لمّا تزوّج علي من فاطمة عليها السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعليّ: “اُطلب منزلاً”، فطلب علي منزلاً فأصابه مستأخراً عن النبي صلى الله عليه وآله قليلاً فبنى بها فيه.
فجاء النبيّ صلى الله عليه وآله إلى ابنته فقال: ” إنّي اُريد أن اُحوّلك إليّ”، فقالت لرسول الله صلى الله عليه وآله: “فكلّمْ حارثة بن النعمان أن يتحوّل عنّي” فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” قد تحوّل حارثة عنّا حتى قد استحييت منه”، فبلغ ذلك حارثة فجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وقال: يا رسول الله إنّه بلغني أنّك تحوّل فاطمة إليك وهذه منازلي وهي أسقب بيوت بني النجّار بك، وإنّما أنا ومالي لله ولرسوله، والله يا رسول الله المال الذي تأخذ منّي أحبّ إليَّ من الذي تدع، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” صدقت، بارك الله عليك” فحوّلها رسول الله إلى بيت حارثة.
انتقلت السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام إلى البيت الزوجي وكان انتقالها من بيت الرسالة والنبوّة الى دار الإمامة والولاية، فهي تعيش في جوّ تكتنفه القداسة والنزاهة، وتحيط به عظمة الزهد وبساطة العيش، وكانت تعين زوجها على أمر دينه وآخرته.
كان عليّ (عليه السلام) يحترم السيّدة فاطمة الزهراء احتراماً لائقاً بها، لا لأنّها زوجته فقط، بل لأنّها أحبّ الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ولأنّها سيّدة نساء العالمين، ولأنّ نورها من نور رسول الله صلى الله عليه وآله، ولأنّها مجموعة الفضائل والقيم.
ولم يُعلم بالضبط مدّة إقامة الإمام عليّ والسيّدة فاطمة عليهما السلام في دار حارثة بن النعمان إلاّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله بنى لها بيتاً ملاصقاً لمسجده، له باب شارع إلى المسجد كبقية الحجرات التي بناها لزوجاته، وانتقلت السيّدة فاطمة إلى ذلك البيت الجديد الملاصق لبيت الله والمجاور لبيت رسول الله صلى الله عليه وآله.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله ليترك هذا الغرس النبويّ دون أن يرعاه ويحتضنه بتوجيهه وعنايته، فعاش الزوجان في ظلّ رسول صلى الله عليه وآله وفي كنفه ومنحى صلى الله عليه وآله فاطمة بعد زواجها ما لم يمنحه لأحد من الحبّ والنصيحة والتوصية، فقد علّمها أبوها صلى الله عليه وآله معنى الحياة، وأوحى لها بأنّ الإنسانية هي جوهر الحياة، وأنّ السعادة الزوجية القائمة على الخلق والقيم الإسلامية هي أسمى من المال والقصور والزخارف وقطع الأثاث وتحف الفن المزخرفة.
وتعيش فاطمة الزهراء في كنف زوجها قريرة العين سعيدة النفس، لا تفارقها البساطة ولا يبرح بيتها خشونة الحياة، فهي الزوجة المثالية، زوجة عليّ عليه السلام بطل المسلمين، ووزير الرسول صلى الله عليه وآله ومشاوره الأول، وحامل لواء النصر والجهاد، وعليها أن تكون بمستوى المسؤولية الخطيرة، وأن تكون لعليّ كما كانت اُمّها خديجه لرسول الله صلى الله عليه وآله تشاركه في جهاده وتصبر على قساوة الحياة ورسالة الدعوة الصعبة.
لقد كانت حقاً بمستوى مهمتها التي اختارها الله تعالى لها، فكانت القدوة الصالحة للمسلم الرسالي وللمرأة النموذجية المسلمة.
أ ـ إدارة شؤون البيت والحياة الشاقة:
البيت الوحيد الذي كان يضمّ بين جدرانه زوجين معصومين مطهّرين منزّهين عن ارتكاب الذنوب واكتساب المآثم، يتصفان بالفضائل الأخلاقية والكمال الإنساني هو بيت علي وفاطمة عليهما السلام.
فعليّ عليه السلام نموذج الرجل الكامل في الإسلام، وفاطمة نموذج المرأة الكاملة في الإسلام، ترعرعا في ظلّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وغذّاهما بالعلم وسائر الفضائل، واستأنست آذانهما الواعية منذ الصغر بالقرآن الكريم وهما يسمعان النبيّ صلى الله عليه وآله يرتّله ليلاً ونهاراً وفي كلّ آن، وأطلاّ على الغيب وارتشفا العلوم والمعارف الإسلامية من معينها الأصيل ومنبعها العذب، ورأيا الإسلام يتحرّك في شخص رسول الله صلى الله عليه وآله فكيف إذن لا تكون اُسرتهما النموذج الأمثل للاُسرة المسلمة؟.
كان بيت عليّ وفاطمة عليهما السلام أروع نموذج في الصفاء والإخلاص والمودّة والرحمة، تعاونا فيه بوئام وحنان على إدارة شؤون البيت وإنجاز أعماله، وقضى رسول الله صلى الله عليه وآله بخدمة فاطمة دون الباب وقضى على عليّ عليه السلام بما خلفه.
قالت فاطمة عليها السلام: ” فلا يعلم ما داخلني من السرور إلاّ الله، بكفايتي رسول الله صلى الله عليه وآله تحمّل رقاب الرجال”.
إنّ الزهراء خرّيجة مدرسة الوحي، وهي تعلم أنّ معقل المرأة من المواقع المهمّة في الإسلام، وإذا ما تخلّت عنه وسرحت في الميادين الاُخرى عجزت عن القيام بوظائف تربية الأبناء كما ينبغي، ومن هنا تهلّل وجهها بالبشر وداخلها السرور بما قضى به الرسول صلى الله عليه وآله.
لقد كانت بنت النبيّ الأكرم تبذل قصارى جهدها لإسعاد اُسرتها، ولم تستثقل أداء مهام البيت رغم كلّ الصعوبات والمشاق، حتى أنّ عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام رقّ لحالها وامتدح صنعها، وقال لرجل من بني سعد: ” ألا اُحدّثك عنّي وعن فاطمة؟ إنّها كانت عندي وكانت من أحبّ أهله صلى الله عليه وآله إليه، وإنّها استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد فقلت لها: لو أتيت أباكِ فسألتيه خادماً يكفيكِ ضرّ ما أنتِ فيه من هذا العمل، فأتت النبيّ (صلى الله عليه وآله) فوجدت عنده حدّاثاً فاستحت فانصرفت”.
قال علي عليه السلام: فَعلم النبيّ صلى الله عليه وآله أنّها جاءت لحاجة، قال عليه السلام: فغدا علينا رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن في لِفاعنا، فقال صلى الله عليه وآله: السلام عليكم، فقلت: وعليك السلام يا رسول الله اُدخل، فلم يعد أن يجلس عندنا، فقال صلى الله عليه وآله: يا فاطمة، ما كانت حاجتك أمس عند محمّد؟ قال عليه السلام: فخشيت إن لم تجبه أن يقوم، فأخبره عليّ بحاجتها، فقلت: أنا والله اُخبرك يا رسول الله إنّها استقت بالقربة حتى أثّرت في صدرها وجرّت بالرحى حتى مجلت يداها وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألتيه خادماً يكفيك ضرّ ما أنت فيه من هذا العمل، فقال صلى الله عليه وآله: “أفلا اُعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فسبّحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبّرا أربعاً وثلاثين”.
وفي رواية: أنّها لمّا ذكرت حالها وسألت جارية بكى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ” يا فاطمة والذي بعثني بالحقّ، إنّ في المسجد أربعمائة رجل ما لهم طعام وثياب ولو لا خشيتي لأعطيتك ما سألتِ، يا فاطمة وإنّي لا اُريد أن ينفك عنكِ أجرك إلى الجارية، وإنّي أخاف أن يخصمك علي بن أبي طالب عليه السلام يوم القيامة بين يدي الله ـ عزوجل ـ إذا طلب حقّه منكِ، ثم علّمها صلاة التسبيح”.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ” مَضَيْتِ تريدين من رسول الله صلى الله عليه وآله الدنيا فأعطانا الله ثواب الآخرة”.
وفي ذات يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله على عليّ عليه السلام فوجده هو وفاطمة عليها السلام يطحنان في الجاروش، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله: “أيّكما أعيى؟” فقال عليّ عليه السلام: “فاطمة يا رسول الله” فقال (صلى الله عليه وآله: ” قومي يا بنية”، فقامت وجلس النبي صلى الله عليه وآله موضعها مع علي عليه السلام فواساه في طحن الحبّ.
وروي عن جابر الأنصاري أنّه رأى النبي صلى الله عليه وآله فاطمة وعليها كساء من أجلة الإبل وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: ” يا بنتاه، تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة” فقالت: ” يا رسول الله، الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائهِ”، فأنزل الله: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾.
وعن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: ” كان أمير المؤمنين عليه السلام يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز”.
وعن أنس: أنّ بلالاً أبطأ عن صلاة الصبح، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله: “ما حبسك؟” قال: مررت بفاطمة تطحن والصبي يبكي، فقلت لها: إن شئت كفيتك الرحى وكفيتني الصبي، وإن شئت كفيتكِ الصبي وكفيتني الرحى فقالت: ” أنا أرفق بابني منك”.
فذاك الذي حبسني، قال صلى الله عليه وآله: ” فرحمتها، رحمك الله”.
وعن أسماء بنت عميس عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله: ” أنّ الرسول صلى الله عليه وآله أتى يوماً فقال: أين ابناي؟” يعني حسناً وحسيناً، قالت: ” أصبحنا وليس عندنا في بيتنا شيء يذوقه ذائق”. فقال عليّ عليه السلام: ” اذهب بهما إلى فلان”؟، فتوجّه إليهما رسول الله صلى الله عليه وآله فوجدهما يلعبان في مشربة بين أيديهما فضل من تمر فقال صلى الله عليه وآله: “يا عليّ، ألا تقلب إبنيّ قبل أن يشتدّ الحرّ عليهما؟” فقال عليّ عليه السلام: ” أصبحنا وليس في بيتنا شيء، فلو جلست يا رسول الله حتى أجمع لفاطمة تمرات”، فلمّا اجتمع له شيء من التمر جعله في حجره ثم عاد إلى البيت.
وعن عمران بن حصين قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وآله جالساً إذ أقبلت فاطمة فوقفت بين يديه فنظر اليها وقد غلبت الصفرة على وجهها، وذهب الدم من شدّة الجوع، فقال: ” اُدني يا فاطمة” فدنت ثم قال: ” اُدني يا فاطمة” فدنت حتى وقفت بين يديه، فوضع يده على صدرها في موضع القلادة وفرج بين أصابعه وقال: ” اللهمّ مشبع الجاعة ورافع الوضعة لا تجع فاطمة بنت محمّد”.
هذه هي الدنيا في عين فاطمة بنت الرسول مواجهة للمعاناة وتألّم من الجوع وانهيار من التعب، ولكن كلّ ذلك يبدو ممزوجاً بحلاوة الصبر وندى الايثار، لأنّ وراءه نعيماً لا انتهاء له، حصة يوم يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب .
إنّ إلقاء نظرة فاحصة على حياة الزهراء عليها السلام توضّح لنا أنّ حياتها الشاقة لم تتغيّر حتى بعد أن أصبحت موفورة المال، في سعة من العيش ـ خصوصاً بعد فتح بني النضير وخيبر وتمليكها فدكاً وغيرها ـ عمّا كانت عليه قبل ذلك رغم غلّتها الوافرة، إذ روي أنّ فدكاً كان دخلها أربعة وعشرين ألف دينار، وفي رواية سبعين ألف دينار سنوياً.
فالزهراء لم تعمر الدور ولم تبن القصور ولم تلبس الحرير والديباج ولم تَقْتَنِ النفائس، بل كانت تنفق كلّ ذلك على الفقراء والمساكين وفي سبيل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام.. وهكذا كان حال زوجها عليّ عليه السلام الذي أوْقف على الحُجاج مائة عين استنبطها في ينبع وقد بلغت صدقات أمواله في السنة أربعين ألف دينار وكانت صدقاته هذه كافية لبني هاشم جميعاً إن لم نقل إنّها تكفي اُمة كبيرة من الناس من غيرهم، إذا لاحظنا أنّ ثلاثين درهماً كانت كافية لشراء جارية للخدمة، وكان الدرهم يكفي لشراء حاجات كثيرة حينذاك.
ب ـ طيب معاشرتها للإمام عليّ عليه السلام:
عاشت الزهراء عليها السلام في بيت أعظم شخصية إسلامية بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله على الإطلاق، رجل مهمته حمل راية الإسلام والدفاع عنه.
وكانت الظروف السياسية حسّاسة وفي غاية الخطورة يوم كانت جيوش الإسلام في حالة إنذار دائم، إذ كانت تشتبك في حروب ضروس في كلّ عام، وقد اشترك الإمام عليّ عليه السلام في أكثرها.
وكانت الزهراء توفّر الجوّ اللازم والدفء والحنان المطلوب في البيت المشترك، وبهذا كانت تشترك في جهاد عليّ أيضاً فإنّ جهاد المرأة حسن التبعّل كما ورد في الحديث الشريف.
لقد كانت الزهراء عليها السلام تشجّع زوجها، وتمتدح شجاعته وتضحيته، وتشدّ على يده للمعارك المقبلة، وتسكّن جراحه وتمتص آلامه، وتسرّي عنه أتعابه، حتى قال الإمام عليّ عليه السلام: ” ولقد كنت أنظر اليها فتنجلي عنّي الغموم والأحزان بنظرتي اليها”.
ولقد كانت حريصة كلّ الحرص في القيام بمهام الزوجية، وما خرجت فاطمة عليها السلام من بيتها يوماً بدون إذن زوجها، وما أسخطته يوماً وما كذبت في بيته وما خانته وما عصت له أمراً، وقابلها الإمام عليّ عليه السلام بنفس الاحترام والودّ وهو يعلم مقامها ومنزلتها الرفيعة، حتى قال: ” فوالله ما أغضبتها ولا أكربتها من بعد ذلك حتى قبضها الله إليه، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً”.
وذكر الإمام عليه السلام ذلك في لحظات عمر الزهراء عليها السلام الأخيرة حين أرادت أن توصيه: ” يا ابن عمّ! ما عهدتني كاذبة ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني”؟ فقال عليه السلام: ” معاذ الله، أنتِ أعلم بالله وأبرّ وأتقى وأكرم وأشدّ خوفاً منه، والله جدّدت عليَّ مصيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وقد عظمت وفاتكِ وفقدك، فإنّا لله وإنّا اليه راجعون”.
وعن أبي سعيد الخدري قال: أصبح عليّ بن أبي طالب عليه السلام ذات يوم ساغباً فقال: “يا فاطمة هل عندك شيء تغذينيه؟” قالت: “لا، والذي أكرم أبي بالنبوّة وأكرمك بالوصيّة ما أصبح الغداة عندي شيء وما كان شيء اُطعمناه مذ يومين إلاّ شيء كنت اُؤثرك به على نفسي وعلى ابنيّ هذين ( الحسن والحسين ) فقال عليّ عليه السلام: “يا فاطمة ألا كنت أعلمتني فأبغيكم شيئاً؟” فقالت: “يا أبا الحسن إنّي لأستحي من إلهي أن أكلّف نفسك ما لا تقدر عليه”.
هكذا عاش هذان الزوجان النموذجيان في الإسلام، وأدّيا واجباتهما، وضربا المثل الأعلى للأخلاق الإسلامية السامية، كيف لا؟ وقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله في ليلة الزفاف لعليّ عليه السلام: ” يا عليّ، نِعمَ الزوجة زوجتك” وقال لفاطمة عليها السلام: ” يا فاطمة نعِم البعل بعلُك”.
وقال صلى الله عليه وآله: ” لو لا عليّ لم يكن لفاطمة كفؤ”.
ج ـ فاطمة عليها السلام في دور الاُمّ:
إنّ الاُمومة من الوظائف الحسّاسة والمهام الثقيلة التي اُلقيت على عاتق الزهراء عليها السلام حيث أنجبت خمسة أطفال هم: الحسن والحسين وزينب واُمّ كلثوم في حين اسقط جنينها المحسن قبل ولادته.
وقد قدّر الله سبحانه وتعالى أن يكون نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وذرّيّته من فاطمة عليها السلام، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: ” إنّ الله جعل ذرّيّة كلّ نبيّ في صلبه وجعل ذرّيّتي في صلب عليّ بن أبي طالب”.
إنّ الزهراء عليها السلام ـ وهي ربيبة الوحي والنبوّة ـ تَعرِف جيداً مناهج التربية الإسلامية والتي تجلّت في تربيتها لمثل الحسن عليه السلام الذي أعدّته ليتحمّل مسؤولية قيادة المسلمين ويتجرّع الغصص في أحرج اللحظات من تأريخ الرسالة، ويصالح معاوية على مضض حفاظاً على سلامة الدين الإسلامي والفئة المؤمنة، ويعلن للعالم أنّ الإسلام وهو دين السلام لا يسمح لأعدائه باستغلال مشاكله الداخلية لضربه وإضعافه، فيُسقط ما في يد معاوية ويُفشل خططه ومؤامراته لإحياء الجاهلية، ويكشف تضليله لعامة الناس ولو بعد برهة، ويقضي على اللعبة التي أراد معاوية أن يمرّرها على المسلمين.
والزهراء عليها السلام قد ربّت مثل الحسين عليه السلام الذي اختار التضحية بنفسه وجميع أهله وأعزّ أصحابه في سبيل الله ومن أجل مقارعة الظلم والظالمين، ليُروّي بدمه شجرة الإسلام الباسقة.
وربَّت الزهراء عليها السلام مثل زينب واُمّ كلثوم، وعلّمتهنّ دروس التضحية والفداء والصمود أمام الظالمين، حتى لا يذعنّ ولا يخضعن للظالم وقوته، ويقلن الحقّ، أمام جبروت بني أُميّة بكلّ جرأة وصراحة، لتتّضح خطورة المؤامرة على الدين وعلى اُمّة سيّد المرسلين.
الزهراء عليها السلام مع النبيّ صلى الله عليه وآله في تثبيت دعائم الدولة:
أ ـ الزهراءعليها السلام قبل فتح مكة:
منذ أن دخل رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة المنورة كان دائباً على هدم أركان الجاهلية واستئصال جذورها وضرب مواقعها، فكانت حياته في المدينة المنوّرة كما كانت في مكة حياة جهاد وبناء، جهاد المشركين والمنافقين واليهود والصليبيين، وبناء الدولة الإسلامية العظيمة، ونشر الدعوة وتبليغها في كلّ بقعة يمكن لصوت التوحيد أن يصل إليها، فراح رسول الله صلى الله عليه وآله يحارب بالكلمة والعقيدة تارةً، وبالسيف والقوة تارةً اُخرى، وبالاُسلوب الذي يمليه الموقف وتفرضه الحكمة.
