نَحثُّ المؤمنين عامة على زيارة أميرهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) في النجف الأشرف بمناسبة عيد الغدير استجابة لنداء الأئمة المعصومين (عليهم السلام) على لسان الإمام الرضا (عليه السلام) قائلاً لأحد أصحابه المقربين (يا ابن أبي نصر أينما كنت فأحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن الله يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة، ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر، والدرهم فيه بألف درهم لإخوانك العارفين) ([2]).
والدعوة بصريح العبارة (أينما كنت) مطلقة موجهة إلى الجميع في شرق الأرض وغربها بلا استثناء، إلا من أقعده عذر غالب فيؤدي الزيارة من بعد، ويشارك في شعائره المتنوعة. وإن هذا اليوم يستحق كل اهتمام، لأنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة بنص القرآن الكريم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا) (المائدة:3)، وقد اكتمل الدين وتمت النعمة بتنصيب علي بن أبي طالب خليفة لرسول الله (ص) وأميراً للمؤمنين ومن بعده أولاده المعصومين (ع)، فلا غرابة في اعتباره أعظم أعياد الإسلام، وفي الرواية السابقة عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال (إن يوم الغدير في السماء أشهر منه في الأرض).
إنّ الاحتفال بعيد الغدير وتعظيم شعائره والتذكير بواقعته ليس قضية طائفية ولا تستهدف أحداً مخالفاً لنا في المذهب أو الدين، وإنما هو بيان لأساس قضايا الإسلام المحمدي الأصيل وجوهرها وروحها، قال الإمام الصادق (عليه السلام) (بني الاسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشئ كما نودي بالولاية) ([3]).
وقد شرع النبي (صلى الله عليه وآله) في بيانها من أول أيام البعثة النبوية المباركة عندما نزل قوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) فجمع بني هاشم، وعرض عليهم نصرته ومؤازرته والتضحية من أجله، وفي ذلك الاجتماع أعلن (صلى الله عليه واله ) أن علياً (عليه السلام) وزيره وخليفته، حتى تهكّم عمهُ أبو لهب من عمهِ أبي طالب وقال ساخراً (إن ابن أخيك محمداً يريد منك أن تكون تابعاً لولدك الصغير علي)، لكن أبا طالب كان راسخ الإيمان صلب الاعتقاد بأن ما يبلّغه النبي (صلى الله عليه وآله) حق وصدق وهو وحي من عند الله تعالى.
وقد توالت البيانات لتأكيد هذه القضية في وقائع متعددة حتى أصبح ذلك واضحاً لدى الصحابة، وعُرف عن جماعة من صادقي الايمان منهم التشيع والولاء لعلي (عليه السلام) في عهد رسول الله (صلى الله عليه واله ) كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وذي الشهادتين وابن التيّهان و أبي أيوب الأنصاري و حذيفة بن اليمان وآخرين ممن ثبتوا على الحق ولم يزيغوا.
وجاء يوم الغدير وما قام به النبي (صلى الله عليه وآله) أمام ذلك الملأ الذي بلغ عشرات الآلاف من تبليغ لرسالة الله تعالى، تتويجاً لتلك البيانات وإعلاناً واضحاً وصريحاً لما يريده (صلى الله عليه وآله) من أن علياً هو ولي أمر المسلمين جميعاً من بعده، وهو الذي يجب أن يكون امتداداً له (صلى الله عليه وآله) في إقامة الدين وحفظ كيان الأمة وهدايتها وصلاحها.
وبذلك أفشل مؤامرات الأعداء الداخليين وهم المنافقون والحاسدون وطلاب الدنيا والذين أُشرب التعصّب الجاهلي في قلوبهم، والأعداء الخارجيين من الأمم الأخرى كالروم والفرس المتحالفة للقضاء على الإسلام، الذين كانوا يتربّصون برسول الله (صلى الله عليه وآله) يريدون موته لكي ينتهوا من أمر الإسلام لأنهم يعتقدون أن بقاء الإسلام منوط بشخص النبي (صلى الله عليه وآله)، وعند ما تحقق ذلك الفشل للأعداء نزل قوله تعالى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} (المائدة:3).
فقضية الغدير أهم قضايا الإسلام، لأن الإسلام النقي الناصع حُفِظَ بها، وإن ولاية أهل البيت (ع) ضمان لوحدة الأمة، وعدم ضياعها بالصراعات والخلافات، كما ورد في خطبة السيدة الزهراء (عليها السلام) (وجعل إمامتنا نظاماً للملة)، وبإضاعة بيعة الغدير انفرط عقد الأمة ومزقتها الصراعات وانتابتها الكوارث والويلات وحُرّف الدين، وقد جعل الله تبارك وتعالى أمر تبليغها معادلاً لتبليغ رسالة الإسلام كلها، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة:67).
وهي قضية يشهد العقلاء بصحتها وضرورتها، إذ كيف يمكن لقائد حكيم مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يترك الأمة سدى من بعده، دون أن يُعيّن لها خليفة، وإذا لم يعيّن الرسول (صلى الله عليه وآله) خليفة من بعده كما يزعمون فلماذا خالفه كل الذين جاءوا من بعده فعينوا الخليفة التالي، فإحياء قضية الغدير فيه تأكيد على ألطاف المرسل تعالى وحكمة الرسول (صلى الله عليه وآله) وخلود الرسالة، رحمة بالعباد الى قيام الساعة. إن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) أعظم النعم بعد نعمة الإسلام، وبها اكتمل هذا الدين وتمت النعمة، قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3).
وقد أُمرنا بتعريف هذه النعمة إلى جميع الناس ودعوتهم للفوز بها، قال تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11).
وقد فُسِرت النعمة في آيات كثيرة بدين الإسلام وولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) كقوله تعالى {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران:103) وقوله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان:20)، وعلى هذا يكون من مصاديق {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (إبراهيم:28) هم الذين خالفوا رسول الله (صلى الله عليه واله ) ولم يلتزموا بهذا العهد والميثاق.
فتعظيم شعائر يوم الغدير هو تذكير بهذه النعمة العظيمة، وتجديد الالتزام بهذا الميثاق الغليظ مع الله تبارك وتعالى ومع رسوله الكريم (صلى الله عليه واله )، فلا بد من أن تكون الزيارة وسائر الشعائر المقررّة لهذا اليوم العظيم بمستوى الحدث والمشروع والغرض المقصود حتى قيام المهدي الموعود (عجل الله فرجه) ان النبي وآله المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) يُسرُّون بتواجد الحشد المليوني عند أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الغدير، ليلفتوا أنظار العالم إلى هذه القضية الكبرى التي رسمت مستقبل الأمة وحددّت لها طريقها في ذلك المفصل التاريخي المهم حتى لا تضيع الأمة بعد رحيل نبيها (صلى الله عليه واله) كما ضاعت وانحرفت الأمم الأخرى.
كما أنَّ حضور الملايين في زيارة الأربعين سلط الأضواء على قضية الامام الحسين (عليه السلام) ودفع الناس من مختلف الأديان والملل إلى السؤال عن هذه الظاهرة العجيبة والتعرفّ عليها، لكن الإعلام المعادي استطاع أن يبرزها على أنها مجرد فعالية بكاء وحزن على مقتل سبط رسول الله (صلى الله عليه واله)، وتبرّأ بسهولة من فاعلها وهو يزيد الفاجر الفاسق، فلم تقطف الأمة ثمراتها المباركة كاملة، على المدى الاستراتيجي.
فلو حصل مثل هذا التحشيد في يوم الغدير ــ ولو بعد سنين ــ وأثار الانتباه لقضيته لكان في ذلك نصرة لرسول الله (صلى الله عليه واله)، ورداً على من يقول بأنه مات ولم يترك خليفة من بعده وهو منطق يخالف الحكمة وسيرة العقلاء، ولنفهم العالم بحقيقة ما جرى، فزيارة الغدير جديرة بهذا الحشد والاهتمام وستكون نتائجها أكبر بإذن الله تعالى.
وفي هذا الإحياء المليوني إنصاف لأمير المؤمنين (عليه السلام) ورفع بعض الظلامة عنه وشهادة بحقه المضيَّع، وفيه أيضاً اعلاء لذكر أهل البيت (عليهم السلام) وتمهيد للظهور الميمون، فلا تضيعوا هذه الفرصة الثمينة، وسجّلوا أسماءكم فيمن نصر الله ورسوله وأمير المؤمنين وأدخل السرور عليهم (صلوات الله عليهم أجمعين). كما ندعو كل الميسورين وأصحاب المواكب لتوفير الطعام وسائر مستلزمات الخدمة والدعم اللوجستي والنقل للزوار الكرام. ولا تغفلوا عن كل الشعائر والاعمال التي حثّ الائمة المعصومون (عليهم السلام) على إقامتها في هذا اليوم المبارك، كإطعام الطعام وإظهار الموّدة بين الموالين واسقاط الحقوق والمظالم مع المؤمنين، وإظهار علائم الفرح والسرور والصدقة على الفقراء والتوسعة على العيال، والصوم شكراً لله تعالى وطلباً للتثبيت على الصراط المستقيم، صراط النبي واله الطاهرين (صلى الله عليهم اجمعين)،وسائر الفعاليات المعبّرة مثل وتوزيع الهدايا و (العيديات) خصوصاً على الأطفال لتعريفهم بأهمية هذا اليوم.
ومن تعظيم الشعائر في هذا اليوم: خروج مواكب الفرح والسرور مرددة أهازيج الولاء لأهل البيت الطاهرين (ع)، وتوزيع الحلويات مصحوبة بقصاصات ورقية تبين اسرار هذه الأيام، وسبب كونه عيد الله الأعظم، وقد ذكرتُ عدة وجوه بالمناسبة، ومنها أيضا: إقامة المجالس التي تبّين للناس التفاصيل التاريخية لواقعة الغدير، وبيان حقيقية المراد من الآيات الكريمة النازلة فيها والأحاديث الشريفة المبيّنة لها، وردّ الشبهات والتأويلات الباطلة التي حاول أعداء أهل البيت (عليهم السلام) من خلالها طمس هذه الحقيقة الناصعة، وأنى لهم ذلك وقد شاء الله تعالى إظهار هذا النور.
وتذكرّوا لوعة وحزن الائمة المعصومين (عليهم السلام) على تضييع الأمة لهذه الهدية الإلهية الثمينة التي تكفل لهم سعادة الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (ان حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين وقد اُنكر حق جدي أمير المؤمنين(عليه السلام) وعليه سبعون الف شاهد كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه واله) في غدير خم)([5])، فأصيبت الامة بقتل وتشريد وقهر واستعباد وإذلال وجوع وتخلّف ونزاع مستمر وغير ذلك مما ذكرته في خطاب (ماذا خسرت الامة حينما ولّت أمرها من لا يستحق), ولكن (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(النحل :118)، (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(النمل :14)، (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ )(هود:28)، (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ )(الزمر: 19).
مسألة: قد يعتذر بعض المؤمنين عن القدوم بأنه يريد أن يصوم هذا اليوم لما فيه من الأجر العظيم والسفر ينافي الصوم، ونبيّن هنا أن أجر الزيارة أعظم، ويستطيع الزائر أن يُمسك عن المفطرات خلال سفره ويجدد نية الصوم حين عودته إلى أهله ولو قبيل الغروب بلحظة، لأن الصوم المستحب لا يشترط فيه أن يكون حاضراً في بلده عند الزوال باعتبار امتداد نيته إلى غروب الشمس.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] – الخطبة الثانية لعيد الأضحى المبارك سنة 1444 الموافق 29-6-2023.
[2] – وسائل الشيعة (آل البيت): 14/388/باب 28/ح1.
[3] – الكافي :ج ٢ / ١٨.
[4] – من نور القران: 1/421 , موسوعة خطاب المرحلة: 1/228.
[5] – بحار الأنوار: 37/158 باب 52.
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية