إن مناسك الحج حافلة بالمواعظ والعبر والدروس المعنوية لمن تأمل فيها؛ ابتداءً من استعداده للسفر وتحضيره لمستلزماته وجوازه فيتذكر هل حصّل جواز مروره على الصراط وهل حصّن نفسه وقلبه من الرذائل المعنوية كما اصطحب شهادة للتطعيم ضد الأوبئة وهل حضّر زاده للآخرة بالتقوى [فَإنَّ خَيرَ الزَادِ التَقوَى] كما حضّر أمتعته لسفره مهما طالت مدّته فإنها لا تتجاوز أياماً معدودة أما الموت فهو سفر إلى حياته الدائمة.
ويتذكر برفقاء السفر قرناءه في القبر فالرفيق المريح المؤنس هو كالعمل الصالح القرين لصاحبه في القبر والرفيق المشاكس المتعب كالعمل السيئ [وَقَيّضنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ] [فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ] وهذا لمجرد التذكرة وإلا فالفرق شاسع.
ثم يذكر نعمة ربّه عليه إذ سخّر له من الآلات ما تطوي به المسافات البعيدة دون عناء فيكرر قوله تعالى كلما ركب وسائط النقل [سُبحَانَ الذِي سَخَّرَ لَنَا هّذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرِنِينَ].
وحينما يفارق أهله ووطنه ومحل عمله ونمط حياته الذي تعوّده يتذكر غربته بعد الموت ومفارقته لمالِه وأحبته الذين أفنى عمره لخدمتهم ولم يصحبه إلا عمله.
وحينما يتجرد عن ملابسه ويرتدي ثوبي الإحرام يستشعر ذهابه إلى ربه وحيداً فريداً [وَلَقَدْ جِئتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكتُمْ مَا خَوَّلنَاكُمْ وَرآءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذِينَ زَعَمتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ] مؤتزراً كفنه فقط، وأن يفهم من الإحرام تخلّيه وتوبته عن سيرته السابقة وبدء صفحة جديدة بيضاء من العمل لا يملؤها إلا بما هو صالح.
وحينما يطوف حول بيت ربه يعلّم نفسه كيف يجعل الله تبارك وتعالى هدفاً في كل تفاصيل حياته ومحوراً لكل أعماله، ثم يصلي لربه فلا يعبد إلا الله ولا يسجد إلا لله ولا يطيع إلا الله ولا يخضع إلا لله، فإذا فعل ذلك كفاه الله حقارة وذل وطاعة غيره والخنوع والعبودية للمخلوقين.
وحينما يجلس وسط المسجد الحرام وفي قبالة بيته يستشعر الهيبة والجلالة لخالقه العظيم وامتنانه وشكره لجليل نعمه وجميل صنعه ويستشعر الحياء من التقصير في حق طاعته والهمّة والعزيمة في التغيير نحو علاقة أفضل مع ربه.
وهكذا يسترسل في هذه الأجواء والمعاني القدسية في سعيه بين الصفا والمروة ووقوفه في عرفات والمشعر الحرام ومبيته في منى وذبحه للهدي وحلقه لرأسه حتى إذا وقف لرمي الجمرات أخذه الحماس لرمي النفس الأمّارة بالسوء بسهام الورع والتقوى والشوق إلى رضوان الله تبارك وتعالى ورمي شياطين الإنس وطواغيت الأرض وأولياء الشيطان بسهام الإخلاص لله تبارك وتعالى والالتزام بشريعته الكاملة وعدم الانخداع بالمغريات أو الخوف ونحوها من الوسائل البالية لشياطين الإنس والجن.
ولو شاهدتم معي منظر المسلمين من شتى دول العالم على اختلاف جنسياتهم وألوانهم ولغاتهم يسعون بصوت واحد في كتائب وألوية ومجاميع وترتفع أمامهم أعلامهم وراياتهم متوجهين جميعاً نحو الجمرات ليرجموا الشياطين التي تبدو عاجزة ساكنة جامدة متحجرة لا تملك أن تدفع عن نفسها ويرجع الجميع مزهوّين بالانتصار وإصابة الشياطين لرأيتم منظراً مهيباً مهولاً وكم تمنيت لو أن هذه الملايين توحدت بهذه الهيئة وبهذا الحماس والاندفاع لترفض طواغيت الأرض والقوى المستكبرة لاستطاعت أن تهزمها بدون سلاح ولا تحتاج أزيد من هذه الحجارة ولكن عليها أن ترجم أهواء النفس الأمّارة بالسوء قبل ذلك فإنّ النصر على الأعداء لا يتحقق إلا بعد الانتصار في ميدان الجهاد الأكبر داخل النفس مع جنود الشياطين.
وهناك على صعيد منى وداخل الحرم المكي الشريف وفي كل زمان ومكان تعيش الأمل والأمنيات السعيدة يوم العيد الأكبر حينما يأذن الله تبارك وتعالى لوليّه الأعظم بالظهور فيوحّد هذه الجموع ويقودها نحو الخير والسعادة ويحكم بالقسط والعدل؛ لذلك أكثِروا من الدعاء له (أرواحنا له الفداء) بالحفظ والتأييد والنصر وتعجيل الفرج.
وحينما تتجول في مكة ستجد في كل مكان ذكرى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومَعلَماً من معالم الإسلام التي لها مكان شامخ في قلوب أهله؛ فهنا ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهنا عاش في كنف جده عبد المطلب وعمه أبي طالب، وبين هذه الأزقّة كان يتردد، وفي هذا الغار الذي يسمو عالياً ويطلّ على الإنسانية كلها كان يتعبد، وفي هذا الشِعب حاصرته قريش مع عمه وزوجته وأصحابه عدة سنين عاشوا فيها سنوات محنة، وهنا كان بيت الزوجية السعيدة المثالية التي قضاها مع أم المؤمنين خديجة، هذه الأرض وفي ثرى هذه البقعة الطاهرة (الحُجُون) دفنت أجساد جده وعمه وأمه وزوجته، ومن هنا انطلق نور الإسلام ليضيء للبشرية طريق السعادة والكمال، وهذا هو البيت العتيق الذي جعله الله مثابةً وأمناً يتوجه إليه المسلمون من كل أصقاع الأرض.
هذه هي مكة ومعالمها التي اغتصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها قلبه ونفسه وروحه غصباً وهو يغادرها إلى ارض الهجرة (المدينة المنورة) بأمر الله تبارك وتعالى فمضى (صلى الله عليه وآله) وهو يلتفت إلى الوراء ليملأ ناظريه من الأرض المقدسة حيث يتوسطها أول بيت وضع للناس وودع فيها ذكريات الأهل والأحبة وسنوات الجهاد والدعوة إلى الله تبارك وتعالى والعبادة المخلصة له وأشفقَ على قلبه الربُّ الرؤوف الرحيم فطيَّب قلبه بكلمات نزل بها الروح الأمين [إنَّ الذِي فَرَضَ عَلَيكَ القُرآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ] وصدق الله وعده فأعاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة فاتحاً منتصراً بعد ثمان سنوات.
وتقطع الطريق من مكة إلى المدينة وهي تزيد على أربعمائة كيلومتراً فتتذكر معاناة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه كيف قطعوها ورجال قريش الأشداء تلاحقهم وتبحث عنهم وهم قلّة مستضعفون حتى أنجاهم الله تبارك وتعالى.
وفي المدينة حيث المسجد النبوي الشريف الذي شهد مقرّ أعظم قيادة عرفتها الإنسانية وأكملها وأنبلها وأشرفها ومنها أقام دولته المباركة التي ما لبثت أن أشرقت بنورها على الأرض كلها وتقف عند مرقد الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وستشعر أنك أمام قائدك ونبيك الذي تعرض عليه أعمال الأمة كلها أسبوعياً مرة أو مرتين [وَقُلِ اعمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنُونَ] وحينئذٍ يستحضر المسلم كل سجل أعماله ليصلح السيئ منها ويطلب القبول والزيادة من الصالح ببركة أحب الخلق إلى الله تبارك وتعالى، وقريباً من المرقد الشريف بيت علي وفاطمة (عليهما السلام) الذي أذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببقاء بابه مشرعة إلى المسجد وسدّ كل الأبواب إلا هي وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يستأذن للدخول عليها وتتذكر ما جرى على هذا البيت وأهله بعد رحيله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم تزور الأئمة الهداة المظلومين في البقيع وقبور عظماء الإسلام وأبنائه البررة الذين اختارهم الله تعالى من دون الأجيال ليكونوا الطليعة الرسالية التي تحملت أعباء تأسيس بناء الإسلام الشامخ.
وتتجول في معالم مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا مسجد قبا الذي صلى فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أول وصوله إلى المدينة بعد هجرته من مكة، وهذا مسجد القبلتين الذي كان يصلي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه إلى القبلة الأولى بيت المقدس فنزل عليه الروح الأمين بأمر الله تبارك وتعالى بالتحول إلى الكعبة فاستدار وأتم صلاته، وهذه بقية المساجد، وهذه آثار الخندق الذي حفره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه حول المدينة لحمايتها من هجمة قريش الظالمة، وهناك في أحُد رقدَ سبعون شهيداً يتقدمهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ونظراؤهم من خيرة أبناء الإسلام فقدَهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة أحد نتيجة عصيان بعض أصحابه وميلهم إلى الدنيا فحولوا النصر إلى خسارة، وهذا هو جبل أحد الذي استدار حوله خالد بن الوليد بمن معه من المشركين لينقضّ على جيش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخاطبه بعد مدة وكان عائداً إلى المدينة (أُحُدٌ: جَبلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه) حيث استودع في ظله تلك الثلة الطاهرة.
أكتبُ هذه الكلمات ولا أصدق أن سنة كاملة([1]) مرّت على تلك الأيام وكيف طابت نفوس المؤمنين بمغادرة تلك المشاهد المشرفة وكم أَهلُّوا من الدموع وقذفوا الزفرات والآهات من أعماقهم وهم يلقون نظرات الوداع عليه وها نحن نتجرع مرارة الفراق ويعتصر قلوبنا الألم حتى يأذن الله تبارك وتعالى لنا بالعودة إليها أو يقبضنا إليه راضين مرضيين إنه ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة وهو أرحم الراحمين.
([1]) كتبت هذه الكلمات قبيل موسم الحج عام 1425.