يوما بعد آخر يتضح جليا ما للإعلام من دور أساس في كشف الحقائق وتبصير المجتمعات وإعداد الرأي العام المناهض لأي شكل من أشكال الفساد والابتزاز الذي يموج به الظلمة والفاسدون ويسدلون دون إرائته للناس ثوبا للتمويه عليهم واستغفالهم.
ولعل أعظم دور للإعلام الرسالي الهادف، بعد الدور الرسالي العظيم لرسول الله(ص) في تبليغ دعوة السماء ونشر مبادئ الشريعة الغراء وبيان غرر أحكامها، ذلك الذي قامت به الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء(ع) بعد التحاق أبيها الرسول(ص) بالرفيق الأعلى.
فقد بات أهل البيت(ع) بعد شهادة رسول الله(ص) أطول ليل في حياتهم وأشده عليهم، إذ حانت الفرصة وشيكة المنال من المناوئين الذين كانوا يتربصون بهم الدوائر حين يطبق الردى جفني محاميهم(الرسول) حتى ظن أهل بيت محمد” أن لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم لأن رسول اللَّه (ص) وتر الأقربين والأبعدين في اللَّه “.
وتسابق القوم الى أكبر قاعة للمؤتمرات عندهم وأشهرها في المؤامرات لديهم “سقيفة بني ساعدة” يتشاجرون في احتواء الحقوق ويتقاسمون الثمرات التي بذل رسول الله(ص) وأهل بيته(ع) دون ينعها أعز ما يملكون من أنفس وأزكى ما يمتلكون من نفائس. لولا أن حائلا صلبا كان يقف دون تحقيق أحلامهم العريضة تلك، بعد أن أصبحت قريبة التحقق.
فكبير أسرة آل النبي(ص) علي(ع) ما زالت كلمات الرسول(ص) في حقه باقية في الأسماع صداها. ولما يملكون من رصيد مالي في فدك وغيره منعة وجانب قوة تحصنهم من مكائد الأعداء وعوادي الزمان. فكان قرار دهاة قريش التصدي للحق العلوي بالإقصاء والتهميش سياسيا واقتصاديا، واذا لزم الأمر وأعضل الحل، فما التخلص بالتصفية الجسدية منهم ببعيد.
وأجمع كبراؤهم على أخذ البيعة من أميرهم بالقوة والقسر، ومحاصرته واله اقتصاديا بسلب فدك منهم. ولم يكتفوا بذلك، حتى افتروا حديثا كذبا قدموه بين يدي ظلمهم “نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركناه صدقة”
وفي ذروة الأزمة وانتهاء التسلط الطاغوتي الى غاياته القصوى، ولم يبق إلا الاحتفال بالنجاح المتوهم، أعلنت الصديقة الكبرى ثورتها الإعلامية، لتطيح بأعمدة المكر، وتكشف أقنعة النفاق، وتهتك أستار الزيف عن وجوه التدجيل والافتراء، مع سابق علمها بما ستواجه به من ظلم وعسف.
1- فكان الدفاع عن الإمام والإمامة أولى أولويات قضيتها. حين أخذوا أمير المؤمنين(ع) موثقا بنجاد سيفه، يرغمونه على البيعة، وقد اطمأنوا الى وثاق الوصية التي أمره رسول الله(ص) بالتزامها، أكثر من اطمئنانهم الى وثاق حمائل سيفه. فخرجت – روحي فداها – وقد كسر جنبها وأسقط جنينها، تعدو تريد لإمامها نجاة ولزوجها من القتل خلاصا، وتكاد تسبق خطواتها صوتها مرددة:
خلوا ابن عمي أو لأكشف للدعا*رأسي وأشكو للإله شجوني
ما كان ناقة صالح وفصيلها* بالفضل عند الله إلا دوني
وتكاد المدينة تنخسف بأهلها وقد تقلعت حيطان المسجد من أسفلها مؤذنة بحلول العذاب على أهلها، فأدركوا وقوع العذاب عليهم واستسلموا لإرادة الزهراء(ع) وفكوا أميرهم من وثاقه ليعود بأهله الى داره.
2- ولم يهدأ ألم المصاب الذي تجرعته حتى انطلقت الى المهاجرين والأنصار علها تجد عندهم بقية من إيمان ينصرون به إمامهم، تستحثهم على ارجاع حقه المستلب من قبل أولئك المستكبرين. وقد رافقها أمير المؤمنين(ع) يلقيان الحجة عليهم، فما كان جواب قومها إلا أن قالوا “يا بنت رسول الله! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول عليٌّ(ع): أفكنت أدع رسول الله (ص) في بيته لم أدفنه وأخرج أُنازع الناس سلطانه؟! فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم”.
3- ثم ألقت بحجاجها الى سالب نحلتها من فدك، تتلو عليه من آيات الذكر الحكيم محكم أحكامه وسواطع برهانه، بأجلى الأدلة وأنصع البراهين، فلم تزدهم حججها إلا ضلالا، بل “جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا”.
ولما رأت أن قابلها الجفاة بالصد والإنكار، ويئست من إجابتهم عدلت الى قبر أبيها الرسول تشكو لواعجها بالدمع الهطول. ثم ما لبثت أن أثقل على حالها المرض وآثار محاولة القتل. فلم تزل “معصّبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدّة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة “فأعدت للمنازلة الكبرى عدتها، وأخذت للمجابهة أهبتها، عازمة على أن تختم ظالميها ومبتزيها حقها ختم الخزي في الحياة الدنيا، ” وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ”.
وقد اجتمع حولها نساء المهاجرين والأنصار يعتذرون إليها ويتفقدون حالها، فقالت مما قالت “أصبحت والله عائفة لدنياكم قالية لرجالكم، لفظتهم قبل أن عجمتهم، وشنأتهم بعد أن سبرتهم، فقبحا لفلول الحد وخور القناة، وخطل الرأي، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون”.
ولم تفلح محاول الرجلين أخذ الرضا والسماح منها، “وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ”، ” وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ “. فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله (ص) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟
قالا: نعم سمعناها من رسول الله (ص).
قالت: فإنّي اشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي (ص) لأشكونكما إليه”.
ثم لم تدع(ع) لوهم الواهمين، وخيالات المتأولين أن تبرر لمن أسخطها ما فعلا، فأوصت أمير المؤمنين(ع) ” أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقي، فإنهم عدوي وعدو رسول الله (ص)، ولا تترك أن يصلي علي أحد منهم ولا من أتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الابصار”. فكانت تلك الوصية وصمة عار على جبين ظالميها الى يوم القيامة.
ولما قضت الزهراء(ع) نحبها وألحدها أمير المؤمنين(ع) في ملحودتها “نفض يده من تراب القبر، هاج به الحزن، فأرسل دموعه على خديه وحول وجهه إلى قبر رسول الله (ص) فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك من ابنتك وحبيبتك، وقرة عينك وزائرتك، والبائتة في الثرى ببقيعك، المختار الله لها سرعة اللحاق بك، قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، وضعف عن سيدة النساء تجلدي.. قد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله. أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، لا يبرح الحزن من قلبي أو يختار الله لي دارك التي فيها أنت مقيم.. سرعان ما فرق الله بيننا، وإلى الله أشكو، وستنبئك ابنتك بتظاهر أمتك علي، وعلى هضمها حقها فاستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا.. فبعين الله تدفن بنتك سرا، ويهتضم حقها قهرا ويمنع إرثها جهرا، ولم يطل العهد، ولم يخلق منك الذكر، فإلى الله يا رسول الله المشتكى، وفيك أجمل العزاء”.