ألقى سماحة المرجع في النجف الأشرف بتاريخ 3 جمادى الثانية 1432 هـ المصادف 7/5/2011 م الخطاب الفاطمي , وجاء فيه:
ورد في حديث مشهور (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) فالناس وإن تراهم يعملون ويأكلون ويتحدثون إلا أنهم في نومٍ هو نوم الغفلة عن حقيقة وجودهم، وما يراد منهم والهدف الذي يجب أن يتوجهوا إليه، وما الذي ينتظرهم بعد موتهم والنتيجة التي سيحصلون عليها من السعادة أو الشقاء، فإذا ماتوا اكتشفوا أنهم كانوا في هذه الغفلة، وفوجئوا بعدم الاستعداد لتلك الحياة الجديدة الدائمة التي لا يستطيع أحد مهما أوتي من علم أن يدعي معرفة حقيقتها إلا من عرّفهم الله تعالى، وحينئذٍ سيصاب بالذهول وتأخذه الحسرة والندامة كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (عليه السلام): (اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت)، قال تعالى في ذلك: [وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] .
لقد كنت في الدنيا غافلاً عن هذه المشاهد وهذه العاقبة منهمكاً في مشاغلها من مالٍ ومتعة ولهو ولعب وعبث وصراعات وجدلٍ فارغ من غير استعداد لهذا اليوم، وبالموت انكشف عنك غطاء الغفلة فصرت ترى بعين البصيرة النافذة الحادة حقيقة أمرك وعاقبتك بعد زوال الحجاب عنها، فما كنت تعتقد أنه حقيقة من مشاغل الدنيا ولهوها ومتعها وجدت أنه خيال ووهم زائل وسراب كنت تتعلق به يحسبه الظمآن ماءً، وما كنت غافلاً عن الاستعداد له ولا تحسب حسابه قد وجدته حقيقة ثابتة، فالغفلة باتجاهين [وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ].
وبقراءة ما بين سطور الآية الشريفة نستنتج أن هذه الحقائق موجودة في هذه الدنيا؛ لأن الغفلة لا تكون إلا عن شيء موجود، لكن الإنسان لا يرى تلك الحقائق بالعين وإن كانت مفتوحة وإنما بالبصيرة والقلب الطاهر من الرجس فإذا ضرب عليه بحجاب من الغفلة والقساوة والرين فإنه سوف لا يكون مرآةً قابلة لانعكاس الحقائق الموجودة في اللوح المحفوظ.
وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (انتباه العيون لا ينفع مع غفلة القلوب)، والخطاب في الآية الشريفة [لَقَد كُنتَ في غَفلَةٍ] لا يشمل من بلغوا من المعرفة أقصاها وزالت عن بصائرهم حجب الجهل والغفلة وغشاوتها لذا فهم يرون العالم الآخر ويتحدثون عنه كرسول الله([4]) (صلى الله عليه وآله وسلم)، فترى أمير المؤمنين (عليه السلام) استعمل نفس تعبير الآية الشريفة حينما قال: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً؛ لأنه (عليه السلام) لم يكن في غفلة عن هذه الحقائق بل كانت حاضرة عنده (عليه السلام).
إن الغفلة والنسيان وإن كانا أمرين خارجين عن إرادة الإنسان ظاهراً، إلا أن الإنسان هو الذي يوقع نفسه فيهما لقلة تحفظه وانتباهه وبارتكابه مقدماتها وإيجاده الأسباب الموجبة لهما، والتي نعرفها من مضاداتها أي علاج الغفلة التي ذكرها الأئمة (عليهم السلام).
فالإنسان إذن هو الذي يحرم نفسه من معرفة الحقيقة ويحبسها في سجن الغفلة، حينما يرتكب ما يبعده ويشغله عن الله تعالى حتى يقسو قلبه فلا يتقبل المعرفة، عن الإمام الحسن (عليه السلام): (الغفلة تركك المسجد وطاعتك المفسد), وهذه بعض مصاديق ما يوجب الغفلة، وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (إياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في غرر الحكم: (من غلبت عليه الغفلة مات قلبه) (دوام الغفلة تعمي البصيرة).
ولقد ورد التحذير من الغفلة عن الله تبارك وتعالى قال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (الحشر:19)؛ لذا وصفها أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن (الغفلة أضرُّ الأعداء) لأن (الغفلة ضلال النفوس وعنوان النحوس) وقال (عليه السلام): (ويل لمن غلبت عليه الغفلة فنسي الرحلة ولم يستعد).
ومن هنا حرص الشارع المقدس على إيقاظ الناس من غفلتهم قبل فوات الأوان قال تعالى: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] (الحديد:16)، وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ضادّوا الغفلة باليقظة) (ألا مستيقظ من غفلته قبل نفاد مدته) (تداوَ من داء الفترة في قلبك بعزيمة، ومن كرى الغفلة في ناظرك بيقظة).
وبينوا (عليهم السلام) لنا ما يوقظ من نوم الغفلة كالقيام بالأعمال الصالحة ولو على مستوى النية وإن لم يفعلها فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا أبا ذر: همّ بالحسنة وإن لم تعملها لكي لا تكتب في الغافلين)، وتلاوة القرآن فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين), وتقوى الله تبارك وتعالى فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (أوصيكم بتقوى الله .. أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم) والإكثار من ذكر الله تعالى فعنه (عليه السلام) في غرر الحكم (بدوامك ذكر الله تنجاب الغفلة) وذكر الموت، قال (عليه السلام): (أوصيكم بذكر الموت وإقلال الغفلة عنه) واستماع المواعظ ومطالعة كتب الموعظة والتذكير بالآخرة، قال (عليه السلام): (بالمواعظ تنجلي الغفلة) (أغفل الناس من لم يتعظ بتغير الدنيا من حال إلى حال)، وترك اللهو والعبث والأمور الفارغة والاشتغال بما هو مفيد، قال (عليه السلام): (إن كنتم للنجاة طالبين فارفضوا الغفلة واللهو والزموا الاجتهاد والجد) والالتزام بالصلاة والمحافظة على أوقات فضيلتها، قال (عليه السلام): (أيما مؤمن حافظ على الصلوات المفروضة فصلاها لوقتها فليس هذا من الغافلين)، وقد تضمنت الأدعية المباركة طلب اليقظة من الغفلة كقولهم (عليهم السلام): (اللهم نبهني من نومة الغافلين).
أيها الإخوة المؤمنون:
هذه الغفلة عن الله تعالى ترتبط بها غفلة أخرى لا تقل عنها ضرراً هي عدم الاهتداء إلى الحجة المنصوب من الله تعالى لأن بها الضلال عن الدين كما في الدعاء المعروف: (اللهم عرّفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني) وفي ذلك يقول الإمام الحسين (عليه السلام): (معرفة الله هي معرفة كل أهل عصر إمامهم).
فأخطر النوم الذي سيعرف الإنسان حقيقته عندما ينكشف عنه غطاء الغفلة بالموت، هو النوم عن معرفة السبيل الذي يوصله إلى معرفة ربّه ويهديه إلى الصراط المستقيم وفي دعاء الندبة (وقلتَ ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك).
والغفلة عن القيادة الحقة للأمة قد تكون غفلة كاملة باتباع قيادة مناقضة تماماً لها كمن اتبع معاوية ويزيد ونظراءهما وعادى علي بن أبي طالب والحسن والحسين وأولادهم المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين)، وقد تكون على نحو الانحراف عنها باختيار غير الأكفأ والأقدر على تحمل المسؤولية، وبحسب نوع الغفلة ودرجتها تتفاوت الآثار([10]) المترتبة على ذلك ومقدار الابتعاد عمّا أمر الله تعالى، وإن كان الحق واحداً وصراطه مستقيم، وإنما تتكثر طرق الضلالة والانحراف [أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] (يونس:35) [فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ] (يونس:32).
أيها الإخوة المجتمعون على محبة الزهراء (عليها السلام) ونصرتها:
لم تكن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حين خرجت من مسجد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) راغبة في أن تخرج من دارها؛ لأنها القائلة حين سأل أبوها (صلى الله عليه وآله وسلم) عما هو خير للنساء فأجابت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، وحينما تزوجها أمير المؤمنين (عليه السلام) وانتقلت من دار أبيها رسول الله إلى دار زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام)، قسّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العمل بينهما فجعل على علي (عليه السلام) ما خلف باب الدار وعلى فاطمة (عليها السلام) ما دون الباب، فقالت فاطمة (عليها السلام): (فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحمل رقاب الرجال)([11])، لكنها خرجت مرغمة لأداء واجبها في إيقاظ أمة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) من الغفلة التي اعترتهم والتفريط في وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرادت أن ترفع عنهم حجاب الغفلة وتذكرهم بلزوم طاعة الإمام الحق أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانت كلماتها (عليها السلام) تقع كالصاعقة عليهم كقولها (عليها السلام): (معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل، المغضية على الفعل القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها؟ كلا بل رانَ على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأوّلتم، وساء ما به أشرتم، وشرٌّ ما منه اعتضتم([12]) (اغتصبتم)، لتجدنَّ –والله- محمله ثقيلاً وغبَّه وبيلاً إذا كشف لكم الغطاء وبان ما وراءه الضراء وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون).
وبيّنت (عليها السلام) للأمة من خلال نساء الأنصار اللواتي زرنها صفات المستحق لإمامة الأمة وقيادتها (ويحهم، أنّى زحزحوها! عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين. وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه –والله- نكير سيفه وقلة مبالاته بحتفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمّره في ذات الله عز وجل. والله لو تكافّوا عن زمام نبذه رسول الله إليه لاعتقله ولسار بهم سيراً سُجُحاً لا يكلم خِشاشُه ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً فضفاضاً تطفح ضفتاه ولا يترنّق جانباه.
ولأصدرهم بِطاناً ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يحلى([21]) من الغنى بطائل ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ريِّ الناهل وشبعة الكافل.
ولَبان لهم الزاهد من الراغب والصادق من الكاذب [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ]).
وحذّرتهم (سلام الله عليها) من عاقبة فعلتهم حينما صرفوا الأمر إلى غير أهله فقالت: (أما لعمري لقد لقحت فنَظِرةٌ ريثما تُنتج([23])، ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً([24])، وذعافاً مبيداً([25])، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبّ([26]) ما أسسه الأولون، ثم طِيبوا عن دنياكم أنفساً([27])، واطمئنوا للفتنة جأشاً([28])، وأبشروا بسيفٍ صارم وسطوة معتدٍ غاشم، وهرْجٍ([29]) شامل، واستبداد من الظالمين يدعُ فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً. فيا حسرةً لكم، وأنّى بكم؟ وقد عميت عليكم([30])، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟).
وهذا ما سار عليه أولادها المعصومون (عليهم السلام) فقد كانوا يوقظون الأمة وينبهونها إلى الإمام الحق، ومما ورد في كتاب الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أهل الكوفة يعْلمهم بإرسال ابن عمه مسلم بن عقيل: (فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله)([31]).
وحذّرهم (عليه السلام) يوم كربلاء من مغبة اتباع القادة الضالين المنحرفين وترك أئمة الحق والهدى الذين تجب على الجميع نصرتهم ومن أقواله (عليه السلام): (تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم([32]) موجفين([33])سللتم علينا سيوفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا –لكم الويلات- تركتمومنا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستحصف([34])… ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون، أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يُركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدي رسول الله)([35]).
وترجم الشهيد زهير بن القين هذا المعنى في خطبته التي وجهها إلى جيش الأمويين يوم عاشوراء ومما جاء فيها: (فإنكم لا تدركون منهما –أي يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد- إلا سوء عمر سلطانهما، ليَسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهاني بن عروة وأشباهه)([36]).
وهذا ما حصل ويحصل في كل زمان حتى يومنا الحاضر حيث لم تحصد الأجيال من تسلط وزعامة غير المؤهلين لقيادة الأمة إلا الفتن والضلال وتمزيق الشمل، والصراعات التي أهلكت الحرث والنسل، وتشويه صورة الإسلام، وضعف الوازع الديني بحيث لا يبقى من المتدينين إلا النزر اليسير، وتلكؤ حركة الإسلام لهداية البشرية، وحرمان الناس من ثروته المعنوية الهائلة، واستعباد الناس والاستئثار بثروات الأمة وهدرها على نزوات وأطماع المتسلطين وفسادهم، وغيرها من الكوارث العظيمة.
يا أنصار الزهراء..
إننا نشهد اليوم ازدهار النهضة الفاطمية المباركة وانتصار موقفها، فبعد أربعة عشر قرناً من محاولات فقهاء السلطة إخضاع الناس لإرادة السلطان الذي يسمي نفسه أمير المؤمنين، وإجبار هم على طاعته باعتباره المقصود بأولي الأمر في الآية الشريفة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء:59) وحرّموا الخروج عليهم مهما بلغ فسقهم وفجورهم وظلمهم حتى قالوا عن الحسين (عليه السلام) سبط النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) (أنه قُتل بسيف جده) لأنه خرج طلباً للإصلاح في الأمر وليصحح الانحراف في مسيرة الحكام، ووقفت الزهراء (عليها السلام) من أول يوم لانقلاب الأمة لتكشف الانحراف ولتوقظ الناس من غفلتهم وترشدهم إلى الإمام الحق، وأن القيادة لا تكون بالادعاءات وإنما بالاستحقاق والمؤهلات التي يريدها الله تبارك وتعالى لكن تزوير الحقائق الذي مارسه فقهاء السلطة عبر القرون رسخ في أذهان أتباعهم أن من يتسلط على رقاب الناس ولو بالسيف والقهر والانقلابات العسكرية هو ظل الله في الأرض وخليفته، وأن الله تعالى يأمر بطاعتهم ولا يزال الكثير منهم يرددها، لكن شعوب المنطقة اليوم بثورتها على حكامها الطواغيت ونزوعها إلى الحرية، رفضت ذلك التزوير للحقائق الذي مارسه علماء السوء فاضطر بعضهم إلى مجاملة حركة الشعوب وتأييدها، فأثبت الواقع على الأرض دحض نظرية أعداء السيدة الزهراء من أمويين وعباسين وأمثالهم، وآمن الجميع –شاؤوا أم أبوا- بصحة ما طالبت به الزهراء (عليها السلام) من تسليم الأمر إلى أهله ومستحقيه.
