وصف جملة من المحققين هذه المسألة بأنها من مشكلات الفن كالمحقق الأردبيلي والمحقق السبزواري والسيد العاملي (قدس الله أرواحهم)، وذلك لأن مقتضى إطلاقات الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة إرث الزوجة فرضها من كل ما يترك الزوج وعدم حرمانها من شيء وبالعكس. قال تعالى: [وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ] (النساء: 12).
وقد ورد التصريح بعدم النقصان في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (وإن الزوج لا ينقص من النصف شيئاً إذا لم يكن ولد، والزوجة لا تنقص من الربع شيئاً إذا لم يكن ولد، فإذا كان معهما ولد فللزوج الربع وللمرأة الثمن). ومؤدى هذه الأدلة أن الزوجة تستحق نصيبها من كل ما ترك الزوج، هذا ولكن المشكلة تبدأ من ذهاب مشهور الأمامية –الذي ادعي الإجماع عليه- إلى خلاف هذا الإطلاق للآيات والروايات وحرموا الزوجة من بعض الميراث في الجملة، وهذا الحكم من مختصات الأمامية، فلم يقل به غيرهم قال السيد المرتضى (قدس سره): ((ومما انفردت به الأمامية القول: بأن الزوجة لا ترث من رباع المتوفى شيئاً بل تُعطى بقيمة حقِّها من البناء والآلات دون قيمة العراص وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يفرّقوا بين الرباع وغيرها في تعلق حق الزوجات)).
وقد استدل على أصل حرمان الزوجة من العقار وغيره في الجملة بأكثر من وجه:
الأول: الإجماع ((المحكي بل والإجماع المحصَّل فلا ينبغي الإطناب فيه)). الثاني: الروايات وقد وُصفت بأنها متواترة منها صحيحة الفضلاء زرارة وأخيه بكير وفضيل وبريد ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): (إن المرأة لا ترث من تركة زوجها من تربة دار أو أرض إلا أن يقوم الطوب والخشب قيمة فتعطى ربعها أو ثمنها إن كان (لها ولد) من قيمة الطوب والجذوع والخشب).
ويوجد هنا اتجاهان لعلمائنا في التعامل مع هذه الروايات، ويقع تحت كل اتجاه عدّة أقوال كما هو المعروف في كتب الأصحاب.
الاتجاه الأول: المحافظة على عمومات الكتاب الكريم وهنا أكثر من قول:
القول الأول : إرث الزوجة مطلقاً من كل ما ترك الزوج ومستنده الأخذ بظواهر الكتاب وعمومات إرث الزوجة من كل ما ترك الزوج وصرف روايات الحرمان عن ظاهرها.
القول الثاني : حرمان الزوجة من خصوص عين الرباع –أي أراضي الدور والمساكن- واستحقاقها من القيمة وهو المنسوب إلى السيد المرتضى (قدس سره).
القول الثالث : نفس القول الثاني مع تضييق دائرة الزوجة المحرومة من العين دون القيمة بغير ذات الولد -إذا فهمنا الإطلاق من كلام السيد المرتضى أما ذات الولد من زوجها فترث من كل ما ترك الزوج عيناً وقيمة , ويظهر هذا القول من عبارة الشيخ الصدوق في الفقيه.
الاتجاه الثاني: تخصيص عمومات الكتاب بحرمان الزوجة من العقار ولو في الجملة.
وفي نهاية البحث قدّم سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي نتائج وأطروحات ونص كلامه: تبيّن مما سبق أن فهم المشهور حرمان الزوجة من العقار عيناً وقيمة لا يخلو من إشكال، كما أن إهمال روايات الحرمان لا يمكن قبوله للقطع بصدور هذا الحكم عن المعصومين (عليهم السلام) في الجملة فكيف نفهم معنى صدور روايات الحرمان وجهة صدورها؟.
وهنا نقدم عدة أطروحات محتملة:
(الأطروحة الأولى) صدور روايات الحرمان تقية بتقريب: أن القانون الذي وضعه عبد الملك بن مروان تضمن حرمان النساء من العقار ونتيجة هذه الأطروحة أن حكم حرمان الزوجة من العقار صدر من خصوص الإمامين الصادقين تقية، وقد يؤيد هذا أن الفضلاء الخمسة الذين هم الأصل في روايات الباب ممن عاصر فترة الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) لكن الإنصاف والتأمل في روايات الحرمان يقتضيان استبعاد هذه الأطروحة.
(الأطروحة الثانية) إن حكم الحرمان ولائي صدر بمقتضى ولاية الإمام، فبقاؤه والعمل به منوط في عصر الغيبة بإذن الولي الفقيه.
(الأطروحة الثالثة) إن إجراء هذا الحكم مشروط بظرفه المناسب الذي يقدّره الولي الفقيه الجامع لشرائط النيابة عن المعصوم (عليه السلام).
وهذا التفسير أولى مما احتمله بعض الأعلام المعاصرين من كون حرمان الزوجة ((حكماً خاصاً سيطبّقه الإمام المعصوم بعد ظهوره)).
النتيجة: الأطروحة الثانية ليست بعيدة ويمكن ضم الأولى إليها لنخرج بنتيجة أن الإمام (عليه السلام) بمقتضى ولايته لأمور الأمة وأن القوانين الوضعية لا تأخذ شرعيتها إلا من إمضاء الإمام (عليه السلام) لها، فرأى الإمام (عليه السلام) في سنّ الدولة لهذا القانون دفعاً لضرر اجتماعي عام فأمضى هذا القانون بمقتضى ولايته، فاستمرار حجيته ووجوب العمل به متوقف على إمضاء الولي الفقيه اللاحق,وإن لم يتم شيء من هذه الأطروحات فإن نتيجة المناقشات المتقدمة بين الاتجاهين وعرض الرأي والرأي الآخر عدم إمكان الجزم بحرمان الزوجة من العقار عيناً وقيمة فالأحوط التصالح بينها وبين الورثة على قيمة ما تحرم منه.
وقد نصح بالاحتياط جملة من الأعلام، قال صاحب الجواهر (قدس سره): ((هذا ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط بالصلح ونحوه في جميع محال الشك)) وقال السيد صاحب البلغة بعد أن قوّى الحرمان مطلقاً ((إلا أنه مع ذلك لا محيص عن الصلح عند العمل حيثما يمكن، لأن الاحتياط لا يترك في مثل المقام)).
انظر موسوعة فقه الخلاف لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي، ص 193, ج/11, والصادر عن دار الصادقين1441-2020.
يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية