حجبتيه وهو لا يراك؟ فقالت (عليها السلام): إن لم يكن يراني فإني أراه وهو يشم الريح، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أشهد أنك بضعة مني).
وبهذا الإسناد قال: (سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه عن المرأة: ما هي؟ قالوا: عورة، قال: فمتى تكون أدنى من ربها؟ فلم يدروا، فلما سمعت فاطمة (عليها السلام) ذلك قالت: أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن فاطمة بضعة مني)([17]).
وروى علماء الشيعة والسنة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لها: (أي شيء خير للمرأة؟ قالت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، فضمها إليه وقال: ذرية بعضها من بعض)([18]).
(السادس) إظهار كرامة المرأة في الإسلام، ومن معالم ذلك كفاية مؤونتها على الرجل، قال الإمام السجاد (عليه السلام) في دعاء مكارم الأخلاق: (واكفني مؤونة الاكتساب، وارزقني من غير احتساب، فلا أشتغل عن عبادتك بالطلب، ولا أحتمل إصر تبعات المكسب) وبهذا الصدد روى الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه الباقر (عليه السلام) قال: (تقاضى علي وفاطمة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخدمة، فقضى على فاطمة بخدمة ما دون الباب، وقضى على علي بما خلفه، قال: فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحمل رقاب الرجال)([19]).
(السابع) اعتماد أسلوب الحوار والمحاججة والوسائل السلمية للمطالبة بالحقوق عند من يحترم هذه الأساليب وهذا ما تكشفه خطبها على أصحاب أبيها (صلى الله عليه وآله) المملوءة بالحجج الدامغة المستندة إلى كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله).
(الثامن) تقديم المصلحة العليا وحفظ كيان المسلمين ودولة الإسلام على المصالح الشخصية فعندما غُصبت حقوقها وزوجها (سلام الله عليه) ولم تُجدِ الخطابات عُرضت عليهما النصرة بالخيل والرجال لكن أمير المؤمنين (عليه السلام) علم أن مراد هؤلاء الفتنة وشق الصف في وقت كانت الأعداء والمرتدّون يتربصون بالمدينة وأهلها لنقض عرى الإسلام بمساعدة المنافقين في داخلها.
(التاسع) الإيثار على نفسها، ومن الشواهد على ذلك ما أنزل الله تعالى فيه سورة (هَلْ أَتَى) حيث تصدّقوا (سلام الله عليهم) بطعامهم وبقوا طاوين من الجوع ثلاثة أيام، وما ورد عن الإمام الحسن (عليه السلام) وهو يتحدث لأخيه الحسين (عليه السلام) عن أمهما فاطمة (عليها السلام): (وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار)([20]).
وغيرها كثير، ويجب أن نعترف بوجود التقصير الكبير مضافاً إلى القصور في التعريف بالزهراء (عليها السلام) ولو أجريت كشفاً بما كتب عن الزهراء (عليها السلام) للتعريف بها وبسيرتها المباركة والتأسي بها لوجدت أنه مقدار ضئيل، مضافاً إلى التقصير العملي وأعني تجسد حياة الزهراء (عليها السلام) على أرض الواقع.
لكنني متفائل بهذه الصحوة العالمية المباركة تجاه قضية الزهراء ولا شك أنها فتح عظيم وتساهم بدرجة كبيرة في إعادة الحق على نصابه والتمهيد للدولة الكريمة والله ولي التوفيق.