بل النصر أوسع من ذلك فإن ما يدور في أروقة الأكاديميات السياسية في أمريكا وأوربا هو فشل نظرياتهم في الحكم؛ لأن أساس الحكم هو العدل والهدف منه توزيع الحقوق والواجبات على الناس بالقسط والعدل، وهذا ما لم تستطع تحقيقه كل أنظمة الحكم الوضعية التي صنعتها البشرية لنفسها، ففشلت الدكتاتورية أولاً؛ لأنها تجمع الامتيازات بيد الفرد على حساب الأمة، فنادوا بالديمقراطية واعتبروها أعظم الإنجازات البشرية في الحكم ثم ثبت لديهم فشلها لأنها ترعى مصالح النصف زائداً شيء على حساب النصف ناقصاً شيء، فعدلوا إلى فكرة الشراكة في الحكم ثم وجدوها بائسة تشلّ الحياة لأنها تتحول إلى محاصصة على حساب المهنية والكفاءة والنزاهة، وضاعت مؤسسات الدولة في أتون صراعات السياسيين ونخرتها أنانياتهم.
فاقتنعوا الآن بما أسسه أهل البيت (عليهم السلام) بأمر الله تبارك وتعالى من ضرورة قيمومة شخص يمثل القمة في العلم والنزاهة والاستقامة والصفات الكريمة على السلطة ليوجّه عملها ويقوّم اعوجاجها ويصلح ما فسد من أمورها وهو عين ما نعتقده في من يستحق التصدي لهذا الموقع الشريف من الأنبياء والرسل والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) ومن بعدهم الفقهاء الجامعين لشرائط النيابة عن المعصوم (عليه السلام).
لقد أذعنت تلك الأكاديميات بصحة مذهب الشيعة في السلطة والحكم وحمّلوهم مسؤولية بيان هذه الحقائق وإيصالها إلى العالم كله، فإن البشرية ستؤمن بها إذا وعتها.
وهذه من أعظم المسؤوليات التي يتوجب علينا القيام بها اليوم؛ لأن معركة الحق والباطل على مدى التأريخ تجلى بوضوح في معركة الحاكمية والقانون الذي يجب أن يحكم في الأرض، فالله تبارك وتعالى يريد لشريعة الحق والعدل أن تسود ويتصدى المصطفون الأخيار لقيادة البشرية، بينما يريد أولياء الشيطان وأتباع الهوى والأطماع واللاهثون وراء السلطة والجاه والنفوذ أن يستأثروا ويستبدوا، ويتدافع هذان المعسكران عبر التأريخ بلا كلل أو ملل، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في جواب رجل قال له في وقعة صفين: ترجع إلى عراقك ونرجع إلى شامنا، قال (عليه السلام): (لقد عرفتُ إنما عرضتَ هذا نصيحةً وشفقة .. إن الله تبارك وتعالى لم يرضَ من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنم).
وامتداداً لهذه المواجهة خرجت الصديقة الزهراء (عليها السلام) إلى مسجد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) وألقت خطابها على المسلمين وخصمتهم بالحجج الدامغة، والتزاماً بهذا الواجب توجّه الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء حيث عبّر عن غرضه في عدة مواضع وأنه ما خرج إلا طلباً للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتصحيح الانحراف وتقويم اعوجاج السلطة، ومن كلماته (عليه السلام) في ذلك: (أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله).
وقال (عليه السلام): (إن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه) ثم قال (عليه السلام): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنحيي المعالم من دينك ونُظر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك. فإنكم إن لا تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير).
فهنيئاً لكم أيها السائرون على النهج الذي اختطته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) فقد عرفتم الحق منذ عرفتم الزهراء (عليها السلام) وتمسكتم بها، فحافظوا على هذه النعمة، وكونوا يقظين، ولا تأخذكم غفلة عن معرفة قادتكم الحقيقيين الذي يأخذون بأيديكم إلى الهدى والصلاح ورضا الله تبارك وتعالى [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ].