((ونجاسته عند الإمامية إجماعية، وحكاية الإجماع على نجاسته بخصوصه من المحقق وجماعة، وعلى نجاسة مطلق الكافر الشامل له من طائفة، منهم: الشيخ والناصريات والانتصار والسرائر والغنية والمنتهى والتذكرة والنهاية: مستفيضة. وهو الحجة عليها)) ([1]).
((وإذا انضم إلى هذه الاستفاضة الاطلاع المباشر على فتاوى عدد كبير من علمائنا، وعدم العثور على خلاف معتد به، بل على مطلق الخلاف في المشرك ونحوه من أقسام الكفار، وما هو الملحوظ من ارتكازية الحكم بالنجاسة في أذهان مختلف طبقات الطائفة استخلصنا من ذلك كله الوثوق بحصول إجماع تعبدي على النجاسة بنحو يكشف عن تلقي ذلك من الأئمة (عليهم السلام))) ([2]).
واستدل على هذا الحكم بـ
1- الاجماع
2- الآية الكريمة وهي قوله تعالى: [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا] (التوبة:28).
بتقريب: أن الله سبحانه حكم بنجاسة المشركين وفرَّع عليها حرمة قربهم من المسجد الحرام، وذلك لأن النَجس –بفتح الجيم وكسره- بمعنى النجاسة المصطلح عليها عند المتشرعة، فإنه المرتكز في أذهانهم وبهذا نستكشف أن النجس في زمان نزول الآية المباركة أيضاً كان بهذا المعنى المصطلح عليه، لأن هذا المعنى هو الذي وصل إلى كل لاحق من سابقه حتى وصل إلى زماننا هذا.
3- وأضاف البعض دليلاً آخر على نجاسة الكفار غير الكتابيين إن لم يتم الإجماع حاصله وجود ارتكاز لدى المتشرعة على نجاستهم ومن المطمأن به امتداده إلى زمن المعصوم (عليه السلام) وهو تعبدي كاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام).
هذا ولكن الراي المختار لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) هو عدم وجود دليل معتبر على نجاسة مطلق الكافر بعد أن ناقش الأدلة الواردة في هذه المسالة فقال:
ويناقش هذا الإجماع صغروياً وكبروياً: –
1- المناقشة في الصغرى إذ لم يصرح جملة من القدماء بنجاسة الكافر ولم يذكروه مع أعيان النجاسات التي أفردوا لها باباً. وإنما ذكروا أحكاماً مختلفة مرتبطة بالكفار في أبواب مختلفة كعدم الوضوء والشرب من سؤرهم، أو غسل اليد عند مصافحتهم، أو غسل آنيتهم عند استعمالها، أو عدم مؤاكلتهم.
قال السيد المرتضى (قدس سره): ومما انفردت به الإمامية القول بنجاسة سؤر اليهودي والنصراني وكل كافر وخالف جميع الفقهاء في ذلك.
وقال الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه): ولا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني وولد الزنا والمشرك وكل من خالف الإسلام وأشد من ذلك سؤر الناصب. وهكذا غيرهما ولهذا لا نجد تعرضاً لنجاسة الكافر بهذا العنوان في جملة مما وصل إلينا من عبائر الأقدمين، كهداية الصدوق ومقنعه وفقيهه والمقنعة للمفيد ونحو ذلك.
وحينئذٍ يقال بعدم تحصيل الإجماع على نجاسة الكافر بهذا العنوان، أما هذه الآثار فهي شيء غيرها
2-المناقشة في الكبرى للشك في كون هذا الإجماع تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) وإنما هو مدركي اجتهادي مستند إلى الآية الشريفة [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا] (التوبة:28) كما صرح بذلك جملة منهم كالشيخ الطوسي (قدس سره) فإنه بعد قوله: ((ولا يجوز الطهارة بأسئار الكفار من المشركين والنصارى والمجوس والصابئين)) قال (قدس سره): ((يدل على ذلك قوله تعالى: [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ] فحكم عليهم بالنجاسة بظاهر اللفظ وهذا يقتضي نجاسة أسئارهم بملاقاتهم للماء) وقال في الخلاف بعد قوله: ((لا يجوز استعمال أواني المشركين من أهل الذمة وغيرهم)) قال (قدس سره): ((دليلنا قوله تعالى: [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ] فحكم عليهم بالنجاسة فيجب أن يكون كل ما باشروه نجساً، وعليه إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط تقتضي تنجيسها).
وأُشكل على الاستدلال بالآية من عدة جهات:
(منها) إن (نـجَس) –بالفتح وتكون مصدراً وليس بالكسر فتكون وصفاً لأنها لو كانت وصفاً لطابقت الموصوف بالجمع أما المصدر فيمكن حمله على الجمع لنفس العناية التي سوّغت حمله على المفرد، لا يمكن حمله على النجاسة –التي هي اسم المصدر- بالمصطلح المتشرعي بتقريب ((إن النجس عند المتشرعة وإن كان بالمعنى المصطلح عليه إلا أنه لم يثبت كونه بهذا المعنى في الآية المباركة لجواز أن لا تثبت النجاسة بهذا المعنى الاصطلاحي على شيء من الأعيان النجسة في زمان نزول الآية أصلاً، وذلك للتدرج في بيان الأحكام، بل الظاهر أنه في الآية المباركة بالمعنى اللغوي وهو القذارة وأي قذارة أعظم وأشد من قذارة الشرك؟ وهذا المعنى هو المناسب للمنع عن قربهم من المسجد الحرام، حيث إن النجس بالمعنى المصطلح عليه لا مانع من دخوله المسجد الحرام فيما إذا لم يستلزم هتكه فلا حرمة في دخول الكفار والمشركين المسجد من جهة نجاستهم –بهذا المعنى – وهذا بخلاف النجس بمعنى القذر لان القذارة الكفرية مبغوضة عند الله سبحانه والكافر عدو الله وهو يعبد غيره))[3].
(ومنها): إنه حتى لو تم الاستدلال بالآية على النجاسة فإنها خاصة بالمشركين ولا تعمّ كل أصناف الكفار إلا بضميمة عدم القول بالفصل أو ((بتعارف مطلق الكافر من المشرك)) فرجع الدليل إلى الإجماع.
وأما الدليل الثالث ففيه: –
1- من غير المعلوم أن الارتكاز هو على النجاسة فالذي نعتقده أن الارتكاز قائم على اجتناب المعاشرة والاختلاط معهم بكل ما تتضمنه من تفاصيل للنهي عن مواددتهم بمقتضى الآية الشريفة [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ] (المجادلة:22) وهذا حكم تكليفي أوسع من قضية نجاستهم.
2- لو تنزلنا وقلنا أن الاجتناب لنجاستهم فإنه يمكن أن يكون بمقتضى الفهم المتشرعي للآية الكريمة [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ] (التوبة:28) ولا دليل على امتداد هذا الارتكاز إلى زمان صدر الإسلام قبل تشكل المصطلح الشرعي. ويمكن أن يكون للاحتياط أو للتنزه عنهم باعتبار عدم تورعهم عن مباشرة أعيان النجاسات فهذا الارتكاز ليس تعبدياً.
ونتيجة البحث: عدم الوثوق بالحكم بنجاسة المشركين ونظائرهم كالكفار لعدم صلاحية الدليل، ويكفي الشك في المقام لإجراء قاعدة الطهارة. ويمكن أن نتقدم خطوة نحو الطهارة بذكر أكثر من وجه يمكن الاستدلال به على الطهارة أو تأييد هذا الحكم، منها:
(الأول): الاستدلال بعدد من الأخبار على الطهارة: (منها) التمسك بإطلاق خبر يونس –وهو تام السند إلا من جهة إسماعيل بن مرار المختلف في وثاقته- عنهم (عليهم السلام) وفيه: (ولا بأس بأكل الجبن مما عمله مسلم أو غيره) فإطلاق (غيره) شامل للكفار بكل أصنافهم. (ومنها) مرسلة الوشا عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): (أنه كره سؤر ولد الزنا وسؤر اليهودي والنصراني والمشرك، وكل من خالف الإسلام، وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب). بتقريب حمل الكراهة على المعنى المصطلح ولدرج المشرك مع ولد الزنا وهو طاهر وكذلك اليهودي والنصراني.
(الثاني) مكون من عدة مقدمات: –
1- إن جملة من الروايات ظاهرة في طهارة اليهود والنصارى ذكرت المجوس معهم وبعضها ورد في المجوس خاصة فمن ذهب إلى طهارة الكتابيين من يهود أو نصارى أو شكك في نجاستهم فعليه ضم المجوس معهم لنفس الأدلة.
2- إن المجوس إما كفار أو مشركون ((فقد قالوا بإلهية يزدان والنور والظلمة)).
3- وبضميمة عدم القول بالفصل بين أصناف المشركين والكفار غير الكتابيين تكون النتيجة أن حكم المشركين كأهل الكتاب، وقد دلت الروايات على طهارتهم فغير الكتابيين مثلهم أو على الأقل يحصل الشك في نجاستهم فتجري قاعدة الطهارة خصوصاً وإن الروايات لا تفيد الحصر بهذه الأصناف وإنما ذُكروا لأنهم مورد السؤال أو معرض الابتلاء في بلدان المسلمين يومئذٍ، فعدم ذكر غيرهم لا يعني عدم شمولهم بنفس الحكم.
(الثالث) لم يرد في النقول التأريخية أن المشركين وغيرهم حينما كانوا يسلمون يطهّرون ثيابهم وسائر متاعهم مما كانوا يباشرونه بالاستعمال.
وتقريب الاستدلال أنه لو كان المشركون محكومين بالنجاسة الذاتية وقد باشروا متاعهم برطوبة مسرية، فالمفروض أنهم يطهّرون ما باشروه عندما يسلمون، وليس في الأدلة ما يشير إلى أنه مورد خارج عن القاعدة بالتخصيص كطهارة إناء الخمر إذا انقلب خلاً فقياس الموردين على بعضهما في غير محله، وليس المورد مشمولاً بدليل (الإسلام يجب غيره أو ما سبقه) ونحوها، ولم يلتزم الفقهاء بأن الإسلام مطهر لما باشره المكلف قبل إسلامه.
وتحصّل مما تقدم إمكان القول بعدم كفاية الأدلة للجزم بنجاسة غير الكتابي من مشركين وكفار وملحدين ولكن الاحتياط لا يُترك مراعاةً للإجماع، وفي هذه النتيجة ثمرة مهمة لمن يذهب إلى تنجيس المتنجس وهي ما لو حصلت مباشرة المسلم لهم برطوبة مسرية فيجب عليه الاحتياط بتطهير الجزء الملامس ولكن لا يجب عليه تطهير ما لاقاه هذا الجزء من الأشياء لأن الأصول لا تثبت لوازمها.
_____________
انظر موسوعة فقه الخلاف لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) , ج1 , ص257 , والصادر عن دار الصادقين 1441 هـ / 2020 م.
([1]) مستند الشيعة للنراقي: 1/196.
([2]) بحوث في شرح العروة الوثقى للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره): 3/304.
[3] التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/ 39
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية