لقد انتشر الإسلام في أنحاء المعمورة وأتاحت التقنيات المتطورة للاتصالات والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي فرصة التعرف على محاسن الإسلام والدخول فيه لكل الناس، كما أن الهجرة لسبب أو لآخر شملت أصقاع الأرض ومنها المنطقة القطبية، ومن المتوقع أن تزداد نسبة السكان في القطب الشمالي بعد ذوبان الجليد وظهور اليابسة والثروات فيها، فنتوقع أن يهاجر المسلمون إليها مع المهاجرين، لا سيما مع استمرار سوء أوضاع الحكومات في بلداننا الإسلامية!
وتعاني هذه المنطقة من مشكلة في تحديد أوقات الصلاة والصوم المتعارفة لاستمرار النهار أو الليل فيها أياماً أو أشهراً، فلا تتميز عندهم الأوقات لذا جرى البحث عن حل لهذه المشكلة.
أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس ومحورها ليس شاقولياً على الخط الواصل بين مركزها ومركز الشمس (أو مستوي دوران الأرض حول الشمس أو قل خط الأشعة الواصل من الشمس) بل مائلاً، فتارة يكون قطبها الشمالي مواجهاً للشمس وأخرى بعيداً عنها ويتغير ميلان محور دورانها على نفسها عبر السنة ما بين ±23.5ه وقد يبقى مركز القطب في مرأى الشمس طيلة ستة أشهر في الصيف، وقد يبقى في الظل الأشهر الستة الأخرى وغاية الميلان ±23.5 درجة عن الخط العمودي على مستوي الدوران حول الشمس، ويتناقص ويزداد هذا الميلان في كلا الاتجاهين حتى يبلغ غايته المذكورة، وتتأرجح الأرض خلال حركتها بحيث ترسم حركة القطب خطاً متعرجاً يعرف بالعامية (الزگزاگ) في حركة مغزلية تشبه حركة المغزل، وذلك أن المغزل عند الدوران يرتبط أعلاه بخيط الغزل ويتغير موقع أسفله باستمرار الدوران، ووصفتها بعض المصادر بأنها حركة رحوية أي كحركة الرحى.
ونتيجة مواجهة القطب الشمالي للشمس فإنها لا تغيب عنه ويكون الوقت كله نهاراً وتستمر الحالة أياماً أو أشهراً من السنة على اختلاف في الشدة والضعف بحسب درجة الميلان التي قلنا أنها تزيد حتى تبلغ الذروة وتنقص حتى تنقلب إلى الاتجاه المعاكس، وينقص النهار تدريجياً كلما نقص ميلان الأرض ويظهر الليل بالتدريج.
وعندما يكون القطب بعيداً عن الشمس فإن الوقت كله يكون ليلاً وتتزايد شدته وتتناقص على النحو الذي ذكرناه في النهار.
قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((إذا فرض كون المكلف في المكان الذي نهاره ستة أشهر وليله ستة أشهر أو نهاره ثلاثة وليله ستة، أو نحو ذلك فلا يبعد كون المدار في صومه وصلاته على البلدان المتعارفة المتوسطة مخيراً بين أفراد المتوسط. وأما احتمال سقوط تكليفهما عنه فبعيد، كاحتمال سقوط الصوم وكون الواجب صلاة يوم واحد وليلة واحدة. ويحتمل كون المدار بلده الذي كان متوطناً فيه سابقاً)).
وذكر (قدس سره) عدة أقوال في المسألة:
الأول: أن يكون المدار في صومه وصلاته على البلدان المتعارفة المتوسطة، مخيراً بين أفراد المتوسط، فيصوم عند طلوع الفجر عندهم، ويفطر عند غروبهم، فيصوم ويصلي بصلاتهم، وهذا ما اختاره (قدس سره).
الثاني: سقوط التكليف عنه أصلاً، لعدم تحقق شرط وجوبه وهي الأوقات، وبتعبير آخر: إن ملاك الوجوب متقوم بحصول الأوقات فمع عدمه لا ملاك ولا وجوب، وإن التكاليف متوجهة إلى سكان المناطق التي تتميز فيها الأوقات فقط.
الثالث: سقوط الصوم عنه لأنه محدد بين الفجر والغروب وهما لا يتحققان، أما الصلاة فتجب عليه صلاة يوم واحد وليلة واحدة، أي يصلي في السنة الفرائض الخمسة مرة واحدة لأن مجموع الليل والنهار عندهم يكون سنة واحدة، والواجب في اليوم خمس فرائض سواء كان اليوم متعارفاً أم لا.
ونفى عنه البعد الشيخ ضياء الدين العراقي ورجّحه تلميذه السيد الحكيم (قدس سره) في المستمسك ووصفه بأنه ((أوفق بالأدلة)) ، واستقربه السيد الخميني (قدس سره) في تعليقته على العروة.
الرابع: أن تكون أوقاته تابعة للبلد الذي كان يتوطنه سابقاً إن كان له بلد سابق.
