من أحكام الحج وجوب الوقوف في المشعر الحرام المزدلفة بين الطلوعين يوم العاشر من ذي الحجة وعدم جواز الإفاضة منها قبل الفجر، وقد ورد في نصوص عديدة معتبرة الترخيص للنساء والشيوخ والصبيان في الإفاضة من المشعر الحرام قبل الفجر والذهاب إلى منى لرمي جمرة العقبة ليلاً أيضاً استثناءً من وجوب رمي هذه الجمرة نهار اليوم العاشر.
أما رمي الجمرات في يومي الحادي عشر والثاني عشر الواجبة نهاراً فقد رُخِّصَ للعبد والخائف والراعي والمدين الذين لا يتمكنون من التواجد نهاراً في منى بأن يرموا في الليل، ولم يرد استثناء للشيوخ والصبيان والنساء الذين يخافون من شدة الازدحام؛ نعم، ورد في المريض الذي لا يتمكن من الرمي فإنه يستنيب من يرمي عنه بمحضر منه. فهنا – أي في رمي الجمار يومي الحادي عشر والثاني عشر- حالتان: – الأولى: من لم يتمكن من التواجد في منى نهاراً فهذا حكمه تقديم الرمي في الليل. الثانية: من لم يتمكن من الرمي لعذر كالمريض أو العاجز من شدة الازدحام فإنه يستنيب بمحضر منه.
قال السيد صاحب العروة (قدس سره): ((يجب أن يكون رمي الجمرات – الثلاث الأولى والوسطى وجمرة العقبة- يومي الحادي عشر والثاني عشر في النهار، ويستثنى من ذلك العبد والراعي والمديون الذي يخاف أن يُقبض عليه، وكل من يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله، ويشمل ذلك الشيخ والنساء والضعفاء الذين يخافون على أنفسهم من كثرة الزحام فيجوز لهؤلاء الرمي ليلة ذلك النهار)).
وقال مثله السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ومما قال (قدس سره): ((ويستثنى من ذلك -أي الرمي نهاراً- من يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله فإنه يجوز له الرمي في الليلة السابقة على النهار فيرمي مثلاً في ليلة الحادي عشر ما يجب في نهار الحادي عشر من الرمي، وهذه الرخصة تشمل الشيوخ والنساء والضعفاء الذين يخافون على أنفسهم من كثرة الزحام فيجوز لهؤلاء الرمي ليلة ذلك النهار)). وقال مثله شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) وكذا السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره).
لكنهم جميعاً قالوا – والنص للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) -: ((وكل من يتمكن من مباشرة الرمي من دون مشقّة وحرج يجب عليه ذلك ولا يجوز له أن يستنيب، وإذا كان غير متمكن للمرض ونحوه من الموانع التي لا يُرجى زوالها إلى المغرب استناب غيره)).
وكان المفروض أن يُلحِقَ النساء والصبيان والشيوخ بهذا الحكم – أي الاستنابة- لأن في الرمي مشقةً عليهم ولا يتعذر عليهم التواجد في منى نهاراً.
والراي المختار لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يمكن ايجازه بالتالي:
1- أن الروايات (ومنها) صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (في الخائف لا بأس بأن يرمي الجمار بالليل ويضحّي بالليل ويفيض بالليل) ناظرة إلى رمي جمرة العقبة يوم العاشر، وقد رخّصت للنساء والصبيان والخائف بالإفاضة من المزدلفة ليلاً ورمي جمرة العقبة ليلاً أيضاً. والظاهر من النصوص أن التخفيف بلحاظ ضعفهم الذاتي النوعي وإن كانوا كأفراد قادرين على المكث كالترخيص للشيخ والشيخة في الإفطار.
2-قد رخص لعناوين – يمكن أن يكون جامعها عدم التمكن من التواجد في منى نهاراً للرمي أما للخوف على نفسه أو ماله – رمي الجمار الثلاث ليلاً بدل نهار الحادي عشر والثاني عشر , ويمكن التمسك باطلاق الروايات للترخيص في كل أيام الرمي وعدم الاختصاص باليوم العاشر.
3- أن من خاف من شدة الزحام فليس له الرمي ليلاً إذ لم يرد فيه ترخيص وإنما عليه الاستنابة لأداء الفعل كما هو -أي الرمي نهاراً- تمسكاً بعموم الروايات الدالة على الإنابة في الحج لغير المتمكن في أصل الحج أو تفاصيله كصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن علياً عليه السلام رأى شيخاً لم يحجّ قط، ولم يطق الحج من كبره، فأمره أن يجهّز رجلاً فيحجَّ عنه) ، وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (وإن كان موسراً وحال بينه وبين الحج مرض أو حصر أو أمر يعذره الله فيه فإن عليه أن يحجَّ عنه من ماله صرورة لا مال له) ، وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أمر شيخاً كبيراً لم يحجّ قط ولم يطق الحج لكبره أن يجهّز رجلاً يحج عنه).
والأخبار الخاصة بالمقام كصحيحة معاوية بن عمار وعبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الكسير والمبطون يُرمى عنهما، قال: والصبيان يُرمى عنهم) ، وموثقة إسحاق بن عمار أنه سأل أبا الحسن موسى (عليه السلام) (عن المريض يُرمى عنه الجمار؟ قال: نعم يحمل إلى الجمرة ويرمى عنه، قلت: لا يطيق ذلك، فقال: يترك في منزله ويرمى عنه).
4- الترخيص للنساء والصبيان والشيوخ والخائف برمي جمرة العقبة ليلاً مختصّ بالليل السابق على يوم العاشر لاقترانه بالإفاضة ليلاً من المشعر الحرام.
أما رمي اليوم الحادي عشر والثاني عشر لغير المتمكن من التواجد في منى فيمكن أن يقع في الليل السابق أو اللاحق لإطلاق الروايات التي سردناها في المطلب الثاني.
لكن الأحوط استحباباً اختصاص رمي كل نهار بليلته لأنه أحد فردي التخيير وهو المعيّن لو لم يتم إطلاق أو شككنا فيه فيدور الأمر بين التعيين والتخيير. أما من لم يتمكن من الرمي لشدة الزحام فهو غير مرخّص له أصلاً بالرمي ليلاً وإنما يستنيب للرمي بمشهد منه.
لذا قال سماحته (دام ظله) في كتاب المناسك عن رمي الجمرات يومي الحادي عشر والثاني عشر ((يجب إيقاع رمي الجمرات في النهار ولا يجزي في الليل اختياراً إلا لمن يمنعه الخوف من المكث في منى نهاراً كالراعي أو من به مرض أو علّة تمنعه من ذلك فيرمي حصة كل نهار في ليلته، ولو لم يتمكن من ذلك جاز الجمع في ليلة واحدة.
أما من استطاع المكث في منى نهاراً لكن منعه شدة الزحام من الرمي كالنساء والأطفال والشيوخ فإنهم يرمون ليلاً -إذا تيسّر- ويستنيبون غيرهم بالرمي، وعليهم أن يحضروا عند الجمرات مع الإمكان ويشاهدوا رمي النائب)).
ولكن الاحتياط حسن بأن يرموا الجمار ليلاً مضافاً إلى الاستنابة في النهار، كالعاجز عن الطواف بنفسه حول البيت الحرام فيتردد تكليفه بين الإنابة بالطواف حول البيت أو الإطافة بالعاجز محمولاً في الطابق العلوي، وحكمه الاحتياط بالجمع.
انظر موسوعة فقه الخلاف لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ج7, ص141, والصادر عن دار الصادقين 1441هـ- 2020م.