إن استذكار مناسبات الأولياء يمثل محطة وعي ومعرفة وتزود من معين شخصية وتراث صاحب الذكرى ؛ وهذا إنما يكون :
1 . لمن يتحرى الإفادة من كل محطة متعلقة بأولياء الله تعالى وهم المعصومون ع .
2 . لمن يتفاعل فكريا وروحيا مع عطاء الشخصية وامتداد أثارها في الحياة ،لا تفاعلا تقليديا لا يتعدى التهنئة والتعزية .
ومن هنا توقفنا قليلا في ذكرى ولادة نسمة الفردوس النبوي ، رائدة تكييف المفاهيم الإسلامية وفقا لمتطلبات الحياة عبر الزمن مولاتنا السيدة الزهراء ع ، لنلتمس بعض القوى الناعمة المؤثرة إيجابيا في مسيرة الفرد والمجتمع .
القوى الناعمة : مصطلح حديث يمكن انطباقه على مصاديق كثيرة ، وابتداءا اريد به مفهوما سياسيا بحتا ، و هو بحسب المنظار السلبي يعني استعمال مختلف الوسائل للتأثير في الآخرين .
الا ان مفهوم ( القوى الناعمة ) يمكن أن يكون من مفاهيم التنمية البشرية بالمنظار الإيجابي، والتي يكون هدفها هداية الناس ، و زيادة وعيهم وتنظيم حياتهم ، وإصلاح واقعهم الاجتماعي والتربوي والاقتصادي وغيره من جوانب الحياة .
وقد عرف بعضهم القوى الناعمة :
( القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخاة دون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للعوامل والوسائل العسكرية ) ( 1 ) .
( وتتميز هذه القوى بكونها هادئة وتدريجية وغير ظاهرة بشكل مباشر ، وتعتمد الرمزية وإثارة العواطف من خلال التركيز على الأمور التي تتعلق بحياة المجتمع بشكل مباشر مما يجعلها تحقق نتائج اكثر مما تحققه القوة الصلبة) ( 2 ) .
وهذا المصطلح وان كان من ابتكارات ( جوزيف ناي ) ، وهو أول من استعمله في كتابه (ملزمون بالقيادة ) الذي نشر عام 1990 .
إلا أن تطبيقاته موجودة قديما ، ولا تكاد تخلو أي ديانة أو حضارة من تطبيقات القوى الناعمة ، وهناك شواهد كثيرة على ذلك ، الا أن هناك قوى ناعمة سلبية وقوى ناعمة إيجابية ، بحسب الأهداف والوسائل .
وبنظرة تأمل نرى أن الإسلام وهو الرسالة الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان ، وبنظرة أخرى إلى مذهب الأمامية الاثني عشرية بما يمثله من وجه للإسلام الأصيل باعتماده على الثقلين كمصادر أساسية للتشريع والتقنين والتنظير والتربية وبناء الإنسان وتشييد الحضارة ، نلحظ ارتكازه على بعض القوى الناعمة الايجابية المؤثرة ،
والتي منها :
1 . الاعتماد على تراث أهل البيت ع ، وتوظيفه بعد القرآن للتأصيل وللتنظير والبناء والمنهجة .
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله : (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (3 ).
2 . الاهتمام بالشعائر الدينية ، وإعطائها زخما معرفيا وثقافيا وأخلاقيا وسياسيا واجتماعيا وإعلاميا وتربويا .
قال تعالى : ( ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب )(4) .
3 . المنبر الحسيني بما يحمله من ارث روحي ونفسي كيير امتد لقرون من الزمن ،قد ارتبط بالإمام الحسين ع وأهل بيته ع ، وبما يمتلكه عطاء هذا المنبر من تأثير فكري وعقدي يسهم في إثراء الثقافة الإسلامية للفرد والمجتمع .
4 . المرجعية الدينية بما تحمله من امتداد النيابة العامة عن المعصومين ع من جهة ، ومدى تأثيرها القيادي والديني والفكري والروحي والسياسي والاجتماعي في واقع الأمة الإسلامية عبر الأجيال من جهة ثانية .
ورد في توقيع الناحية المقدسة : (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم ) . (5)
وبعد هذه الإشارات عن القوى الناعمة ، وبمناسبة ذكرى ولادة السيدة الزهراء ع ، هلموا معنا لنمر مرور الملتمس للثقافة الأصيلة من منابع الحكمة وهم أهل البيت (ع) ، ببعض القوى الناعمة في مسيرة صاحبة الذكرى ، سيدة الحركة الإسلامية الرسالية ، السيدة البتول (ع) .
المحطة 1 : الإعلام ، على اعتباره من القوى الناعمة .
فالإعلام يمثل عنصرًا مؤثرًا في حياة المجتمعات باعتباره الناشر، والمروج الأساس للفكر والثقافة، ويسهم بفاعلية في عملية تشكيل الوعي الاجتماعي للفرد كفرد ، وللفرد كجزء من البنية الاجتماعية .
وله تأثير كبير على تشكيل البناء الإدراكي والمعرفي للفرد أو المجتمع.
بحيث يساهم هذا البناء في تشكيل الرؤية تجاه القضايا المجتمعية ، والقدرة على تحليلها واستيعابها .
من هنا نجحت الزهراء ع في توظيف الإعلام كقوة ناعمة هادفة مؤثرة لإنجاح مشروع التأصيل والتثبيت لمرتكزات الإسلام التي أسس لها الخاتم صلى الله عليه وآله.
فكان الإعلام الفاطمي قوة جاذبة و مؤثرة في الوعي والثقافة وصناعة المواقف و توجيه الرأي العام نحو النمرقة الوسطى وهو سبيل الإمامة والقيادة عبر أجيال الأمة الإسلامية .
من هنا نسجل بعض مميزات الإعلام الفاطمي الموظف رساليا ل
لإنسان والمجتمع من خلال قراءة (الخطاب الفدكي والخطاب البيتي ورسالة الحزن وخطاب التعبئة ورسالة مراسيم الرحيل ورمزية القبر ) :
1 . الدور الرقابي لما تعيشه الأمة بمهنية وبمصداقية عالية .
2 . التمسك بالموضوعية في الطرح والوضوح والدقة .
3 . الابتعاد عن العشوائية والشكلية والمزاجية .
4 . الإتصاف بالقوة والشجاعة والأخلاق الحميدة.
5 . توجيه الكلمة بأسلوب حضاري ، وبضمير حي بعيد عن الانفعال والغضب والتأثير العاطفي والمصالح الشخصية.
6 . الروح العلمية الشفافة في الأداء وتوظيف المعلومة في إطارها المناسب .
المحطة 2 : الدعاء :
ونحن نتأمل في القوى الناعمة في الجانب الايجابي نجد إن الدعاء و الذي ورد انه يدفع البلاء وقد ابرم ابراما اذا تمت كل مقدمات نزوله وتنفيذه على ارض الواقع ، فهذه وسيلة غيبية للتأثير في الحوادث .
وقد وظفت الزهراء ع هذه القوة للتاثير في شخصية الإنسان وأدائه الاجتماعي، فهي تنطلق من نفحات المحراب إلى التأثير الاجتماعي في واقع الإنسان وهو يتفاعل مع الحياة ، فقد وردت منظومة متكاملة من الأدعية في صحيفتها ومنها بعض الادعية لدفع الحوادث والأحداث التي تعصف بالإنسان في الحياة :
( اللهم أتوجه إليك بهم وأتوسل إليك بحقك العظيم الذي لا يعلم كنهه سوالك وبحق من حقه عندك عظيم وبأسمائك التامات التي أمرتني أن ادعوك بها وأسالك بإسمك العظيم الذي أمرت إبراهيم ع أن يدعو به الطير فأجابته ، وباسمك العظيم الذي قلت للنار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فكانت ….. وتفتح أبواب السماء لدعائي في هذا اليوم .. وأعطائي سؤلي وأملي ..) ( 6 )
المحطة 3 : ( الصدقة )
التي تفعل نفس الفعل في بعض وجوه مؤثريتها كما في الدعاء ، فتؤثر في حياة الإنسان لما لها من آثار فردية من جهة ، ومجتمعية تعكس جمالية وحيوية وإنسانية العلائق الاجتماعية بين افراد المجتمع من جهة أخرى .
وهنا تألقت السيدة الزكية ع بريادتها لتفعيل هذه القوة الناعمة وجعلها في إطار مؤسساتي خيري من ريع ما تحمله فدك ، وغير فدك حتى تسامى العطاء حتى من رغيف الإفطار .
، قال تعالى 🙁 ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا . انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا ) ( 7 ) .
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد واله الطاهرين .
(1 ) _ الحرب الناعمة الأهداف وسبل المواجهة ، كاظم الصالحي : 15
( 2 ) _ نفس المصدر : 19
( 3 ) _ سنن الترمذي ، الترمذي ، ج5 ، ص 329 .
(4) الحج : 32
(5) _كمال الدين ، الصدوق ، ٢ / ٤٨٣، الباب ٤٥، الحديث ٤.
(6) _بحار الأنوار ، المجلسي ، ج 97 ، ص 201
( 7 ) _ الإنسان : 8 ، 9
الشيخ عمار الشتيلي