الوقوف في عرفة من الواجبات الموقّتة بزمان معين وهو التاسع من ذي الحجة، فيشترط في صحته الإتيان به في وقته المعتبر شرعاً، وهنا توجد مشكلة إذ أن مشاعر الحج تحت سلطة حكامٍ من العامة، وهؤلاء قد يثبت الهلال عندهم على خلاف ما يثبت عندنا بحجة شرعية، فأداء المناسك تبعاً لتوقيتاتهم يوقع الأفعال في غير وقتها الصحيح ومقتضى القاعدة بطلان الفعل وعدم الاجتزاء به؛ لعدم مطابقة المأتى به للمأمور به، وقد لا يتسنى للحاج مخالفتهم والإتيان بالفعل في أوقاته الشرعية ولو في صورته الاضطرارية خصوصاً في الإعصار الأخيرة حيث تتشدد السلطات في تسيير الحجاج وفق البرامج المعدّة لهم، فيكون من المتعذّر مخالفة السلطة، والمورد من أوضح مصاديق التقية، فماذا يفعل الحجاج؟.
وهنا اختلف الفقهاء في إجزاء الوقوف معهم، فمنهم من عمل بمقتضى القاعدة لعدم وجود دليل يخرج المورد منها فذهب إلى عدم الأجزاء وألزم بالإتيان بالوقوف الاضطراري. وإن لم يتمكن بطل حجه وأحلّ من إحرامه بعمرة مفردة وعليه الحج من قابل. إن كانت ذمته مشغولة بالحج وإن كانت استطاعته لتلك السنة فإنها تسقط. ومنهم من قال بالإجزاء ولو في الجملة لوجود الدليل الخاص عليه فيخرجه من القاعدة، ثم اختلفوا في سعة هذا الدليل فقال بعض بالإجزاء مطلقاً. وقال بعض بالإجزاء في ما إذا لم يعلم بمخالفة وقتهم للواقع وإلا فالبطلان. ومنهم من توقف في المسألة ولم يستطع حل الإشكال. فأرجع المكلفين إلى غيره فيها بحسب مراتب الأعلمية.
والملفت أن قدماء الفقهاء (قدس الله أرواحهم) لم يتعرضوا للمسألة، وأقرّ صاحب الجواهر (قدس سره) بعدم تعرضهم للمسألة، قال في ذيل مسألة الوقوف في غير التاسع غلطاً في الحساب: (نعم بقي شيء مهم تشتد الحاجة إليه وكأنه أولى من ذلك كله بالذكر، وهو أنه لو قامت البينة عند قاضي العامة وحكم بالهلال على وجه يكون يوم التروية عندنا عرفة عندهم، فهل يصحّ للإمامي الوقوف معهم ويجزي أو لا يجزي؟ لم أجد لهم كلاماً في ذلك). نعم للشهيد الثاني (قدس سره) إشارة مقتضبة إلى المشكلة في باب (الإحصار والصد) من جهة أن من يريد الوقوف في الزمن المعتبر شرعاً مع مخالفته لتوقيت السلطة يصدق عليه الصدّ لمنع السلطات منه. قال (قدس سره): (ومن هذا الباب -أي الصد- ما لو وقف العامة بالموقفين قبل وقته لثبوت الهلال عندهم لا عندنا، ولم يمكن التأخر عنهم لخوف العدو منهم أو من غيرهم فإن التقية هنا لم تثبت).
والراي المختار لسماحة الشيخ اليعقوبي هو إجزاء الوقوف في عرفة مع العامة مطلقاً أي حتى لو لم يحصل عند الحاج احتمال المطابقة، ما دامت السلطات هناك تعمل وفق مبنى فقهي معين سواء خالفنا أو وافقنا. وليس على الحاج الوقوف – ولو بمسماه- في الوقت المعتبر شرعاً إلا على نحو الاحتياط الاستحبابي. إذا كان ذلك ممكناً على مستوى الشخص من دون مخالفة التقية أو الوقوع في العسر والحرج. أما إذا كان الوقوف في اليوم المعتبر شرعاً ممكناً على مستوى الجماعة أيضاً، أي يمكن تعدد الوقوف فيجب الالتزام به.
نعم لو كانت السلطات هناك لا تعمل بمبنى فقهي وتعمدت جعل الوقوف في يوم بعيد عن الوقت المعتبر عند جميع المذاهب الفقهية. فلا يكون الوقوف مجزياً لأن الأدلة على الإجزاء مهما استظهرنا منها الإطلاق فإنه لا يشمل هذه الحالة. لكن هذا الفرض غير موجود في الواقع الحالي.
وإن القول بعدم الإجزاء يجعلنا أمام احتمالات تؤدي إلى تعطيل فريضة الحج لأنها بين أداء الحج بلا وقوف أصلاً بعد تعذّر الوقوف في الوقت المعتبر شرعاً أو المطالبة بتكرار الحج إلى أن تحصل المطابقة وفيه ما لا يخفى من العسر والحرج مع عدم قبول السلطة الحاكمة.
أو تعطيل فريضة الحج إذ من النادر تطابق أوائل الشهور عندهم مع ما تقتضيه الموازين الشرعية، وتعطيل فريضة الحج محرم فلا بد من الاجتزاء بالوقوف معهم.
وإن قلتَ: إنه يمكن تحقيق ذلك من خلال الوقوف الاضطراري ولو بالتظاهر بالبحث عن شيء مفقود ونحوه وهذا المقدار كافٍ لتصحيح الحج.
قلتُ: إنْ تيسَّر هذا لأفراد معدودين فإنه لا يتيسر لكل أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، فإذا كان الحل هو هذا فإنه مخالف للتقية ولا يمكن تطبيقه بلحاظ المجموع كما هو المفروض ولا يغني إمكانه لعدد محدود.
انظر موسوعة (فقه الخلاف) لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله), ج 7, ص5 , والصادر عن دار الصادقين 1441 هـ / 2020 م.
يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية