الصابرة الممتحنة
إنّ فيوضات السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لا تنحصر بمجموعة صغيرة تُحسب كمجموعة محدودة في مقابل مجموعة الإنسانية. لو أنّنا نظرنا بنظرة واقعية ومنطقية، فإنّ البشرية مرهونة لفاطمة الزهراء (عليها السلام)، وليس هذا جزافاً، إنّها حقيقة، كما أنّ البشرية مرهونة للإسلام والقرآن ولتعاليم الأنبياء (عليهم السلام) والنبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد كان هذا الأمر دوماً على مرّ التاريخ وهو اليوم كذلك، وسوف يزداد تألّق نور الإسلام فاطمة الزهراء وسوف تتلمّس البشرية ذلك. ما لدينا من تكليف ووظيفة في هذا المجال، هو أن نجعل أنفسنا لائقين للانتساب إلى هذه العترة.
وبالطبع إنّ الانتساب لعترة الرسالة وأن نكون من جملة التابعين لهم والمعروفين بولايتهم أمرٌ صعبٌ، حيث نقرأ في الزيارة أنّنا أصبحنا معروفين بمحبّتكم، وهذا ما يلقي على كاهلنا تكليفاً مضاعفاً.
إنّ هذا الخير الكثير الّذي أعطاه الله تعالى في سورة الكوثر المباركة كبشارة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وقال ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾. حيث إنّ تأويله هو فاطمة الزهراء (عليها السلام)، في الحقيقة هو مجمع جميع الخيرات الّذي سوف ينزل يوماً بعد يوم من منبع الدين النبويّ على كلّ البشرية والخلائق. لقد سعى الكثيرون من أجل إخفائه وإنكاره ولكنّهم لم يتمكّنوا ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.
يجب علينا أن نقرّب أنفسنا إلى مركز النّور هذا، وإنّ لازم وخاصية هذا التقرّب هو التنوّر. يجب علينا أن نصبح نورانيّين من خلال العمل، لا بواسطة المحبّة الفارغة، العمل الّذي تمليه علينا هذه المحبّة. وتلك الولاية وذاك الإيمان ويطلبه منّا، بهذا العمل يجب أن نصبح من هذه العترة والمتعلّقين بها.
ليس من السهل أبداً أن يصير المرء قنبراً في بيت عليّ عليه السلام ، ليس من السهل أن يصبح الإنسان “سلمان منّا أهل البيت”.
نحن مجتمع الموالين وشيعة أهل البيت (عليهم السلام) نتوقّع من هؤلاء العظماء أن يعتبروننا منهم ومن حاشيتهم. “فلانٌ من ساكني تربة عتباتنا”، قلوبنا تريد أن يحكم علينا أهل البيت بهذه الطريقة وليس هذا الأمر سهلاً. ولا يحصل بمجرّد الادّعاء. إنّ هذا يستلزم العمل والإيثار والتشبّه والتخلّق بأخلاقهم.
انظروا إلى هذه السيدة الجليلة في أيّ سنٍّ حازت على كلّ هذه الفضائل، في أيّ عمرٍ برزت فيها كلّ هذه التألّقات، في عمرٍ قصير لم يتجاوز 18 سنة، 20 سنة، 25 سنة بحسب اختلاف الروايات.
وكلّ هذه الفضائل لا تحصل عبثاً، “امتحنك الله الّذي خلقك قبل أن يخلقك، فوجدك لما امتحنك صابرة”، فإنّ الله تعالى قد امتحن زهراء الطهر، وهي المصطفاة من عباده. إنّ النظام الإلهيّ هو نظام يعتمد على الحساب والكتاب، وما يمنحنا إيّاه إنّما يكون محسوباً بدقّة. إنّه يعدّ كلّ هذا الإيثار والمعرفة والتضحية الخاصّة (وهي من عبيده الخواص)، في سبيل الأهداف الإلهيّة، لذلك جعلها مركز فيوضاته.(05/10/1370)
في رواية أن سطوع نور فاطمة الزهراء (عليها السلام) أدّى إلى أن تنبهر عيون الكروبيين من الملأ الأعلى، “زهر نورها لملائكة السماء”. فماذا نستفيد نحن من هذا النور والسطوع؟ يجب علينا الاهتداء بهذا النجم الساطع إلى الله وإلى طريق العبودية الّذي هو الصراط المستقيم، الّذي سلكته فاطمة الزهراء عليها السلام ، فوصلت إلى تلك المدارج والمقامات العالية.
وإن جعل الله طينتها طينة متعالية، فلأنّه كان يعلم أنّها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان في عالم المادّة والناسوت “امتحنك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة”، هذه هي القضية. فالله تعالى إذ تلطّف بلطفه الخاصّ على تلك الطينة، فجانب من القضية هو أنّه يعلم بأنّها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان. وإلا فإنّ الكثيرين كان لديهم طينة طيّبة، لكن هل تمكّن الجميع من الصبر على الامتحان؟ هذا جانب من حياة الزهراء (عليها السلام) الّتي نحتاج إليها لنجاة أنفسنا. فالحديث ورد من طريق الشيعة أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لفاطمة (عليها السلام): “يا فاطمة اعملي فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً”، أي يجب عليك أن تفكّري وتهتمّي بنفسك، فكانت تهتمّ بنفسها منذ صغرها وإلى نهاية عمرها القصير.
كيف كانت حياتها؟ كانت إلى ما قبل الزواج حينما كانت فتاة، تعامل أباها، وهو على ذلك القدر من العظمة، بحيث كنّيت بـ “أمّ أبيها”. في الوقت الذي كان نبيّ الرحمة والنور ومؤسّس الحضارة الحديثة والقائد العظيم للثورة الخالدة يرفع راية الإسلام.
وما كنّيت بـ “أمَ أبيها” اعتباطاً، فقد كانت الزهراء إلى جانب أبيها، تزيل بيديها الصغيرتين غبار الحزن والغمّ عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، سواء في مكّة أم في شعب أبي طالب مع كل شدائدهما. أم عندما بقي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحيداً مكسور القلب بوقوع حادثتين في فترة قصيرة. هي وفاة خديجة عليها السلام ووفاة أبي طالب (عليه السلام) حيث أحسّ النبيّ بالغربة. هذا هو منشأ كنيتها بـ “أم أبيها”.
لقد كانت السيّدة الزهراء (عليها السلام) في سنّ سبع سنوات – بشأن تاريخ ولادتها يوجد روايات مختلفة – حين حدثت قضية شُعب أبي طالب.
لقد كانت هذه القضية مرحلة صعبة جداً في تاريخ صدر الإسلام، أي أنّ دعوة النبيّ كانت قد بدأت وصارت علانية، وبالتدريج بدأ أهل مكّة – وخصوصاً الشباب، وبالأخص العبيد – يقبلون ويؤمنون به، ورأى صناديد قريش كأبي لهب وأبي جهل وغيرهما أنّه لا بدّ من إخراج النبيّ وكلّ من معه من مكّة، وهذا ما فعلوه.
فأخرجوا عدداً كبيراً منهم وقد بلغوا عشرات الأُسر بما في ذلك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأسرته وأبو طالب نفسه، مع أنّ أبا طالب كان يُعدّ من الوجهاء الكبار. فخرجوا من مكّة ولكن إلى أين يذهبون؟ وصادف أن كان لأبي طالب ملكٌ في بقعة قريبة من مكّة – لعلّها تبعد عدّة كيلومترات في شعاب جبلٍ، يُدعى شُعب أبي طالب.
كأنّه عبارة عن تلّة صغيرة، فقال لهم أبو طالب فلنذهب إلى هذه الشعب. فكِّروا في هذا الأمر! النهارات في مكّة شديدة الحرارة، والليالي في غاية البرودة، فهذا وضعٌ لا يمكن أن يُتحمّل. فقد عاشوا طيلة ثلاث سنوات في هذه الشعب. فكم تحمّلوا من جوعٍ وصعابٍ ومحنٍ، الله وحده يعلم.
فمن المراحل الصعبة لحياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت هذه الشعب. ولم تكن مسؤولية النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه المرحلة منحصرة في القيادة بمعنى إدارة مجموعة، بل كان عليه أن يتمكّن من الدفاع عن عمله أمام هؤلاء الّذين كانوا واقعين في المحنة.
من الواضح أنّه عندما تتحسّن الأوضاع، فإنّ كلّ من يكون حول القيادة يصبح راضياً عن الأوضاع ويقول: رحم الله أباه فقد أوصلنا إلى هذا الوضع الجيّد. وأما عندما تسوء الأحوال فيصاب الجميع بالحيرة والتردّد، ويقولون: إنّه هو الّذي أوصلنا إلى هذا الوضع السيّئ! ولم نكن نريد أن نصل إلى هذا الحدّ! وبالطبع، يصمد من كان لديه إيمان قويّ، ولكن في النهاية إنّ كل الصعاب كانت تنهال على الرسول. وفي هذه الأثناء، وعندما كان النبيّ يقاسي أشدّ أنواع المحنة، توفّي – وفي ظرف أسبوعٍ واحد – أبو طالب الّذي كان الداعم للنبيّ ويُعتبر أمله، والسيّدة خديجة الكبرى الّتي كانت تقدّم أكبر عونٍ روحيّ له، فكانت حادثة عجيبة جداً، أصبح النبيّ بعدها وحيداً فريداً.
إن مَن يترأس مجموعة معيّنة، يعلم ما معنى مسؤولية المجموعة. ففي مثل هذه الظروف يصبح الإنسان متحيّراً. انظروا إلى دور فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مثل هذه الظروف. عندما يتأمّل الإنسان في التاريخ فإنّ هذه الموارد الّتي ينبغي أن تكون ملحوظةً في الزوايا والتفاصيل، للأسف لم يتمّ فتح أي بحث لها. لقد كانت فاطمة الزهراء عليها السلام كأمّ ومشاور وممرّضة بالنسبة للنبيّ. هناك حيث قيل “فاطمة أمّ أبيها”.
إنّ هذا متعلّق بذاك الوقت، أي عندما كانت بعمر ست أو سبع سنوات. وبالطبع، في البيئة العربية وفي البيئات الحارّة، تنمو البنات بصورةٍ أسرع من الناحية الجسمية والعاطفية، كبنتٍ في عمر عشر أو 12 سنة في أيامنا هذه. وهذا ما يؤدّي إلى الشعور بالمسؤولية. ألا يمكن أن يكون ذلك قدوةً لأيّ فتاة، بحيث تشعر بالمسؤولية والنشاط فيما يتعلّق بالقضايا المتعلقة بها بشكل سريع؟ إنّ هذا الرأسمال العظيم للنشاط الموجود فيها، كانت تنفقه من أجل أن تزيل غبار التكدّر والغمّ عن وجه أبٍ لعلّه قد مرّ على عمره أكثر من 50 سنة وقد قارب سن الهرم. ألا يمكن أن يكون هذا بالنسبة للفتاة نموذجاً وقدوةً؟ هذا مهمٌّ جداً.(07/02/1377)
في مثل هذا العالم ربّى النبيّ الأكرم بنتاً صارت لائقةً بأن يأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقبّل يدها! إنّ تقبيل يد فاطمة الزهراء (عليها السلام)، من قبل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينبغي أن يؤخذ أبداً على معنىً عاطفيّ. فهذا أمرٌ خاطئٌ جداً، لو تصوّرنا أنّه يقبّل يدها فقط لأنّها ابنته ولأنّه يحبّها.
هل شخصيةٌ بمثل هذه العظمة، وبمثل تلك العدالة والحكمة، الّتي كانت في النبيّ وهو يعتمد على الوحي والإلهام الإلهيّ ينحني ويقبّل يد ابنته؟ كلا، إنّ هذا أمرٌ آخر وله معنىً آخر. إنّه يحكي عن أنّ هذه الفتاة وهذه المرأة عندما ترحل من هذه الدنيا في عمر 18 أو 25 – قيل 18 وقيل 25 – تكون في أوج الملكوت الإنسانيّ وشخصاً استثنائيّاً. هذه نظرة الإسلام إلى المرأة.(04/10/1370)
أمّا المقام المعنويّ لهذه السيّدة العظيمة، بالنسبة لمقامها الجهاديّ والثوريّ والاجتماعيّ، فهو أعلى بدرجات. فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الظاهر هي بصورة بشر، وامرأة، وامرأة شابّة أيضاً؛ ولكنها في المعنى هي حقيقةٌ عظيمة ونورٌ إلهيٌّ ساطع، وعبدٌ صالح، وإنسانٌ مميّز ومصطفى. هي شخصٌ قال فيه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام): “يا عليّ أنت إمام أمّتي وخليفتي عليها من بعدي، وأنت قائد المؤمنين إلى الجنّة، وكأنّي أنظر إلى ابنتي فاطمة قد أقبلت يوم القيامة على نجيبٍ من نور عن يمينها سبعون ألف ملك، وعن يسارها سبعون ألف ملك، وبين يديها سبعون ألف ملك، وخلفها سبعون ألف ملك تقود مؤمنات أمّتي إلى الجنّة”8، أي أنّه يوم القيامة يقود أمير المؤمنين عليه السلام الرجال المؤمنين، وتقود فاطمة الزهراء عليها السلام النساء المؤمنات إلى الجنّة الإلهيّة. فهي عِدْل أمير المؤمنين عليه السلام.
هي الّتي إذا وقفت في محراب العبادة فإنّ آلاف الملائكة المقرّبين لله يخاطبونها ويسلّمون عليها ويهنّئونها ويقولون لها ما كانوا يقولون في السابق لمريم الطاهرة (عليها السلام): “يا فاطمة إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين”9، هذا هو المقام المعنويّ لفاطمة الزهراء (عليها السلام).
امرأةٌ أيضاً في سنّ الشباب وصلت بلحاظ المقام المعنويّ، بحسب ما نُقل في الروايات، إلى حيث تحدّثها الملائكة وتظهر لها الحقائق. “المحدَّثة” أي من تحدّثها الملائكة وتتكلّم معها. وهذا المقام المعنويّ والميدان الوسيع والقمّة الرفيعة هي في مقابل جميع نساء عالم الخلقة. إنّ فاطمة الزهراء عليها السلام في قمّة هذا العلوّ العظيم تقف وتخاطب كلّ نساء العالم، وتدعوهنّ لطيّ هذا الطريق.
هؤلاء الّذين كانوا عبر التاريخ – سواء في الجاهلية القديمة أم في جاهلية القرن العشرين – قد سعوا لتحقير المرأة وجعلها متعلّقة بهذه الزخارف والزينة الظاهرية ولا همّ لها سوى الموضة واللباس والزينة والذهب والزخارف، ولا همّ لها سوى أن تقضي هذه الحياة في لهوٍ وعبث، وقد تحرّكوا من أجل ذلك، إنّ منطقهم هو منطق يشبه الثلج والجليد مقابل حرّ شمس المقام المعنويّ لفاطمة الزهراء عليها السلام ، سيذوب وينعدم. يعرّف الإسلام فاطمة – هذا العنصر المميّز والملكوتيّ الممتاز – بعنوان الأنموذج والأسوة للنساء. وهو تلك الحياة الظاهرية والجهاد والعلم والبيان والتضحية وحسن التبعّل والأمومة والزوجة والمهاجرة والضحور في جميع الميادين السياسية والعسكرية والثورية، والتفوّق في جميع الجوانب بحيث يخضع لها كلّ الرجال العظماء، بل هذا أيضاً المقام المعنويّ والركوع والسجود ومحراب العبادة والدعاء والصحيفة والتضرّع والذات الملكوتية وتألّق العنصر المعنويّ وكذلك عِدْل ووزان أمير المؤمنين عليه السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . المرأة هي هذه. والقدوة للنساء الّتي يريد الإسلام أن يصنعها هي هذه.(26/10/1368)
يمكنك الاشتراك على قناتنا على منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية