حظي حب الأوطان باهتمام الشريعة المقدسة والقيادات الرسالية عبر التأريخ لهذا “كان الأنبياء والرسل (عليهم السلام) يختارهم الله تبارك وتعالى من قومهم (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ)، (الجمعة: من الآية2)، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)” ([1])
والسبب بينته المرجعية الدينية حيث قالت: ان إصلاح حالة البلد وازدهار الامة ورقيها لا يقوم به إلاّ أهله الذين عاشوا معاناته وفهموا قضاياه واستوعبوا آماله لأنه جزء منه فيستطيعون التفاعل مع مطالبه وبنفس الوقت تكون الأمة قد عرفت تاريخهم وجهادهم وعملهم الدؤوب لنفع الأمة واختبرت مواصفاتهم الشخصية.([2])
لهذا نجد السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) حينما أعلن ولايته على العراق كانت هناك ولاية للسيد الخامنائي (دام ظله) فسئل عن ذلك كيف يكون هناك وليين لأمر المسلمين في آن واحد فقال: … أنا أقول ينبغي أن يفتي شرعا بولايته على المنطقة التي يحكمها – أي إيران -.([3])
ومن أجمل الأجوبة التي تحمل هذا المعنى هو جواب المرجعية الرشيدة على استفتاء وجه إليها:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أفيدونا في موقفنا الشرعي في سؤالنا التالي:
السؤال: يعيش العالم الإسلامي والعربي حالة المطالبة بحقوقه المشروعة مما يضطر الشباب إلى الخروج والتظاهر مطالبين بحقوقهم المسلوبة فهل يجوز شرعاً هذا الخروج في الحالات التالية:
أ- إذا كان يحتمل الضرر كأن يُجرح أو يُسجن.
ب- إذا كان يطمئن بحصول الضرر المذكور.
مع ملاحظة أن التظاهر حتى السلمي ممنوعٌ في قوانين بعض هذه البلاد.
ودمتم لنا عزاً وفخراً
مجموعة من المؤمنين- الإحساء 1/4/1432هـ
الجواب
بسمه تعالى
المطالبة بالحقوق الإنسانية مشروع لكل البشر وأقرّته الشرائع السماوية, لكن آليات ووسائل هذه المطالبة تختلف بحسب الزمان والمكان والظروف والإمكانيات المتيسرة, لذا فإننا نوكل أمر النظر في التفاصيل إلى علماء وعقلاء القوم في كل بلد بحسب ما يناسبه، والرجوع إلى المرجع العارف بملابسات الزمان والمكان في تحديد الأطر العامة والمطالب المشروعة في ضوء ما تقتضيه مصلحة تلك البلاد وشعبها وما يحقق لهم الحياة الكريمة، والله المستعان.
مع دعائنا لكم بالتوفيق والتأييد. ([4])
فكما قيل أهل مكة أدرى بشعابها …
وقد حكى القرآن الكريم حنين رسول الله (صلى الله عليه وآله) لوطنه حينما هجر منه قسرا قال تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)
فقد جاء في تفسيره قال الحسن بن علي (عليهما السلام) لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله بمكة وأظهر بها دعوته، ونشر بها كلمته، وعاب أعيانهم في عبادتهم الأصنام، وأخذوه وأساؤا معاشرته، وسعوا في خراب المساجد المبنية كانت للقوم من خيار أصحاب محمد وشيعة علي بن أبي طالب عليه السلام، كان بفناء الكعبة مساجد يحيون فيها ما أماته المبطلون، فسعى هؤلاء المشركون في خرابها، و أذى محمد وأصحابه وألجأوه إلى الخروج من مكة نحو المدينة التفت خلفه إليها وقال: ” الله يعلم إنني أحبك ، ولولا أن أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلدا، ولا ابتغيت عليك بدلا، وإني لمغتم على مفارقتك ” فأوحى الله إليه: يا محمد العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، ويقول: سنردك إلى هذا البلد ظافرا غانما سالما” قادرا قاهرا، وذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) يعني إلى مكة غانماً ظافرا. ([5])
وقد روي عن علي ( عليه السلام ) أنه : عمرت البلدان بحب الأوطان. ([6])
وروي عنه (عليه السلام) (من كرم المرء حنينه الى الاوطان)([7]). وروي (حب الوطن من الايمان)([8])
فالإنسان الذي يحب داره سيقوم بمتابعته وسيحظى برعايته ويسارع في اعماره ويحميه أما إذا كان غير محب لداره فإنه سيهمله وهذا الإهمال سيتسبب بالنتيجة إلى أن يصبح داره خربة معرضة للسرقة … وهكذا الوطن …
ومن علمائنا البارزين الذين عشقوا وطنهم ولم يتركوه في أصعب الظروف هو فيلسوف القرن العشرين السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) الذي لم يغادر العراق رغم أنه كان المطلوب رقم واحد للحكومة البعثية وقد اعتقل أكثر من مرة في حين أن الكثير من طلبته غادروا العراق هربا من بطش النظام العفلقي للمحافظة على أرواحهم فتركوا قائدهم لوحده. ([9])
وقد عرض عليه (قدس سره) مغادرة العراق إلا أنه رفض ذلك لأسباب منها:
1- عدم ترك الأمة وحيدة في مواجهة النظام.
2- إعطاء الأمة مثالا في الصلابة والتحدي وعدم الجبن. …
وبعد استمرار المقربين من السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) بحثّه على الخروج من العراق كان يقول: ((ماذا يقول الشباب؟! يقولون: تَرَكَنا السيد الصدر بيد البعثيين وخرج؟!))([10])
واستغرب السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) من البرقية التي أذيعت في إذاعة طهران التي طلب فيها منه بعدم مغادرة العراق وكانت هذه الرسالة وغيرها سرعت باستشهاد السيد الشهيد (قدس سره) وقد أظهر استغرابه من البرقية أثناء اجتماعه ببعض طلابه المقربين منه حيث قال لهم ((سمعت إذاعة طهران تذيع برقية… موجهة لي يطلب مني فيها عدم مغادرة العراق، وأنا متى أردت مغادرة العراق؟! ومتى فكرت بذلك … ) ([11])
وموقف رائع آخر سجله السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في حب الوطن والسيد الشهيد كما يعرف الجميع يعتبر أبرز طلبة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وقد واجه كثير من الصعوبات بعد استشهاد أستاذه الصدر (قدس سره) وأعتقل وأصبح تحت الإقامة الجبرية لسنوات ولم يبق أحد من طلبة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) البارزين إلا وغادر العراق إلا السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) حيث عُرض عليه مغادرة العراق فقال كلمته الرائعة:
لو استطعت ببقائي في العراق أن أُعلِّم جيراني سورة التوحيد فقط لكان خيرا لي من جبال من الأعمال أؤديها وأنا في الخارج.([12])
فبحب الأوطان تعمر الأوطان دينيا وأخلاقيا واقتصاديا وامنيا … ألخ
وبتخلي القادة والأفراد عن حب وطنهم سيصبح الوطن خرابا على كافة الأصعدة …
وما حركة السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عنا ببعيد ورأينا كيف أن حبه لوطنه وأبناء وطنه أنتج ثورة دينية وفكرية وأخلاقية نقلتهم نقلة نوعية …
وهكذا هي كل قيادة رسالية تكون محبة لوطنها ولن تتخلى أو تبتعد عنه وتتركه في أحلك الظروف … وهكذا ينبغي أن يكون جميع المؤمنين …
فأحبوا وطنكم لأن الدين والفطرة الإنسانية السليمة تحث على ذلك وأحبوا كل من يحب وطنكم ولا يرتضي به بدلا
………………………………………………………………………………………………………………………………………
([1]) المرجع اليعقوبي، نشرة الصادقين العدد (22) الصادر بتاريخ 22 في 5 آيار 2005.
([2]) المصدر السابق.
([3]) اللقاء الصوتي الثاني.
([4]) المرجع اليعقوبي، نشرة الصادقين العدد (98) الصادر بتاريخ 15 نيسان 2011.
([5]) بحار الأنوار ج21 ص122. مستدرك الوسائل ج9 ص345.
([6]) بحار الأنوار ج75 ص45.
([7]) كنز الفوائد للكراجكي ص34 وعنه بحار الأنوار: ج71 ص264.
([8]) مستدرك سفينة البحار ج10 ص375.
([9]) احمد عبد الله أبو زيد العاملي، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق.ج3 ص52.
([10]) المصدر السابق ج4 ص178 وما بعدها.
([11]) المصدر السابق ج4 ص104-113.
([12]) المرجع اليعقوبي (دام ظله)، كلمة بعنوان: قضية الحسين (عليه السلام) عنوان لقضايانا (تسجيل فيديوي). 19 كانون الأول 2009م.