بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تهتم الاحتفالات المقامة لأحياء العظماء بسبر سيرتهم وتعداد آثارهم ومنجزاتهم وهو عمل جليل وفيه الكثير من الإنصاف لهؤلاء الذين تشكل حياتهم منعطفاً في حياة الأمة، إلا أنه مع ذلك يبقى صورة للماضي وإرشيفاً للتاريخ، فإذا أردنا أن يكون احتفالاً واعياً مثمراً فلابد من محاولة استلهام روح ذلك العظيم وقراءة أفكاره ومشاريعه؛ لنلتمس منها الحلول لمشاكلنا وقضايانا المعاصرة المستقبلية، وبذلك يتحوّل العظيم إلى مصدر للعطاء يرافقنا في كل مستجدات الحياة ويضع أيدينا بدقّة على الموقف المناسب .
هذا ما أراده السيد الشهيد الصدر (قدس سره) من محاضرة (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) وهي محاضرة واحدة، إلا أنني إلى الآن قدّمت أكثر من عشرين محاضرة لشرحها وتعميق أفكارها وما زال الحديث مستمراً.
وفي عقيدتي إن أحد مناشئ عظمته (قدس سره) هو فهمه الواعي المستوعب للأدوار المشتركة التي عاشها الأئمة (عليهم السلام) في حياة الأمة، وقدرته على تمييز الحالة التي تناسب هذا التصرف أو ذاك، مما يبدو لأول وهلة أنها مواقف متناقضة إلا أنها في الحقيقة ادوار متبادلة والقائد الناجح من يستطيع ربط كل موقف بحالته المناسبة، وبتعبير آخر ربط كل حكم بموضوعه الخاص ، فإذا انضّم لهذه الدراسة المجموعية لحياة الأئمة فهم وتفسير موضوعي للقرآن الكريم يجمع شتات الموضوع الواحد من آيات متفرقة وينظر إليها نظرة واحدة ويرتب بين مفرداتها ليحصل على نظرة متكاملة إلهية لقضايا الكون والإنسان.
أقول: إذا انضّم هذان المكوّنان لشخصية الإنسان فإنه حتماً سيكون مؤهلاً لقيادة الأمة بحكمة حتى يوصلها إلى الكمال المنشود؛ لذا لم يكن غريباً أن تجد هذين العنصرين واضحين في شخصيات المصلحين العظام كالسيد الخميني والشهيدين الصدر الأول والثاني (قدس الله أسرارهم) .
في ضوء هذه المقدمة نريد أن نقرأ أفكار وآثار ومشاريع السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) لنجيب عن تساؤل مهم يفترض أن يفكر فيه كل عامل مخلص يهمّه الوصول إلى حل للقضية العراقية لإخراج هذا البلد العريق وشعبه الكريم من أزمته وبناء عراق حر كريم كما وصفه الشهيد (قدس سره) في خطاباته الأخيرة والتساؤل هــو أنه لو كان الشهيد الصدر (قدس سره) حيـــاً الآن لفعـل ماذا ؟ وهو أبو العراق والعراقيين ومؤسس الحركة الإسلامية في العراق وباعث الروح فيها بل تجاوز تأثيره إلى غير العراقيين من المسلمين والى غير المسلمين من البشر فأصبح رمزاً عراقياً وإسلامياً وإنسانياً.
وحينما أسجل الأفكار التالية بالترتيب فإني لا أعني أنه سيسير فيها طولياً كالسلسلة فينتهي من حلقة ليدخل في الأخرى، بل أنه سيعمل لها جميعاً في خطوط متوازية وبعرض واحد، وهي مسؤولية شاقة وعظيمة إلا أنها ليست كثيرة على همة أهل العزم والإخلاص لله تبارك و تعالى وذوي الأهداف السامية الكبيرة حتى قيل (كم من همّة صنعت أمة) وشواهدها التاريخية كثيرة.
وبما أن العراق يواجه تحديات ستراتيجية ومرحلية فأنه (قدس سره) سيفكّر على كلا المستويين وسيقيم مشاريعه في كلا الاتجاهين.
