إن من أهم ما أطلقه السيد الشهيد محمد صادق الصدر (عليه صلوات من ربه ورحمة) هي منع أتباعه وغيرهم من (تقبيل ياليد) ، معتبراً أن هذه (العادة) تدخل ضمن محكومية (الحرمة الأخلاقية) و (الكراهة الشرعية) ، وحاجباً ومانعاً أيديه من التقبيل أمام أتباعه بادئاً ذي بدء ، متأكداً بأن هذا المنع سيمتد من النور الى دهاليز أخرى قد تكون مظلمة .
وفي الحقيقة فإن هذا المنع يعد الأكثر كسراً للعرف ، والأشد مخالفة للمشهور ، والأوضح جرأة على (عادة) درج عليها المجتمع منذ كم وكم من العقود ، وربما أن هذا المنع هو الذي فتح عليه فوهات بنادق التخرص داخل وخارج الحوزة العلمية ، وامتد بتأثيره على طبقات المجتمع ، وكان مثاراً للحوار والنقاش والتضارب بالآراء والأيدي أحياناً ، لما يمثله من تهديد (لقدسية) مصطنعة كان البعض قد اتكأ عليها ليحول أفراد وأبناء الشيعة الى (توابع) يرون السعادة كلها في الإنحناء بحضرة الغث والسمين من المعممين لتقبيل أياديهم ، ضناً منهم بأن تقبيل اليد فيه رضا الله ونيل إحسانه .
فقد كانت موضوعة (عدم تقبيل اليد) من المهام التي تبناها أتباع ومقلدو السيد الشهيد ، وبدأوا بالترويج لها ، ونشرها ، والحث على العمل بها ، ذلك لأن المجتمع الشيعي (العراقي) خصوصاً ، والمجتمع الشيعي (عموماً) كان قد اكتنـز وعيه و (لا وعيه) بمقولات (ثورية) أمثال (هيهات منا الذلة) ، وبالتالي ، فعملية وعادة تقبيل اليد لا تخرج عن كونها (ذلة) ولو بالعناوين الثانوية .
لقد استفاق أتباع محمد الصدر على فتوى خطيرة ، وأحبوها ، واعتمدوها ، ونشروها ، وتبنوها ، رغم أن الكثير منهم حاول أن يطبق هذا التوجه مع الجميع إلاّ مع السيد الشهيد نفسه ، وحاول الكثير منهم – وكاتب المقال منهم – أن يسرق لحظة انشغال من السيد الشهيد ليقبل يده بطريقة أو بأخرى ، ولكنه (عليه صلوات من ربه ورحمة) لم يكن ليسمح لأحد بالعودة الى هذه العادة السيئة والمنكرة ، وكان يبدي استهجاناً لهذه (العادة) ، بل كان ينهر كل من يلح على تقبيل يده (رحمه الله) .
كانت صفة (عدم تقبيل الأيادي) ملصقة بأتباع السيد الشهيد ، ومن خلالها تسهل معرفتهم ، فقد كانوا يدخلون على العلماء والمراجع ، فيكتفون بالمصافحة فقط ، والوقوف باستقامة النخيل ، ومن خلال الإكتفاء بالمصافحة تتم معرفتهم على أنهم (صدريون) ، فتُضيق عليهم المجالس ، أو يبدأ ضدهم التهامس .
إن عادة تقبيل اليد معروفة في كل الأوساط الدينية ، وهي شائعة في التعامل مع رجال الدين من مختلف الطوائف والفرق الإسلامية ، ولدى المسيحيين واليهود والصابئة والإيزيدية وغيرهم ، وهي منتشرة عند زعماء القبائل ورؤساء العشائر ممن لم تنفع معهم – حتى الآن – مفردات كتاب السيد الشهيد الموسوم بـ (فقه العشائر) ، وهي متفشية عند رجال (المافيا) ، وعند أعضاء المحافل الماسونية ، وآباء وأبناء منظمة (بناي برات) اليهودية ، على اعتبار أن تقبيل اليد نوع من أنواع التبجيل للآباء الروحيين .
وهي لم تكن معروفة لدى المسلمين إلاّ في أزمنة متأخرة ، حيث لم يصل الى أسماعنا من الروايات ما يدل على أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أو أحداً من الأئمة الأطهار ، أو أحداً من الصحابة المخلصين ، أو حتى التابعين لهم بإحسان ، قد سمح لأحد أن يقبل يده ، ولذا ، فعادة تقبيل اليد تعد من (المستحدثات) شأنها شأن (اللطم) والتطبير وغيرها من (العادات) التي لم تكن … ثم كانت .
لقد كان السيد الشهيد الصدر محمد محمد صادق يحمل مشروعاً ثورياً مجدداً (داخل الحوزة العلمية) ، وقد ارتأى أن يبدأ بمشروعه من داخل المجتمع ، ومن طبقاته ، عكس الثورات التي تبدأ بتغيير السلطة والإنقلاب عليها والإستحواذ عليها ، ومن ثم النـزول الى طبقات المجتمع
وليس المقصود بذلك أن السيد الشهيد أراد أن يقوض صرح الحوزة العلمية ، بل أراد أن يبدأ بالتغيير والتجديد من خلال المجتمع ، وأراد أن يصفع (عرور) وأشباهه من الحاقدين الفاسدين صفعة تنبههم الى أن ما طرأ من مفاسد على بعض السلوكيات الشيعية فإنها (مقصودة) ومدروسة ومحسوبة ، وإنما مصدرها أعداء التشيع ، وآلة الحقد الصهيونية ، ولئن كانت الحوزة العلمية الشيعية مخترقة ، فلقد تم اختراق حتى جيوش ومنظومات وحوزات الأنبياء مع وجود الوحي وأخبار السماء .
لقد كان الولي المقدس محمد محمد صادق الصدر متأكداً بأن الوعي المجتمعي سيمتد من المجتمع البسيط الى أروقة الحوزة العلمية ، وسوف يدفع القيمين على الحوزة العلمية نحو التغيير والتجديد والتخلص من البراثن (الهجينة) التي علقت بثقافة التشيع والتي لم تلتفت الحوزة العلمية الى خطورتها .
ولم يكن السيد الشهيد غافلاً عن ضرورة البدء بخطوات التغيير داخل الحوزة نفسها ، حيث أن السيد الشهيد لم يكن مهتماً بموضوعة (الفتاوى) وطباعة رسالته العملية إلاّ كي تكون جواز مرور داخل الحوزة العلمية ، لأنه أراد أولاً أن يضع له متكئاً داخل الحوزة العلمية ، ومنها ينطلق الى مشروعه الإصلاحي المجتمعي ، ولذا نجد أنه قد بدأ – مع أول بوادر التفاف أتباعه من حوله – باقتناص ما درج عليه العلماء والمجتمع من (فتاوى) تمس حياتهم اليومية فبدأ بمناقشتها وتسليط الضوء عليها ، وربما مخالفتها بموجب ما يمتلكه من أدلة (عقلية أو نقلية) .