فتــــح مكّـــــة
20رمضان 8 هـ ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْح﴾ ولإشاعة الاطمئنان إلى رحمة الإسلام، ورحمة النبيّ صلى الله عليه واله وسلم، وإرضاءً لغرور أبي سفيان كي لا يُكابر قال صلى الله عليه واله وسلم: “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن طرح السلاح فهو آمن”.
دخول مكّة
ودخل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مكّة بتلك الحشود التي تنساب خلفه فاتحاً من غير قتال، فلمّا انتهى إلى الكعبة تقدّم على راحلته فاستلم الركن وكبَّر، فكبَّر المسلمون لتكبيره، ثمّ طاف بالبيت، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنماً وكان “هُبل” أعظمها، فقال صلى الله عليه واله وسلم للإمام عليّ عليه السلام: “أعطني يا عليّ كفّاً من الحصى”، فقبض له الإمام عليه السلام كفّاً فناوله، فرماها به وهو يقول: ﴿قُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾، ثمّ أمر بالأصنام فأُخرجت من المسجد فطُرحت وكُسرت، ثمّ أمر أن تُفتح الكعبة، فدخلها وصلّى فيها وأزال كلّ ما كان فيها من تماثيل وصور، ثمّ أشرف من بابها على الناس وقال: “لا إله إلّا الله وحده لا شريك له الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده..”، ثمّ توجّه إلى المكّيّين وسألهم: “ماذا تَرَون أنّي فاعل بكم”؟ فقالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فقال صلى الله عليه واله وسلم: “إنّي أقول لكم ما قال أخي يوسف لإخوته، لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، إذهبوا فأنتم الطلقاء”.
وبذلك ضرب الرسول صلى الله عليه واله وسلم للأجيال في كلّ عصرٍ وزمان مثلاً في الرحمة والعفو والترفُّع عن الحقد والانتقام.
وكان من نتائج هذا الفتح سقوط القلعة الحصينة والقاعدة المركزيّة للمشركين، وولّى عهد عبادة الأصنام إلى غير رجعة، وبعد سقوط مكّة أخذت وفود القبائل تأتي وتُعلن إسلامها وطاعتها للإسلام عدا قبيلتي هوازن وثقيف اللتين أسلمتا بعد غزوة حُنَيْن.
غزوة حُنين
شكّل فتح مكّة وانتصار النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم العظيم عهداً جديداً من التوحيد، بعد طول فترةٍ من الشرك. وترامت إلى أسماع النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم أنّ قبيلتي هوازن وثقيف قد أعدّتا العُدَّة لمحاربة الإسلام، فعزم صلى الله عليه واله وسلم على الخروج لملاقاتهم قبل أن يُفاجِئوه بالجيش الكبير الذي نظّموه بالتعاون مع بعض القبائل الأخرى، بقيادة مالك بن عوف (زعيم هوازن).
حُنين (شوال 8 هـ/ شباط 630م)
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا﴾ (التوبة 9/25)
انطلق النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم من مكّة في مطلع شوّال على رأس اثني عشر ألف مقاتل، وعيّن عتاب بن أسيد لإدارة الأمور في مكّة. وسرعان ما وجد المسلمون أنفسهم مضطرّين إلى اجتياز وادٍ من أودية تهامة، شديد الانحدار يُدعى حُنيناً، في طريقهم لمواجهة التجمّع الوثنيّ. وكان المشركون قد سبقوهم إلى الوادي واتخذوا مواقع لهم في شعابه، وتهيّئوا للانقضاض على المسلمين في جوٍّ يسوده المطر والضباب. وما إنْ دخل المسلمون الوادي حتّى فاجأهم أعداؤهم بهجوم مُباغِت، فأصابهم الفزع والاضطراب وفرّوا راجعين لا يلوون على شيء، ولم يثبت مع النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم غير الإمام عليّ عليه السلام وجماعة من بني هاشم، والنبيّ صلى الله عليه واله وسلم يُنادي بالمسلمين، ثمّ أمر عمّه العبّاس أن يلحق بالفارّين ويُناديهم، ولمّا سمع المسلمون صوت العبّاس، وأنزل الله السكينة على قلوب المؤمنين منهم، بادروا للعودة إلى ساحة المعركة واستقبلوا العدوّ بصدورهم، وقاتلوا ببسالة على قِلّتهم بعدما رأوا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يُباشر القتال بنفسه بشجاعة ومن حوله الإمام عليّ عليه السلام وبنو هاشم.
تمكّن الإمام عليه السلام من قتل حامل راية هوازن، وبدأت الكفّة تميل لصالح المسلمين، وما لبث المشركون أن أخذوا بالتراجع، وأُصيبوا بالهزيمة وفرّوا من أرض المعركة، تاركين وراءهم الأموال والنساء والأولاد، وأسر المسلمون منهم أربعة آلاف أسير مع 24 ألف بعير.
حصار الطائف:
واصلت قوّات المسلمين ملاحقتها للعدوّ، وتراجع المشركون بقيادة مالك بن عوف صوب الطائف، وعسكر بعضهم في “أوطاس”، وتوجّهت فئة أخرى نحو “نخلة” فلحق المسلمون بهم إلى هاتين المنطقتين وأوقعوا بهم شرّ هزيمة.
تمكّن مالك بن عوف من الفرار مع بعض الجيش إلى الطائف، واعتصم بحصونها المنيعة وأعدّ العُدَّة مع جيشه للقتال، فحاصرهم النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم بضعاً وعشرين يوماً، وحصل قتال عنيف استعمل فيه المسلمون لأوّل مرّة آلات الحصار كالمنجنيق، ونظراً لاقتراب شهر ذي القعدة الذي هو من الأشهُر الحُرم قرّر النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم رفع الحصار, لأنّه لم يَعُد يرى خطراً من ترك الطائف إلى فرصةٍ أخرى.
وفي طريق عودته صلى الله عليه واله وسلم وعند وصوله إلى “الجعرانة” (محلّ تجميع الأسرى والغنائم) أرسلت إليه هوازن وفداً لالتماس العفو عنده، وأعلنوا إسلامهم، فردّ عليهم النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم نساءهم وأموالهم، وجاء زعيمهم مالك بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم معلناً إسلامه بعد أن سمع مقولة النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم: “أخبروا مالكاً أنّه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل”، وردّ عليه الرسول صلى الله عليه واله وسلم أهله وماله.
وبعد تقسيم الغنائم على المسلمين في “الجعرانة” اتّجه النبيّّ صلى الله عليه واله وسلم إلى مكّة في شهر ذي القعدة، فأتمّ عمرته وأحلّ من إحرامه واستخلف على مكّة عتاب بن أسيد ومعه معاذ بن جبل لتعليم الناس القرآن وأحكام الدين، وخرج مُتّجهاً إلى المدينة بمن معه من المهاجرين والأنصار، بعد هذين الإنتصارين العظيمين وهما: فتح مكّة، وهزيمة جيشٍ مؤلّف من ثلاثين ألف مقاتل في حُنين.
دروس من حُنين:
يُمكن لنا أن نستخلص من غزوة حُنين بعض الدروس والعِبَر، منها:
1 ـ إنّ غرور المسلمين بأنفسهم، في بداية المعركة، وإعجابهم بكثرتهم وقوّتهم كان السبب الأساس في الهزيمة، فأراد الله تعالى أن يُعلِّمهم أنّ الكثرة لا تُغني شيئ, عندما تفقد الأمّة عناصر الإيمان والإخلاص والصبر والتوكّل على الله.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾.
2 ـ إنّ القلّة التي ثبتت في ساحة القتال هي التي حقّقت الانتصار في حُنين، وهم الذين أنزل الله تعالى عليهم السكينة والطمأنينة. ﴿ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾.