الإمام الهادي (عليه السلام) يواجه أصحاب الدعاوى الباطلة (1)
تعوّدنا في ذكريات الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) أن نستطلع صفحة من سفر حياتهم الكريمة الغنيّة لنأخذ منها الدروس والعبر بما يرتبط بواقعنا المعاصر، وفي ذكرى استشهاد الإمام علي الهادي (عليه السلام) عاشر الأئمة الأطهار (عليهم السلام) نأخذ منه درساً في مواجهة أهل البدع والضلالات وأدعياء العناوين الدينية الزائفة.
ففي عدّة مصادر بسندهم عن أبي هاشم الجعفري –من ذرية جعفر بن أبي طالب- قال: ((ظهرت في أيّام المتوكّل امرأة تدّعي أنّها زينب بنت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) فقال المتوكّل: أنت امرأة شابّة وقد مضى من وقت وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله) ما مضى من السنّين، فقالت: إنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) مسح على رأسي وسأل الله أن يردّ عليّ شبابي في كلّ أربعين سنة، ولم أظهر للنّاس إلى هذه الغاية فلحقتني الحاجة فصرت إليهم.
فدعا المتوكّل مشايخ آل أبي طالب وولد العباس وقريش وعرّفهم حالها، فروى جماعة وفاة زينب بنت فاطمة (ع) في سنة كذا. فقال لها: ما تقولين في هذه الرّواية.
فقالت: كذب وزور، فإن أمري كان مستوراً عن الناس، فلم يعرف لي حياة ولا موت فقال لهم المتوكّل: هل عندكم حجّة على هذه المرأة غير هذه الرواية؟ فقالوا: ﻻ. فقال أنا بريء من العبّاس أن ﻻ أنزلها عمّا ادّعت إلاّ بحجّة.
قالوا: فأحضر ابن الرضا (عليه السلام) فلعلّ عنده شيئاً من الحجّة غير ما عندنا فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال: كذبت فإنّ زينب توفّيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا، قال: فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفت أن ﻻ أنزلها إلاّ بحجّة تلزمها.
قال: ولا عليك فها هنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها، قال: وما هي؟ قال: لحوم ولد فاطمة محرمة على السباع فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها السباع، فقال لها: ما تقولين؟، قالت: إنّه يريد قتلي، قال: فها هنا جماعة من ولد الحسن والحسين (ع) فأنزل من شئت منهم، قال: فوالله لقد تغيّرت وجوه الجميع فقال بعض المبغضين: هو يحيل على غيره لم ﻻ يكون هو؟
فمال المتوكّل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع، فقال: يا أبا الحسن لم ﻻ يكون أنت ذلك؟ قال: ذاك إليك، قال: فافعل! قال: أفعل فأتى بسلّم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسود فنزل أبو الحسن (عليه السلام) إليها فلمّا دخل وجلس صارت الأسود إليه فرمت بأنفسها بين يديه، ومدّت بأيديها، ووضعت رؤوسها بين يديه فجعل يمسح على رأس كلّ واحد منها ثمّ يشير إليه بيده إلى الاعتزال فتعتزل ناحية حتّى اعتزلت كلّها وأقامت بإزائه.
فقال له الوزير: ما هذا صواباً فبادر بإخراجه من هناك، قبل أن ينتشر خبره، فقال له: يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءاً وإنّما أردنا أن نكون على يقين ممّا قلت فأحب أن تصعد، فقام وصار إلى السلّم وهي حوله تتمسّح بثيابه.
فلمّا وضع رجله على أوّل درجه التفت إليها وأشار بيده أن ترجع فرجعت وصعد، فقال: كلّ من زعم أنّه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس، فقال: لها المتوكّل: انزلي.
قالت: الله الله ادّعيت الباطل، وأنا بنت فلان حملني الضرّ على ما قلت، فقال المتوكّل: القوها إلى السبّاع فاستوهبتها والدته)).([2])
أقول نستخلص من هذه الرواية عدّة دروس:
1- تفاعل الإمام (عليه السلام) الايجابي مع قضايا الأمة ومشاكلها وتحدّياتها وحضوره الميداني في وسط الأمة، لا كما نشهده من السلبية والانكماش والانعزال الذي رسّخته المرجعية والحوزة التقليدية فهذا منهج مبتدع وبعيد عمّا سار عليه الأئمة الأطهار.
إن الأئمة ونوّابهم بالحق هم سفن النجاة ومصابيح الهدى فإذا لم يكونوا حاضرين في الميدان مع الأمة فإلى من تلتجئ؟ وممن تأخذ الحل؟ ومن المسؤول عن ضلالها وتشوشها وانتشار الفساد والانحراف فيها؟.
2- تفرّد أهل البيت (عليهم السلام) بالمناقب والفضائل التي حباهم الله تعالى بها، بحيث لا يضاهيهم أحد مما يؤكد استحقاقهم للإمام والخلافة بما فضّلوا به على الخلق أجمعين رغم أنوف الشانئين والحاسدين ، لذلك تجد الأمة تفزع إليهم في كل معضل ومشكل (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن) وكما قال الفراهيدي في جوابه على من سأله عن استحقاق أمير المؤمنين (عليه السلام) للإمامة والخلافة قال (لحاجة كلّ الخلق إليه واستغنائه عنهم جميعاً).