فيقوم بتطوير الحوزة العلمية الشريفة لتكون قادرة على تحمل هذه المسؤولية الجديدة، فيتوسع في قبول الطلبة فيها لأن النجف الأشرف ليست مسؤولة عن نفسها فقط ولا عن العراق فحسب، بل عن العالم كله وهذا يحتاج عدداً ضخماً من حملة الرسالة والدعاة إلى الله تعالى، وسيجعل شروطاً لقبولهم بأن يكونوا من الواعين للمسؤولية ولدورهم في حياة الأمة، ويحاول استقطاب حملة الشهادات الأكاديمية لأنهم يكونون أكثر تأثيراً في المجتمع أولاً وذوي ذهنية معمقة ثانياً ومستوعبين لواقع الأمة لأنهم عاشوه بكل تفاصيله ثالثاً، وسيعمل ضمن هذا الإطار على وضع برنامج إداري مركزي ينظم شؤونها يشابه النظام الأكاديمي ليتمكن من استثمار كل طاقاتها وقدراتها ولا يتحقق ذلك إلا بالنظام.
وسيهذِّب مفردات المنهج الدراسي فيحذف الكثير من المطالب التي تعتبر ترفاً فكرياً ولّدته ظروف موضوعية في حينها، ولم يعد لها الآن مبرر، والاستمرار بتدريسها يضيع الكثير من وقت الطالب الذي هو في حاجة إليه وسيضع مناهج جديدة في بعض العلوم، يلاحظ فيها التدرج الدراسي والتدريب الذهني واللغة المعاصرة مع المحافظة على عمق المطالب، كما فعل في كتابه (دروس في علم الأصول) وجعله بحلقات ثلاث . ويضيف إلى العلوم المتداولة في الحوزة دروساً في الوعي السياسي والاجتماعي والنفسي والاقتصادي وتعليم اللغات الحية ويدخل الوسائل التعليمية وأدوات الاتصال المعرفي المتطورة .
كما أنه (قدس سره) سيهتم ببناء الجانب الأخلاقي لطلبة العلوم الدينية ويهذب نفوسهم ويسمو بأهدافهم ويعمّق صلتهم بالله تبارك وتعالى ويزهدهم فيما سواه، كما فعل في محاضرته الأخيرة عن حب الدنيا قبل استشهاده (قدس سره) حتى أبكى عيون الحاضرين وارتقى بهم إلى أجواء روحية صافية لازال يعيشها كل من سمعها، فإن العلم وحده غير كافٍ للتكامل وهداية الآخرين إذا لم يقترن بالعمل الصالح قال تعالى [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ] (فاطر: 10).
وسيعمل على نشر الحوزات العلمية في جميع مدن العراق ليخلق واقعاً إسلاميا ً دينياً شاملاً بدلاً من اقتصاره على مدينة النجف الأشرف، ولأنه يعلم أن الحوزات العلمية هي حصون الأمة التي تحفظ لها هويتها وتقودها نحو الهدى وتجنبها الردى.
وسيعمر المساجد بالدعاة والمبلغين الرساليين الذين يحملون همّ الإسلام بين جوانحهم، ويسعون إلى إقناع الناس به حتى يحكّموه في حياتهم، وبذلك تنطلق من المساجد شعلة الإيمان المتدفقة كما كانت في عصر النبوة وصدر الإسلام فما دامت المساجد بخير وتؤدي وظيفتها فإن الأمة تكون بخير.
وسيعطي للمرأة والشباب حيّزاً كبيراً من مشاريعه فينشر المراكز الثقافية والتربوية، ويزودها بالكتب التي تنمي الوعي الإسلامي وتعرف المسلم بهويته وتعلمه تكاليفه، ويرسم لهذه المراكز نشاطاتها من عقد الندوات والحلقات العلمية للفقه والأخلاق والتفسير والعقائد والسيرة، ويزودها بكل المرغبات التي تجذب إليها أبناء الأمة من الذكور والإناث، ويجعلها عامرة بالفعاليات وحافلة بالخدمات الاجتماعية والإنسانية.
وسيختار للمدن وكلاء من طراز خاص يفهمون رسالته، ويقومون بكل تلك الأدوار ليس للدنيا في حساباتهم نصيب.
وسيضع للأطفال برامج تثقيفية واجتماعية تنشئهم على الإيمان بالله تبارك وتعالى والالتزام بشريعته بالوسائل المحببة إلى نفوسهم.
وسيمثّل للإسلام والمسلمين نموذجهم الحضاري الأول في هذا الصراع الذي أعلنه الغرب في مواجهته للإسلام بما يسمونه (صراع الحضارات)، وسيعمل في مسارين مزدوجين.
أحدهما التعريف بالإسلام كشريعة وقانون قادر على قيادة الحياة بكل أنشطتها ويغطي كل شاردة وواردة من فعاليات الإنسان، ويبين معالم هوية المسلمين كأفراد وكأمة وأسس حضارتهم ومبادئهم ومرتكزاتهم.
وثانيهما بيان نقائص الحضارة الغربية على مستوى النظرية والسلوك فيبين نقاط الخلل في الأيديولوجية التي يتبنونها والابتعاد عن الإنسانية في تصرفاتهم التي تهبط إلى مستوى الهمجية الحيوانية أحياناً.
وهو بذلك يفتح باباً واسعاً لحوار الحضارات لأنه ابن القرآن الذي دعا للحوار وللرجوع للثوابت المشتركة [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران:64)، [لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] (البقرة: 256)، فليست العلاقة بين بني البشر هي الصراع والتزاحم بل التعاون البنّاء، فإن الأرض بخيراتها تسعهم جميعاً ولكل واحدٍ منهم مكان عليها ولن تضيق عن أحد.
وعلى الصعيد السياسي فسيكون (قدس سره) البوتقة التي تنصهر فيها كل رؤى ومطالب أطياف الشعب العراقي الدينية والعرقية ليصوغها في نسيج موحد يحفظ لهم جميعاً حقوقهم ولا يحيف على أحد لمصلحة أحد، وسيكون أباً للجميع وصمام أمان لوحدة هذا الشعب لثقة العراقيين جميعاً بنزاهته وفكره النيّر وتجرده عن الأنا، وقلبه الكبير الذي وسع حتى أعداءه جلاوزة الأمن الذين كانوا يحاصرون بيته ومنعوا عنه أبسط حقوق الحياة، ومع ذلك فلما أطلّ من شرفته عليهم في يوم حار ورآهم يتصببون عرقاً أمر خادمه الشخصي بسقيهم الماء ، هذه الذات السامية سيجتمع عليها جميع العراقيين ويلتمسون عنده المخرج، وقد جربوا رجاحة عقله وعمق وعيه السياسي في حله للقضية الكردية حينما اجتمع به عدد من طلبة جامعة بغداد من الأكراد في ذروة الأزمة السياسية بينه وبين النظام، فقدم الأطروحة التالية التي رواها أحد أعضاء الوفد قائلاً :
(إن حل القضية الكردية في العراق سهلٌ وبسيط إننا نؤمن أن تدار المناطق الكردية من قبل الأكراد وبأي تسمية كانت حكم ذاتي أو إدارة ذاتية وبعد إجراء انتخابات بهذا الخصوص لكي يحدد الأكراد أنفسهم طريقة الحكم . ونؤمن أن تكون اللغة الكردية اللغة الرسمية للمناطق الكردية (لغة تدريس وتداول ثقافة) على أن تكون عقيدة الرجال الذين يديرون المناطق الكردية مسلمون حقيقيون عقيدة وسلوكاً وهذا من حقنا حيث أن رؤساء مناطق الحكم الذاتي وجمهوريات الاتحاد السوفيتي هم من نفس عقيدة السلطة المركزية (أي الشيوعيين)).
وسيضع كل هذه الرؤى مع الضمانات الضرورية لتنفيذها في دستور متكامل ينظم عمل السلطات في البلاد والهيئات الدستورية المراقبة لها .
كل هذه وغيره كان يمكن أن يقدمه السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) للأمة، لولا أن مجرم العصر صداماً أقدم على جريمته النكراء بإعدامه وأخته العلوية الطاهرة بنت الهدى، وحرم الأمة من بركات عطائه، لكنه (قدس سره) لم يمت بل سيبقى محركاً للأجيال كي تواصل مسيرته وتحقق له آماله كي تقر عيناه عسى الله أن يجمعنا وإياه في مستقر رحمته في جوار أجداده الطاهرين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1) كلمة أعدّت لإلقائها في الاحتفال الذي يقيمه حزب الدعوة الإسلامية بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لاستشهاد مؤسس الحركة الإسلامية في العراق السيد محمد باقر الصدر، وأقيم في كربلاء يوم 6/ 4/ 2004 وتحدث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بمضمون الكلمة ارتجالاً من تلفزيون (العراقية) في بغداد وأعيد بثه عدة مرات.