وهكذا جاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وقاتل في مرحلة حرجة صعبة، لم يكن يملك فيها من المال والجيوش والاستعدادات العسكرية ما يعادل أو يقارب جيوش الأحزاب وقوى البغي والضلال التي تصدّت لدعوة الحق والهدى، بل كانت كلّ قواه قائمة في إيمانه وانتصاره بربّه وبالفئة المخلصة من أصحابه.
والذي يقرأ تاريخ الدعوة وجهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وصبره واحتماله; يعرف عظمة هذا الإنسان المبدئي، ويدرك قوّة عزيمته ومدى صبره ورعاية الله ونصره له ولاُولئك المجاهدين الذين حملوا راية الجهاد بين يديه، فيكتشف مصدر النصر والقوة الواقعيين.
ولقد مرّت هذه الفترة الجهادية الصعبة بكامل ظروفها وأبعادها بفاطمة عليها السلام وهي تعيش في كنف زوجها وأبيها، تعيش بروحها ومشاعرها، وبجهادها في بيتها، وفي مواساتها ومشاركتها لأبيها، في شدّته ومحنته، فقد شهدت جهاد أبيها وصبره واحتماله، شاهدته وهو يُجرح في ( اُحد ) وتُكسر رباعيته، ويخذله المنافقون، ويستشهد عمّ أبيها حمزة أسد الله ونخبة من المؤمنين معه.
روي أنّه لمّا انتهت فاطمة عليها السلام وصفيّة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ـ بعد معركة اُحد ـ ونظرتا اليه قال صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: أمّا عمّتي فاحبسها عنّي وأمّا فاطمة فدعها” فلمّا دنت فاطمة عليها السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله ورأته قد شُج وجهه واُدمي فوه، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتد غضب الله على مَنْ أدمى وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان صلى الله عليه وآله يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شيء.
وكانت فاطمة عليها السلام تحاول تضميد جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وقطع الدم الذي كان ينزف من جسده الشريف، فكان زوجها يصبّ الماء على جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وهي تغسله، ولما يئست من انقطاع الدم أخذت قطعة حصير وأحرقتها حتى صار رماداً فذرّته على الجرح حتى انقطع دمه.
ويحدّثنا التأريخ عن مشاركة فاطمة عليها السلام بروحها ومشاعرها لأبيها في كفاحه وصبره وجهاده في أكثر من موقع.
فقد روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قدم من غزاة له، فدخل المسجد فصلّى فيه ركعتين، ثم بدأ ـ كعادته ـ ببيت فاطمة قبل بيوت نسائه، جاءها ليزورها ويسر بلقائها، فرأت على وجهه آثار التعب والإجهاد، فتألّمت لمّا رأت وبكت فسألها صلى الله عليه وآله : ” ما يبكيك يا فاطمة؟” فقالت: ” أراك قد شحب لونك” فقال صلى الله عليه وآله لها: ” يا فاطمة إنّ الله ـ عزوجل ـ بعث أباكِ بأمر لم يبق على ظهر الأرض بيت مدر ولا شعر إلاّ دخله به عزّاً أو ذلاً يبلغ حيث يبلغ الليل”.
وليست هذه العاطفة وتلك العناية والمشاركة مع الأب القائد والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله من ابنته فاطمة عليها السلام هي كلّ ما تقدّمه لأبيها من إيثارها له واهتمامها به ومشاركتها له في شدّته وعسرته، إنّها جاءت يوم الخندق ورسول الله صلى الله عليه وآله منهمك مع أصحابه في حفر الخندق لتحصين المدينة وحماية الإسلام، جاءت وهي تحمل كسرة خبز فرفعتها اليه فقال صلى الله عليه وآله: ” ما هذه يا فاطمة؟” قالت: ” من قرص اختبزته لابنيّ، جئتك منه بهذه الكسرة” فقال صلى الله عليه وآله: ” يا بنيّة أما إنّها لأول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاث”.
هذه صورة مشرقة لجهاد المرأة المسلمة تصنعها فاطمة في ظلال رسول الله صلى الله عليه وآله، فهي تشارك بكلّ ما لديها لتشد أزر الإسلام وتكافح جنباً إلى جنب مع أبيها وزوجها وأبنائها في ساحة واحدة وخندق واحد، لتدوّنَ في صحائف التأريخ درساً عملياً تتلقاه الأجيال من هذه الاُمّة المسلمة، فتتعلّم حياة الإيمان التي تصنعها عقيدة التوحيد بعيدة عن اللهو والعبث والضياع.
ب ـ الزهراءعليها السلام في فتح مكة:
لقد أحسّت سيّدة النساء بالغبطة والسعادة وقد رأت القسم الأكبر من الجزيرة يخضع لسلطان الإسلام ويدين برسالة أبيها، وها هي قريش مع عتوّها وكبريائها ترسل أحد زعمائها إلى يثرب عاصمة الإسلام لتفاوض النبيّ صلى الله عليه وآله على تمديد أمد الهدنة التي تمّ الاتفاق عليها في الحديبية، حينما ذهب النبيّ معتمراً في العام السادس للهجرة.
لقد أرسلت قريش زعيمها أبا سفيان بعد أن أخلّت بالشروط التي تمّ الاتفاق عليها ليعرض على النبيّ طلب قريش فلم يجد تجاوباً من النبيّ، فاستجار بجماعة من المسلمين فلم يجره أحد حتى ابنته رملة زوجة النبىّ صلى الله عليه وآله، فدخل على عليّ والزهراء عليهما السلام يطلب منهما الشفاعة له عند رسول الله صلى الله عليه وآله فأبى كلّ من عليّ والزهراء والحسنين عليهم السلام أن يجيروه، ولمّا يئس من أن يجيره مسلم من المسلمين رجع آيساً خائفاً منكسراً يتعثّر بالفشل والخذلان.
وأيقنت الزهراء من موقف أبيها من أبي سفيان أنّه سيفتتح مكة، ودنت الأيام فخرج الرسول في عشرة آلاف من المسلمين ولواؤه مع ابن عمّه ووصيّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام وخرجت معه الزهراء فيمن خرج معه من النساء، لقد ظلّت الزهراء إلى جانب أبيها مزهوّة بنصر الله وقد رأت الأصنام تحت أقدام أبيها، ورأت قريشاً تلوذ به وتقول: أخ كريم وابن أخ كريم، وأبوها يقول لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
لقد كانت الأيام التي قضتها الزهراء مع أبيها في مكة حافلة بالذكريات، حيث تذكّرت فيها أيام أبيها يوم كان المشركون يطاردونه وأصحابه ويحاصرونه في الشعب، كما وتذكّرت أيام اُمها خديجة وعمّ أبيها أبي طالب.
لقد رأت في تلك الرحلة المظفرة هوازن وثقيفاً وأحلافهما من العرب الذين ظلّوا حتى ذلك التاريخ على موقفهم المتصلّب من الإسلام، رأتهم ينهارون وتندك حصونهم ومعاقلهم وتقع أموالهم وصبيانهم ونساؤهم في معركة حنين غنيمة للمسلمين.
وعادت مع أبيها وزوجها إلى مدينة الأنصار تاركةً مكة مرتع الصبا وموطن الأهل والأحباب، وامتدّت حياتها عامين بعد هذه الرحلة وكانا من أسعد أيّام حياتها حيث الإسلام قد انتشر في جميع أنحاء الجزيرة، وأصبح الأول من بين الأديان.