3- فشل المتقمصين للخلافة وعجزهم وافتضاح أمرهم في كلّ مشكلة تواجههم والشواهد على ذلك كثيرة، وفي ذلك حجّة على من يتّبعهم ويواليهم ويعطيهم المشروعية، وبدلاً من معالجتهم لهذه المشاكل والصعوبات التي يعاني منها الناس تجدهم يرسّخونها وينشرونها لكي يشوّشوا فكر المجتمع ويشغلوه بهذه الفتن ولا يلتفت إلى مظالم الحكّام واستبدادهم واستئثارهم بمقدرات الأمة فبالرغم من أن المتوكّل يقطع بأنّ هذه المرأة ليست بنت علي وفاطمة ويمكنه كرئيس دولة قوية ومتنفّذة أن يتحرى عن أصل هذه المرأة وأبويها ومن أيّ مدينة إلاّ أنّه تمادى في نشر هذه الفتنة ويقسم على (أن لا أنزلها عمّا ادعت إلا بحجة) وهو يتمكّن من دحض قولها بالتعرّف على هويتها.
4- معرفة المدّعين لهذه العناوين الدينية بأنّهم كاذبون ومفترون وإنّ ما يقولونه زور وبهتان كهذه المرأة التي ادّعت أنّها بنت علي وفاطمة (C) وهكذا كلّ المدعين لذلك تجدهم يعترفون عندما تضغطهم الحجّة والدليل، ويتعرّضون للعقوبة لكنّهم يراهنون على جهل الناس وسذاجتهم وتسطيح عقولهم وخداعهم بأمور تشتبه عليهم فتتبعهم الناس من دون تعقّل ورويّة ودقّة نظر فيكونون من الأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً.
5- وممّا يحتاج إلى الدراسة والتأمّل أسباب نزوع هؤلاء إلى هذه الإدّعاءات مع معرفة كذبهم في قرارة أنفسهم وعظيم جنايتهم إذ يضل خلق كثير بسببهم، وقد عبّرت هذه المرأة بدقّة عن السبب وهو قولها ((حملني الضرّ على ما قلت)) فإنّها في فاقة وحاجة ولم تجد سبيلاً لسدِّها فالتجأت إلى الخداع بهذه الفريّة لتستهوي قلوب بعض العامّة ويغدقون عليها بالأموال، وقد يكون السبب عند غيرها حبّ الجاه والنفوذ والتسلّط على رقاب الناس وغيرها.
6- اعتماد لغة الحوار والدليل والإقناع للرد على المعاندين والمدّعين وأصحاب الشبهات والضلالات ومقارعة الحجة بالحجة، ما لم ينتقل الطرف الآخر إلى العمل المسلّح الذي يفسد في الأرض، أو يكون خطره عظيماً بأن ينسب الفتن والبدع التي يفتريها من عنده إلى نفس الإمام المعصوم وإلى مدرستهم الشريفة.
فقد أمر الإمام الهادي (عليه السلام) بقتل عدد من أمثال هؤلاء كقوله (عليه السلام) في ابن بابا القمي (يزعم ابن بابا أني بعثته نبياً، وأنّه بابٌ عليه لعنة الله، سخر منه الشيطان فأغواه فلعن الله من قبل منه ذلك، يا محمد: إن قدرت أن تشدخ رأسه بالحجر فافعل، فإنّه قد آذاني، آذاه الله في الدنيا والآخرة).([3])
ومنهم فارس بن حاتم، يروي محمد بن عيسى بن عبيد: ان أبا الحسن العسكري (عليه السلام) أمر بقتل فارس بن حاتم وضمن لمن قتله الجنة، فقتله جُنيد، وكان فارس فتّاناً يفتن الناس ويدعوهم إلى البدعة، فخرج من أبي الحسن (عليه السلام): (هذا فارس لعنه الله يعمل من قبلي فتاناً داعياً إلى البدعة، ودمه هدرٌ لكل من قتله، فمن هذا يريحني منه ويقتله، وأنا ضامن له على الله الجنّة).([4])
ويروي جنيد أن الإمام الهادي (عليه السلام) بعث إليّ فدعاني فصرت إليه، فقال (آمرك بقتل فارس بن حاتم) فناولني دراهم من عنده وقال اشترِ بهذه سلاحاً فاعرضه عليّ) إلى آخر الرواية.([5])
أيّها الأخوة:
هذا درس من حياة الإمام الهادي (عليه السلام) نستلهمه ونهتدي به في هذا الزمن الذي كثرت فيه الدعاوى وكثر المدّعون كالدعوات المرتبطة بالإمام المهدي (عليه السلام) أو دعوات الانتساب إلى ذرية الرسول (صلى الله عليه واله) بدون بيّنة سوى ظنون لا تغني عن الحقّ شيئاً، ودعاوى أصحاب النور والأعمال الروحانية وأصحاب الكرامات، مضافاً إلى هذه القبور الوهمية التي تظهر بعدد هائل بعنوان أنّها لأولاد وبنات المعصومين (عليهم السلام).
والهدف من كل هذه الدعوات التي يعرف أصحابها قبل غيرهم كذبها هو الضحك على عقول الناس لخلق نفوذ وجاه وأتباع واستدرار الأموال طمعاً في هذه الدنيا الدنيّة.
وفي ذلك تشويش لعقائد الناس وتشويه لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وتجهيل للناس واستخفاف بهم ممّا يخدم مشاريع أعداء الإسلام ويفتح الطريق لهم بيسر ليستعبدوا المجتمعات الإسلامية فعلينا جميعاً أن نتأسّى بالإمام الهادي (عليه السلام) وكلّ الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ونقف بحزم وشجاعة وحكمة أمام هؤلاء المدّعين ونفضحهم ونكشف زيف دعاواهم.
([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حضّار مجلسه العام يوم الثلاثاء 3رجب1434 المصادف 14/5/2013.
([2]) الخرائج والجرائح: 1/404 باب معجزات الإمام الهادي (ع)، ح11 ومصادر أخرى.
([3]) رجال الكشي: 520/ 999.
([4]) (3) رجال الكشّي: 524/ 1006.