الخامس: حرمة الإقامة في مثل هذه المناطق ووجوب الذهاب إلى بلد تتميز فيه الأوقات ليتمكن من أداء الصلاة والصوم في أوقاتها المحدّدة، واختاره السيد الخوئي (قدس سره)
السادس: متابعة أقرب البلدان إليهم التي تتميز فيه الأوقات. اختاره السيد الكلبايكاني في حاشيته على العروة الوثقى، قال (قدس سره): ((ويحتمل إجراء حكم أقرب الأماكن عليه مما كان له يوم وليلة ولم يكن أحدهما قصيراً بحيث ينصرف عنه الأحكام))
السابع: ما ذكره السيد السبزواري (قدس سره) فإنه بعد أن احتمل إجراء حكم الأقرب بالنسبة إليه قال (قدس سره): ((كما يحتمل إيكال الأمر إلى نظر الفقيه المأنوس بمذاق الفقاهة وخصوصيات الشرع)).
الثامن: أداء الصلوات الخمس المفروضة في كل 24 ساعة.
اختاره الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) على فرض التواجد في تلك المناطق ولو عصياناً، قال في تقريراته: ((يمكن أن يقال بالنسبة للصلاة -ولو احتياطاً-: بإمكان أن يستفاد من الأدلة المطلقة كالآيات والروايات واهتمام الشارع بالصلاة بكونها مطلوبة مطلقاً بنحو تعدد المطلوب، فكما أن الصلاة مطلوبة في الوقت، فكذلك أصل الصلاة مطلوب للشارع عند تعذر قيد الوقت وسقوطه، وبالتالي يمكن الإتيان بها بنحو خمس صلوات في كل أربع وعشرين ساعةً)).
والراي المختار لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي في حالة الليل المستمر والنهار المستمر هو سقوط الصوم أداءً لعدم تبيّن حدوده وعليه القضاء عندما ما تتحقق الأوقات الشرعية في منطقتهم أو في بلاد أخرى.
أما الصلاة فإنها لا تسقط بحال وعليه صلوات خمس كل أربع وعشرين ساعة وبناءً على المرتكز من لزوم توزيعها على الأوقات كما تقدم سابقاً فإنه يراعي في أدائها الأوقات التقديرية إن أمكن لا الفعلية المعروفة بعد تعذر تحصيل الأوقات الفعلية.
بيان ذلك: أن الوقت هناك وإن كان نهاراً مستمراً والشمس طالعة إلا أن حركة الشمس من الشرق إلى الغرب موجودة وبدل غروبها فإنها تعود من الغرب إلى الشرق في الدائرة المقابلة فالحركة الأولى تقابل النهار والثانية تقابل الليل مع كون الشمس طالعة في جميع الوقت. ويمثل أول انطلاقها من الشرق إلى الغرب شروق الشمس ويمثل آخر ما تصل إليه من جهة الغرب قبل عودتها إلى الشرق غروب الشمس. وعبورها منتصف دائرة الحركة الأولى هو منتصف النهار وعبورها نصف دائرة الحركة الثانية منتصف الليل، ويكون الفجر الجزء الأخير من الحركة الثانية قبل أن تعود إلى الحركة الأولى من الشرق إلى الغرب، فيصلي في جزء من هذه الفترة بمقدار أدائها.
فهذه هي الأوقات الشرعية التقديرية، فتؤدي صلاة الظهرين عند بلوغ الشمس منتصف الدائرة الأولى ويمتد وقتها إلى نهايتها وعندما تبدأ الشمس بحركة العودة في الدائرة الثانية تحل صلاة العشائين إلى منتصفها ويؤدي صلاة الصبح في نهاية الدائرة الثانية إلى حين البدء بالدائرة الأولى، ويأتي بها جميعاً بنية الأعم من الأداء والقضاء. ولعل هذه الأوقات تتطابق بالنتيجة مع القول بالرجوع إلى أقرب البلدان. ويمكن تحصيل مؤشِّر آخر على الأوقات الشرعية من جهة تغيّر نور الشمس ضعفاً وشدّة بدوران الأرض المتكرر حول الشمس، فبلوغه أعلى درجة تعني شروق الشمس أو منتصف النهار (باعتبار نقصان الظل بعد ازدياده) وبلوغه أضعف درجة يعني غروب الشمس أو منتصف الليل، وهذا يعرفه أهل الاختصاص المطّلعون على الواقع الميداني هناك. و إذا لم يحصّل أوقاتاً تقديرية كما لو كان عندهم ليل مستمر فالأولى مراعاة أوقات أقرب البلدان التي تتميز فيها الأوقات؛ لأن هذا الاحتمال هو الأقرب للوجدان عند تعذّر الأوقات الفعلية للصلاة وبناءً على لزوم المحافظة على توزيع أوقات الفرائض خلال الساعات الأربع والعشرين، وهذا القرب كأقربية العمل بالظن عند تعذّر العلم .
انظر موسوعة فقه الخلاف لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) . ج3, ص 339 , والصادر عن دار الصادقين 1441هـ / 2020م.
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية