قراءة في الخطاب الفاطمي ١٣
المعية الإلهية… الثمرات والمراتب.
بسمه تعالى
للخطاب الفاطمي السنوي نكهة خاصة في قلوب المتابعين فهو خطاب للمرحلة التي نعيشها، وخطاب هذا العام الذي تميز عن غيره من الخطابات ببعده العرفاني الذي يقرب الإنسان من خالقه بأسلوب سلس وعملي وتبيان حقيقة المعية الإلهية من خلال تفسيره للآية الكريمة (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد:4)، وان الله تعالى معنا في جميع مراحلنا في الدنيا والآخرة من تكون الخلق في اصلاب الآباء والأمهات إلى الرعاية في بطن الأم وتوفير الغذاء والحماية إلى أن تتكامل جميع أجهزة الجسم ويكون مهيئاً للحياة الدنيا فيخرج ليبدأ طريق الحياة معتمداً على نفسه ورعاية خالقه ومراقبته والإطلاع على أعماله التي يجب أن تكون صالحة ومساهمة في إعمار الأرض وعبادة الله الواحد الأحد ومنها ( أن العمل عبادة )، كما ذكر المرجع اليعقوبي ( والعبادة تسري في كل شؤون الحياة )، العبادة ليست في الصلاة والصيام والحج فحسب، وإنما في المعاملة، التجارة، السياسة والإدارة، العلاقات الإجتماعية العامة وحفظ النظام الاجتماعي العام.
فتتحقق المعية الإلهية على الإنسان نتيجة الإيمان بهذه الحقيقة وتطبيقها، وقسمها سماحة المرجع إلى قسمين:
القسم الأول. الرعاية الإلهية.
القسم الثاني. الرقابة الإلهية.
الرعاية الإلهية..
تتحقق من المعية الإلهية للإنسان وقرب الله تعالى منه ف ( يشعر الإنسان أنه ليس وحيداً في مواجهة الصعوبات والمحن ) التي تواجهه في الحياة ( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنّي فَإِنّي قَريبٌ أُجيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَليَستَجيبوا لي وَليُؤمِنوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدونَ ) (البقرة: ١٨٦) فيتعلق الإنسان لا شعورياً بربه في أوقات الشدائد، ولكنه عندما يخلد للأمان يطغى ويتجبر ويعتز بنفسه، بينما المطلوب أن تكون العلاقة بين الإنسان وخالقه مستمرة على طول الطريق في الشدة وفي الرخاء حتى ينعم بلذة العشق للمعبود الرؤوف الرحيم ولا يحتاج لسواه، فتتحقق ( معية الإيجاد والهداية ومعية الإطعام والسقي ومعية الشفاء من المرض ومعية البعث والنشور. وبذلك يتحول عجز الإنسان وضعفه إلى قوة واقتدار.. ) فتلاحظ عظمة النعمة بحضور الله تعالى معنا، والوحشة والعجز والضعف عندما نبتعد عن الله تعالى ونلتهي بالملذات الزائلة والتيه الذي يلازمه اليأس ويسبب الإنتحار والعياذ بالله، بينما يزداد القرب من الله زيادة معية التوفيق والتأييد في جميع أعمالنا ( أي أن بعض مراتب المعية العالية مشروطة بالإيمان والعمل الصالح ).
هذا جانب القرب والارتباط بالخالق عزّ وجلّ.
أما الجانب الآخر..
الرقابة الإلهية..
فهو الضابط لحركة الإنسان ونواياه وخلجات نفسه الأمارة بالسوء، لذلك لا يخدع الله تعالى بالمظاهر والرياء، وإنما بحسن النوايا وإتقان الأعمال وان تكون خالصة لوجه الله ( وهي رقابة داخلية تستقر في ضمير الإنسان وتكون حاضرة إذا غابت عنه رقابة الأجهزة والقوانين الحكومية أو الأعراف الإجتماعية )، وهذه الرقابة هي المطلوبة التي تجعل الإنسان مستقيماً في تعاملاته واستحالة تجاوزه على حقوق الآخرين أو التجاوز على الحق العام، فتتحول إلى ملكة تضبط سلوك الفرد عندما يكون شعوره بأن الله معه﴿وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ وَنَعلَمُ ما تُوَسوِسُ بِهِ نَفسُهُ وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَريدِ﴾[ق: ١٦]، ومطلع على أفعاله وتعاملاته، فيكون فرداً صالحاً في الأمة نموذجاً يحتذى به وقدوة للآخرين خصوصاً إذا تسنم موقعاً عاماً دينياً، إجتماعياً، إدارياً أو سياسياً، وتكون أعماله وتصرفاته منظورة أمام الناس ومسلط عليها الضوء ويصبح ممثلاً أو عنواناً لدينه ومجتمعه وبلده ، قال تعالى ﴿وَما تَكونُ في شَأنٍ وَما تَتلو مِنهُ مِن قُرآنٍ وَلا تَعمَلونَ مِن عَمَلٍ إِلّا كُنّا عَلَيكُم شُهودًا إِذ تُفيضونَ فيهِ وَما يَعزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثقالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكبَرَ إِلّا في كِتابٍ مُبينٍ﴾[يونس: ٦١].
الإرادة الفاطمية..
بعد ذلك ينتقل المرجع اليعقوبي في خطابه نحو التاريخ وينقل لنا دور صاحبة الذكرى الصديقة الزهراء ” عليها السلام ” ويخاطب المجتمعين للتعزية بهذه المناسبة وجميع الأمة، فتكون فرصة عظيمة لإستلهام الدروس والعبر من السيرة العطرة لسيدة نساء العالمين، الحجة علينا وعلى الأئمة من ولدها ” سلام الله عليهم أجمعين ” حيث قال ( لقد أرادت السيدة فاطمة الزهراء ” عليها السلام ” أن ترسّخ هذه الحقيقة في قلوب وعقول الأمة لما رأت غفلة الكثيرين عنها وأن سلوكهم كان لا ينمّ عن إيمان حقيقي بها وإن أعتقدوا بها ظاهراً فخاطبت جمعهم بقولها (( أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه )) وتحذر من عدم الألتفات إلى هذه الحقيقة والعمل بها )… ولأن الزهراء ” عليها السلام ” هي ( ميزان الحق )، و( تحمل هذا الدين وتحميه )، كما عَنْوَن خطاباته الفاطمية السابقة 1و 8 بذلك.. فإن سماحته بعد أن رسّخ هذه الحقيقة في قلوب وعقول الحاضرين والمستمعين، كما بيّنا قبل قليل في ( المعية الإلهية )، تحول إلى التحذير ( من كل سبب يؤدي إلى الغفلة عن الله تعالى )، بعد أن بين وعرّف ( الخسارة العظمى التي تحل بالإنسان حينما يغفل عن هذه الحقيقة أو ينفيها أو يتسافل أكثر فينكر وجود الخالق… أو يروّج البعض إنكار هذه الحقيقة ويدعو إلى الإلحاد ونبذ الدين )، وتقسم هذه الخسارة إلى مرحلتين..
المرحلة الأولى. هي مرحلة غفلة الإنسان عن هذه الحقيقة، ومشمول بها على وجه الخصوص جميع المتصدين للشأن العام الذين ذكرناهم قبل هُنيهة !، فبسبب تقاعسهم وخلودهم للراحة والدعة أو للصراع على حطام الدنيا من المناصب والمواقع الحكومية وغيرها، وفشلهم في إظهار الصورة الناصعة للدين الحنيف..
والمرحلة الثانية. هي نفي هذه الحقيقة أو التسافل بإنكار وجود الخالق، والدعوة إلى الإلحاد ونبذ الدين ونحو ذلك..
وبعد بيان بطلان دعواتهم وتفنيدها يفصل سماحته دعوات الإلحاد إلى فئتين:
الفئة الأولى. المروجون للإلحاد أو الذين يقفون وراء دعوات الإلحاد ونبذ الدين، وقد ذكر الغاية وهي ( لكي يطلقوا العنان لشهواتهم واتباع اهوائهم ولكي لا يؤنبهم ضميرهم وليغطّوا على الشعور بالذنب والخطيئة )، بعد أن أفسدوا المجتمعات تحت يافطات الحرية الشخصية والتطور والعلم وروجوا للانحلال والتفسخ الخلقي وهدموا المجتمعات، ونواتها الأسرة، ليحولوا الإنسان إلى كائن مادي يشبه الآلة تحت سلطة رأس المال الذي تحكم بالسلطة والدولة والأقتصاد، فتتكدس عندهم الأموال وتعيش باقي الشعوب تحت خط الفقر ويلومون الدين وينكرون وجود الخالق لأجل تلك المصالح، فيعترف الكاتب علي حرب في أحد مؤلفاته( ولكن بالرغم من التقدم العلمي الهائل في المعارف، وبالرغم من امتلاك الأدوات الفائقة، في السبر والمراقبة أو في الاتصال العابر لحواجز المكان وحدود الزمان، تشهد البشرية على عجزها عن معالجة معضلات الفقر والأستبداد والفساد والعنف والتلوث التي تتحول إلى آفات قاتلة تتهدد المصالح والمصائر. ص15 )، كل هذا نتيجة تلك الخسارة التي حلت بالإنسان بسبب غفلته وإنكاره لتلك الحقيقة.
الفئة الثانية. التابعون أو المخدوعون ببعض الشعارات والادعاءات، الذين تأثروا بشكل أو أخر بمخاض التغيير والتحول من الدكتاتورية إلى الديموقراطية مع وجود المحتل الذي رسّخ أقدامه الثقافية والفكرية والسياسية بعد إنشغال البعض بالمقاومة العسكرية فقط، والتأثير الأكبر هو فشل التيارات والأحزاب والشخصيات التي تدعي الارتباط أو تمثيل الإسلام وهم في الحقيقة بعيدون كل البعد عن النظام الإسلامي الذي نتطلع إليه ليكون البديل عن جميع الأنظمة الوضعية تحت قيادة المرجعية الدينية وإنتظار الفرج بظهور القائد المخلّص الذي يملأ الأرض عدلاً بعدما ملأت جوراً، وكان لهذا التأثر الوقع النفسي الذي سهل ترويج الدعوات الباطلة بعد فقدان النموذج الصالح في الحكم.
وهذه الفئة هي محل تكليفنا الذي حددته المرجعية الرشيدة لهذه المرحلة وحذرتنا من التقاعس والخذلان، وقد أجملها سماحته بعدة تكليفات مهمة وكما يأتي:
فأحذروا.. وهو ( الحذر من كل سبب يؤدي إلى الغفلة عن الله تعالى )، وكثيرة تلك الأسباب التي تؤدي إلى الغفلة منها التصارع على المناصب والمكتسبات الدنيوية و ترك العمل بالمؤسسات التي مهمتها بث الوعي بين المجتمع، وإخلاص النية لله تعالى قولاً وعملاً.
وحذّروا.. وهو ( قيامنا بتحذير الناس من كل الدعوات التي تريد تغييب الله تعالى عن الحياة وعزله )، وهي حركة دؤوبة مشمول بها الجميع وكل من موقعه لتحذير الناس وبطلان هذه الدعوات وبالأدلة البسيطة التي يفهمها الجميع وفضح غاياتهم من وراء اطلاقها.
واعملوا.. وهو ( العمل على ترسيخ حقيقة أن الله معنا لدى عموم الناس )، وهذا من أصعب التكاليف بإعتقادي لأنه متعلق بالعمل وتحقيق النموذج الصالح، من خلال تركيز صدق الحديث والإلتزام بالوعود وأداء الأمانة والإبتعاد الصفات الذميمة كالغيبة والنميمة والانتقاص من الآخر والبغضاء والحقد والحسد، واعتمادنا على الله تعالى بشكل عملي والتوكل عليه في جميع حركاتنا وسكناتنا ولا تأخذنا العزة بالإثم ومعاداة الآخرين والنيل منهم لأسباب شتى.. فهي مسؤولية عظيمة نسأل الله تعالى أداءها على أحسن وجه.
وأدعوا.. وهو ( الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة المتأثرين بما ينشر في مواقع التواصل لتنقذوهم من ضلالهم حتى يستشعروا هذه النعمة العظيمة والمسؤوليات تجاهها )، وهذا الأمر من أساسيات الإسلام بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، بأن نتودد لهم ونسعى لقضاء حوائجهم وعدم تسقيطهم بل تبيان بطلان ما يسمعونه بالدليل الراجح الذي يفهمه بسهوله وبيان الشواهد الحية من الارتباط بالله تعالى واستشعار هذه النعمة العظيمة. قال أمير المؤمنين ” عليه السلام ” ( أُبْذُلْ مَعْرُفَكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً فَإِنَّ فَضِيلَةَ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ لاَ يَعْدِلُهَا عِنْدَ الله سُبْحَانّهَُ شئٌ ).
تتسلحوا.. وذلك بعد ( أن تتسلحوا بالعلم والمعرفة ولو على المستوى الفطري والعقلائي الذي لا يحتاج إلى دراسات معمّقة ومتخصصة )، لأن الأدلة العلمية الجافة لا يفهمها الكثيرون وتستشكل عليهم، بينما الأدلة البسيطة من الواقع كما ذكر سماحته في الخطاب وقبله، وتوهين تلك الدعوات وبطلانها يكون أيسر إقبالاً للعقول وأسرع نفاذاً للقلوب.
وفي ختام الخطاب ألزم المرجع اليعقوبي الجميع دون أستثناء بعدم التقاعس عن النصرة، والتحذير من الخذلان واللامبالاة حين قال سماحته ( فعلى الجميع أن لا يتقاعسوا عن نصرة الدين وهداية الناس وخدمتهم ). وحذّر سماحته بتحذير السيدة الزهراء ” عليها السلام ” حين قال ( وقد حذّرت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من ان حب الراحة والدعة واللامبالاة والكسل أسباب حقيقية لتضييع الحق وحذّرتهم من خذلانه ). وإن كان خطاب السيدة الزهراء ” عليها السلام ” عاماً وشاملاً، إلا أنه وكما معلوم كان موجهاً لأولائك الذين خذلوا الحق وامتنعوا عن نصرة من ثبته الرسول ” صلّى الله عليه وآله ” خليفة من بعده، وبايعوا الانقلابيين الذين تقمصوا الحكم بدون وجه حق، وهذا من أهم الأمور التي تؤثر على دين الناس وارتباطهم بالله تعالى لأن ﴿قالَت إِنَّ المُلوكَ إِذا دَخَلوا قَريَةً أَفسَدوها وَجَعَلوا أَعِزَّةَ أَهلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفعَلونَ﴾[النمل: ٣٤]، أما الحاكم العادل المختار من الله تعالى ويحكم بما أنزل الله على رسوله فإنه سبب لسعادة الناس، ويغدوا الدين رحمة للعالمين واستمرار سجايا رسوله الكريم وعلمه وحكمته، فيعم السلام والإعمار ربوع الأرض، قال تعالى ﴿يا داوودُ إِنّا جَعَلناكَ خَليفَةً فِي الأَرضِ فَاحكُم بَينَ النّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذينَ يَضِلّونَ عَن سَبيلِ اللَّهِ لَهُم عَذابٌ شَديدٌ بِما نَسوا يَومَ الحِسابِ﴾[ص: ٢٦].
سائلين الله تعالى أن يعين العاملين ويسدد عملهم ويبارك في جهدهم، أنه قريب مجيب.
والحمد لله رب العالمين.
علي الازيرجاوي
طهران
6 جمادي الآخرة 1439