لا بدّ للنبيّ (صلى الله عليه وآله) من الاقتران بامرأة تتناسب مع عظمة شخصيّته، وتتجاوب مع أهدافه السامية، ولم يكن في دنيا النبيّ محمّد (ص) امرأة تصلح لذلك غير السيّدة خديجة (عليها السلام)؛ لما ينتظرها من جهاد، وبذل، وصبر ولتكون أماً لسيدة نساء العالمين وجدةً لسبطي رسول الله (ص) وسيدي شباب أهل الجنة، وأمأً للمؤمنين.
وشاءت حكمة الله تعالى أن يتّجه قلب خديجة نحو النبيّ (ص)، وأن تتعلّق بشخصيّته وتطلب منه أن يقترن بها، فيقبل النبيّ (ص) بذلك، ويتمّ الزواج منها في العاشر من ربيع الأوّل قبل بعثته (ص) بخمسة عشر عاماً.
وكان حينذاك عمر النبيّ (ص) لم يتجاوز الخامسة والعشرين، وعمرها (ع) لم يتجاوز الأربعين سنة.
صفات الزوجين
كانت خديجة (ع) من خيرة نساء قريش، وأكثر نسائهم مالاً، وأجملهم حسناً، وكانت تُدعى في العصر الجاهلي بـ (الطاهرة) و (سيّدة قريش).
وقد خطبها أكابر قريش وبذلوا الأموال لذلك، ومنهم: عقبة بن أبي معيط، والصلت بن أبي يهاب، وأبو جهل، وأبو سفيان، فرفضتهم كاملاً وأبدت رغبتها بالاقتران بالنبيّ (ص)؛ لما عرفت عنه من النبل، وسموّ نسب، وشرف وعفّة، وأخلاق لا تُضاهى، وصفات كريمة فائقة.
بداية العلاقة
كانت خديجة (ع) ذات تجارة وأموال، وقد سمعت وعلمت عن خُلق النبيّ (ص) السامي وأمانته وشرفه البالغ، حيث كان يُسمّى في الجاهلية بـ(الصادق الأمين)، فتمنّت أن يكون النبيّ (ص) أحد مَن يتّجر لها بأموالها الطائلة؛ لأمانته المشهودة وخُلقه الرفيع.
فبادرت بإرسال مَن يرغّبه بالعمل في تجارتها والطلب إليها بالعمل، فرفض النبيّ (ص) الطلب منها، فأرسلت هي طالبة منه العمل في تجارتها، فوافق(ص).
فكان النبيّ (ص) مضارباً بأموالها وتجارتها، أو مشاركاً لها في ذلك، حيث إنّه (ص) ما استؤجر بشيء، ولا كان أجيراً لأحد.
فكرة الزواج
عند عودة النبيّ (ص) من الشام في تجارته الأُولى لخديجة ومعه “ميسرة” غلام خديجة (ع) وقد ربحوا أضعافاً مضاعفة عمّا كان من قبل من أرباح، سرّت خديجة (ع) بذلك أيّما سرور، وزاد عطفها فيها شوقاً له (ص) ما سمعت من “ميسرة” غلامها من أخلاقه وصفاته وفراسته ونبله، فازدادت معزّة النبيّ (ص) ومحبّته في نفسها، وأخذت تحدّث نفسها بالزواج منه قبل بعثته.
خطبة السيّدة خديجة (ع)
فلقد كان عقد زواج سيدنا رسول الله (ص) على أمِّنا الطاهرة السيدة الجليلة خديجة الكبرى (ع) قبل البعثة النبوية بخمسة عشر عاماً.
حضر النبي (ص) ومعه أعمامه، فيهم أبو طالب، والعباس، وحمزة علیهم السلام، وخطبوها من عمها ـ على أصح الأقوال ـ لأن أباها قتل في حرب الفجار قبل ذلك.
وقام أبو طالب (ع) خطيباً فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضيء (أي معدنه) معد وعنصر مضر (أي أصله)، وجعلنا حضنة بيته (أي المتكلفين بشأنه)، وسُوَّاس حرمه (أي القائمين بخدمته)، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا الحُكَّام على الناس.
ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله (ص) لا يوزن برجل إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً، وإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل وأمر حائل ووديعة مسترجعة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله اثنا عشر أوقية ونَشَّاً (والنش عشرون درهماً، والأوقية أربعون درهماً).
وقام ورقة بن نوفل يجيب أبا طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا ينكر العرب فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، ورغبتنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا عليَّ معاشر قريش إني قد زوجت خديجة بنت خويلد (ع) من محمد بن عبد الله (ص)، وذكر المهر.
فقال أبو طالب (ع): أحببت أن يشركك عمها.
فقام عمُّ خديجة عمرو بن أسد فقال: اشهدوا عليَّ معاشر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبد الله (ص) خديجة بنت خويلد (ع).
وأولم عليها النبي (ص)، ونحر جزوراً، وقيل جزورين، وأطعم الناس، وأقيم العرس السعيد.
وفرح أبو طالب (ع) فرحاً شديداً، وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب، ودفع عنا الغموم.
وفرح أهل مكة بهذا الزواج الميمون، حتى إنهم قاموا يتغنون بذلك سروراً وغبطة يقولون منشدين:
لا تزهدي خديجة في محمد *** نجم يضيء كضياء الفرقد