من الخطأ أن يكون شعارنا (حشرٌ مع الناس عيد) بل (حشرٌ مع الحقّ عيد) فنكون مع الحق ولو لم يكن معنا أحد، وإذا كان الأكثرية على أمر فلا نأخذ به من دون تروٍ وتثبّت ورجوع إلى أهل الاختصاص قبل الأخذ بها ولا نستوحش الطريق لقلّة سالكيه كما عبّر أمير المؤمنين (عليه السلام).
هذا مما جاء في كلمة سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله والتي كانت بعنوان “ليس سعيداً من اكتفى بغيره في فعل الخير([1])
وفيما يلي نص الكلمة :
ينطلق الإنسان في تصرفاته من ثقافته ومنظومته الفكرية فقد يقوم بالسلوك الخاطئ لأنه يراه صحيحاً من وجهة نظره، وهذا الانقلاب في القيم والأفكار هو ما حذّر منه النبي (صلى الله عليه واله) بقوله: (كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً أو المنكر معروفاً)، فإذا أردنا إصلاح سلوك هذا الشخص فلابدّ من تصحيح أفكاره أولاً.
وهذه المشكلة موجودة بشكل كبير في المجتمع النسوي لأنهنّ تعارفن على أمور وتسالمن عليها إلى درجة أنّ الواحدة منهنّ لا تستطيع الخروج عليها لأنّها ستلاقي ضغطاً اجتماعياً كبيراً، رغم أنّ الكثير من هذه الأمور لا يوجد دليل عليها بل أنّ بعضها مخالف للشريعة وفعله معصية فيتحوّل المنكر حينئذ إلى معروف والمعروف يصبح منكراً، والأمثلة على ذلك كثيرة لا أريد الخوض فيها هنا لأنّها تختلف من مجتمع إلى آخر.
والذي أريد أن أتحدّث عنه هنا أحد مكوّنات صنع هذه المنظومة الفكرية عند الإنسان والتي تكون منطلقاً لتصرفاته، وكيفية إصلاحها إذا كنّا بفضل الله تعالى جزءاً من عملية الإصلاح التي قادها الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) قال الله تعالى (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود/88) وقال الإمام الحسين (عليه السلام): (وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي محمد (صلى الله عليه واله)).
ومكوّنات هذه المنظومة الفكرية عديدة، كالدين والتقاليد الموروثة والثقافة والأعراف العامّة، وما يقدّمه صنّاع الرأي العام من كتّاب ومثقفين وإعلاميين، وقد تصنع الثقافة العامّة على شكل كلمات تصير أمثالاً يضربها الناس للاستدلال على صحّة سلوكياتهم، ولذا نؤكد على أهميّة تأثير الثقافة والأفكار في سلوك الإنسان.
ومن تلك الأمثال الخطيرة (حشرٌ مع الناس عيد) التي يبرّر بها الكثير إنسياقهم وراء السواد الأعظم في العقائد أو السلوك أو الأخلاق أو المواقف بل حتى في العقائد([2]) بحجة أنّ الأكثرية مضوا على هذا، وان الموقف المشهور هو هذا، من دون تمحيص وتحقيق وبحث عن الدليل، رغم أنّ الله تعالى يؤكد في كتابه الكريم أنّ هذه الأكثرية لا توصل إلى الحق ولا تغني عن الحقّ شيئاً (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف/103) (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) (الأنعام/116) (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) (الإسراء/89) (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) (الفرقان/50) (وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) (البقرة/243) (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ/ 28) (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) (غافر/ 59)، ولو كانت مقولة (حشر مع الناس عيد) تفيد حقاً لحكمنا بصحة العقائد الباطلة لكثرة معتنقيها.
وبالعكس امتدح القلّة الثابتة على الحق (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ) (البقرة/ 83) (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) (البقرة/ 246) (فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) (البقرة/ 249) (فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء/ 46).
فإذن من الخطأ أن يكون شعارنا (حشرٌ مع الناس عيد) بل (حشرٌ مع الحقّ عيد) فنكون مع الحق ولو لم يكن معنا أحد، وإذا كان الأكثرية على أمر فلا نأخذ به من دون تروٍ وتثبّت ورجوع إلى أهل الاختصاص قبل الأخذ بها ولا نستوحش الطريق لقلّة سالكيه كما عبّر أمير المؤمنين (عليه السلام).
والكلمة المشهورة الأخرى (السعيد من اكتفى بغيره) ولا أعلم إن كان لها منشأ من الأحاديث الشريفة أو لا، وقد يكون لها مورد تصح فيه فإنّ من سعادة المرء مثلاً أن يكون مكفول الرزق والمؤونة كما ورد في الأحاديث الشريفة عن طالب العلم، فهذا من السعادة أن يكون فارغ الهم من طلب المعاش.
لكن هذه الكلمة استُخدمت مبرّراً للتقاعس عن كثير من الأعمال الصالحة بإيكال الأمر إلى من يقوم به كإرشاد الناس وتعليمهم الأحكام وتدريس العلوم الدينية، وإمامة الصلاة والتبليغ في البلدان الأخرى ونشر الوعي والإصلاح وهكذا.
وتطورّت هذه الثقافة إلى ترك واجبات مهمّة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعنوان أنه واجب كفائي لا يتعيّن عليه شخصياً القيام به ولعل غيره يفعل ذلك وهكذا.
وفي هذا خطر على الأمة لأنّ حالة (التواكل) تسبّب ضياع المعروف وضعف أهله وتفشّي المنكر وتقوية فاعليه، وفيه أيضاً ضرر على الفرد نفسه بتضييع فرص مهمّة لطاعة الله تعالى والتقرّب منه.
عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال (كان رسول الله (صلى الله عليه واله) يقول: إذا أمّتي تواكلت ((تواكلوا)) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله).([3])
وعن امير المؤمنين (عليه السلام): (عليكم بأعمال الخير فتبادروها ولا يكن غيركم أحقّ بها منكم).([4])
وعنه (عليه السلام) قال: ـ( افعلوا الخير ولا تحقّروا منه شيئاً فإنّ صغيره كبير و قليله كثير ولا يقولنّ أحدكم أن أحداً أولى بفعل الخير منّي فيكون والله كذلك، إنّ للخير والشرّ أهلاً فما تركتموه منها كفاكموه أهله).([5])
ومن أعظم أعمال الخير والطاعات التي أمرنا بالمسارعة إليها واستباقها والمبادرة إليها هي التفقه في الدين ونشر علوم أهل البيت (عليهم السلام) وإرشاد الناس وتعليمهم وتوعيتهم، خصوصاً في المجتمع النسوي الذي يحتاج إلى جهد مضاعف لطول الحرمان والعوائق التي صنعها المجتمع ونحوها من الأسباب.
وهذه من الوظائف المهمة التي قامت بها الصدّيقة الطاهرة الزهراء (ع) ولم تقل للنساء اذهبن إلى رسول الله (صلى الله عليه واله) أو أوصلوا مسائلكم عن طريق أزواجكم إلى رسول الله (صلى الله عليه واله) لأنّها لا تريد أن تحرم نفسها من هذه الطاعة العظيمة.
روي في تفسير العسكري (حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء ع فقالت : إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء ، وقد بعثتني إليك أسألك . فأجابتها فاطمة ع عن ذلك ثم ثلثت ، فأجابت ، ثم ثلثت فأجابت إلى أن عشرت فأجابت ، ثم خجلت من الكثرة ، فقالت: لا أشق عليك يا بنت رسول الله. قالت فاطمة ع: هاتي و سلي عما بدا لك ، أرأيت من اكترى يوما يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، و كرائه مائة ألف دينار أ يثقل عليه ؟ فقالت: لا . فقالت عليه السلام: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤا فأحرى أن لا يثقل عليَّ ، سمعت أبي رسول الله صلى الله عليه واله يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون ، فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم ، و جدهم في إرشاد عباد الله . حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف خلعة من نــور. ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد ،الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم ، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم و نعشتموهم، فاخلعوا عليهم [كما خلعتموهم] خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم، حتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة و كذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم. ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم و تضعفوها، فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، و يضاعف لهم، و كذلك من بمرتبتهم ممن يخلع عليه على مرتبتهم. و قالت فاطمة ع : يا أمة الله إن سلكا من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة ، و ما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر).([6])
([1]) حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من المبلّغات والمدرّسات في الحوزات النسوية في المدينة المنوّرة والإحساء والقطيف وقم المقدّسة يوم الثلاثاء 21/ج1/1434 المصادف 2/4/2013.
([2]) كالمخالفين لأهل البيت (عليهم السلام) الذين لا يملكون الدليل مقابل أحقّية أمير المؤمنين (ع) بالخلافة فيتمسكون بأنّه أمر واقع سار عليه أكثر الصحابة ونحن نتبعهم، وكذا تشتهر بعض المرجعيات ويكثر اتباعها بلا حجّة سوى هذه المقولة المصطنعة.
([3]) وسائل الشيعة، أبواب الأمر والنهي، باب 1 ح5.
([4]) غرر الحكم: رقم 6151.
([5]) بحار الأنوار: 68/ 190 عن نهج البلاغة 4/ 99، قصار الكلمات.
([6]) بحار الأنوار: ج2 ص3 ح3.