قال سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) إن الإنسان قد يتوصل إلى معرفة عميقة بأجزاء جسمه ووظائفها والامراض العارضة لها وكيفية علاجها، لكن لا أحد يستطيع أن يصف الانسان في هواجسه وميوله وغرائزه ومكنونات ضميره أفضل من خالقه العظيم، وقد كشف القرآن الكريم عن جملة من هذه الاوصاف، قال تعالى (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً) (المعارج:19) (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72) (إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم:34) (وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف:54) (إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ) (الحج:66) (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (العاديات:6) (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف:103) (وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف:79) (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (المؤمنون:70) وغيرها مما تستحق أن يفرد لها بحث مستقل إلى ان تصل ذروة الشكوى من الانسان والدعاء عليه في قوله تعالى (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) (عبس:17) وكانت نتيجة ذلك (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر:2).
والمقصود ليس الانسان بذاته وحقيقته وأصل خلقته لأنه صٌمِّم (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4) ليكون خليفة الله في أرضه وأسجد له ملائكته (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء:70) وعنده القابلية لأن يكون أعلى درجة من الملائكة اذا أخلص العبودية لله تعالى، وفي الحديث عن الامام الباقر (عليه السلام) (ما خلق الله عز وجل خلقاً أكرم على الله عز وجل من المؤمن لأن الملائكة خدّام المؤمنين) [2]. وعلّل ذلك الامام الصادق (عليه السلام) عندما سأله عبدالله بن سنان : الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال (عليه السلام) (قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) : إن الله ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقلُهُ شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم) [3] .
وانما المقصود الانسان بواقعه الخارجي وسلوكه العملي الذي اختاره بنفسه لأنه لم يحافظ على فطرته ولم يلتزم بما خُطِّط له واتبع هواه وغرّته الدنيا وزين له الشيطان عمله وفي الحديث (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه و يمجسانه) [4] ، ولو ناله التوفيق الإلهي وحصلت له التربية الصالحة لما انحدر إلى تلك الصفات، ولذا استثنت الآيات الكريمة ولم تشمل كل انسان (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) (المعارج:19-23) (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
ومن هذا نعرف أنه لا يوجد تنافي بين هاتين النظرتين القرآنيتين ومن تلك الغرائز والميول: العجلة وعدم التأني في اتخاذ القرار والموقف فيتخبط ويوقع نفسه في الضرر (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) (الأنبياء:37) حتى إنه بسبب استعجاله يدعو ويطلب الشر لنفسه كطلبه الخير حين يندفع لتحقيق مطامعه من دون أن يفرِّق بين الوسائل المشروعة وغير المشروعة للوصول إلى أهدافه. (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) (الإسراء:11) فكونه عجولاً بطبعه علة لدعائه بالشر كما يدعو بالخير والظاهر أن (كان) هنا شأنية أي ان من شأنه ذلك أو (كان) التامة بمعنى وُجِد وخلق وفي طبعه العجلة، وتكون (عجولا) حالاً وليس خبر كان بناءاً على كونها ناقصة.
والدعاء هنا بمعنى الطلب وهو أوسع من كونه باللسان أو بالسعي والعمل فدعاؤه بالخير والشر أي طلبه لهما وسعيه اليهما كمن يطلب الرزق تارة بلسانه وأخرى بسعيه وجهده، قال تعالى (يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الرحمن:29) وليس كلهم يسألون باللسان فالإنسان لطبعه العجول يطلب الشر أو يسعى اليه بالعمل كطلبه الخير (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) (الحج:47) (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) (الرعد:6) (قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) (النمل:46).
وقد أورد القرآن الكريم نماذج من هؤلاء كقوله عن أحدهم ــ قيل إنه النضر بن الحارث ــ (اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (الأنفال:32) وقد استجاب الله تعالى دعائه وتمكّن منه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتله ولذا ورد التوجيه من الامام الصادق (عليه السلام) (اعرف طريق نجاتك وهلاكك كي لا تدعو الله بشيء عسى فيه هلاكك وانت تظن أن فيه نجاتك) [5] .
دوافع العجلة:
وإنما يعجل الانسان لاتباعه هواه فيستعجل تحصيل اللذة والمتعة وما يوافق هواه أو لسذاجته وحسن ظنه المفرط أو لجهله بحقائق الأمور وعواقبها فيتوهم الأمور بالعكس فيرى الخير شراً والشر خيراً وتنقلب الموازين في نظره فيصبح عنده المعروف منكراً والمنكر معروفاً، فيصير ذلك حجاباً عن الحقيقة والمعرفة ومانعاً من التكامل.
الاستعجال محمود ومذموم:
والاستعجال قد يكون محموداً أو مذموماً فالمحمود ما كان في فعل الخير إذ تستحب المبادرة إليه ، قال تعالى (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133) وقال تعالى (وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) (آل عمران:114) (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) (البقرة:148) وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله (التؤدة في كل شيء خير الا في عمل الآخرة)[6] وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (التؤدة ممدوحة في كل شيء الا في فرص الخير) [7] وعنه (عليه السلام) قال (اذا عرض شيء من أمر الآخرة فابدأ به، واذا عرض شيء من أمر الدنيا فتأنَّه حتى تصيب رشدك فيه)[8]، وإنما طلب التعجيل إلى فعل الخير لأن التثاقل والتباطؤ فيه يعطي فرصة للشيطان وللنفس الامارة بالسوء لثني الشخص عن المضي فيه كما في الحديث الشريف عن الامام الباقر (عليه السلام) قال (من همَّ بشيء من الخير فليعجّله فان كل شيء فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة) [9] وعن الامام الصادق (عليه السلام) قال (اذا همَّ أحدكم بخيرٍ أو صلةٍ فإن عن يمينه وشماله شيطانين، فليبادر لا يكفّاه عن ذلك) [10].
واما الاستعجال المذموم ففي اقتحام الأمور من دون حساب عواقبها والسير وراء المطامع والشهوات بمجرد خطورها في ذهنه وتراءي مصلحة ما فيها من دون تروّي وملاحظة النتائج والاثار وحينئذٍ يصطدم بالنتيجة وتحلّ به الندامة، اما اذا درس الموضوع بشكل جيد وعرف وجه الصلاح فيه. فحينئذٍ ينفذّ ما انعقد عليه عزمه، قال تعالى (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ) (آل عمران:159).
فعلى الانسان ان يصبر ويتأنى في نيل مقاصده واغراضه ويتحقق من كونها مشروعة وان الوسائل التي يريد بها تحقيق غرضه مشروعة أيضاً ونقية وعفيفة، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: (انما اهلك الناس العجلة ولو ان الناس تثبتوا لم يهلك أحد) [11] وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (ان الاناة من الله والعجلة من الشيطان) [12] وعن الامام الصادق (عليه السلام) قال (مع التثبت تكون السلامة، ومع العجلة تكون الندامة) [13] . وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (التأني في الفعل يؤمن الخطل، التروي في القول يؤمن الزلل) [14] .
وبذلك يتّضح ان الاناة والتثبت من جنود الرحمن والعقل وان العجلة والتسرع من جنود الشيطان والجهل.
روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) دخل المسجد وقال لرجل (امسك علي بغلتي ــ أي احفظها وما عليها من السرقة والضياع إلى ان ينهي الامام عبادته لكن الرجل المؤتمن طمعت نفسه ــ فخلع لجامها وذهب به فخرج علي (عليه السلام) بعد ما قضى صلاته وبيده درهمان ليدفعهما إليه مكافأة له، فوجد البغلة عطلى ــ أي خالية من السرج فقد سرقه الرجل طمعاً بثمنه ــ، فدفع إلى غلامه الدرهمين ليشتري به لجاماً، فصادف الغلام اللجام المسروق في السوق قد باعه الرجل بدرهمين، فأخذه بالدرهمين وعاد إلى مولاه.
فقال علي (عليه السلام): إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر ولا يزداد على ما قدر له) [15] . فعجلته لتحصيل المال أدّت به إلى هذه النتيجة السيئة ولنا كلمة مستقلة اعطينا فيها امثلة من الواقع على هذه النتيجة.
ومن صور الاستعجال المذموم قيام البعض بالتشهير بالآخرين وذمهم وتسقيطهم ونشر غسيلهم بمجرد وصول خبر إليه بذلك من دون أن يتحقق من صدق الخبر أو يعطي الفرصة للآخر لكي يبيّن الحقيقة ويعطي العذر، في الحديث المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (يا عبد الله لا تعجل في عيب أحدٍ بذنبه، فلعله مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصيةٍ فلعلك معذب عليه) [16] .
ومن كتابه (عليه السلام) إلى مالك الاشتر لما ولّاه مصر (لا تعجّلن إلى تصديق ساعٍ فان الساعي غاش وإن تشبّه بالناصحين) [17] .
وهذه العجلة المركوزة في طبع الانسان هي التي تعمي بصيرته وتسلب عقله فتدفعه إلى التشبت بالدنيا والتمسك بها لأنه يجد فيها لذة عاجلة ويعزف عن متطلبات الآخرة لأنها مؤجلّة (إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (الإنسان:27).
وقال تعالى (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً) (الإسراء:18).
ومن اسوأ النماذج على هؤلاء عمر بن سعد فانه عندما كلّفه ابن زياد بقيادة الجيش الخارج الى حرب الامام الحسين وبات ليلته يفكّر ويتأمل في ما عرض عليه من ولاية الري وجرجان ان قتل الحسين (عليه السلام) وفيها نار جهنم وانشأ ابياتاً منها:
وأختار في النهاية الدنيا العاجلة الفانية معللاً ذلك بقوله (وما عاقل باع الوجود بدين) لكنه لم يكن عاقلاً في اختياره بل كان أحمقاً ومتوهماً.