م . م / أحمد صادق المندلاوي
تدريسي في كلية التربية الأساسية/جامعة ديالى
لربما عند الحديث عن الفكر العربي والفكر الإسلامي بصورة عامة، تبرز هناك إشكالية جديّة في التمييز بين هويتين متداخلة في انسان واحد، خصوصاً في عصر صدر الإسلام. فذلك الإنسان العربي أتته رسالة سماوية بلسانه، وبعث فيهم نبي من جنسهم وقبيلتهم وثقافتهم وهويتهم إلى عموم الأرض. جاءت هذه الرسالة الجديدة بدين جديد يحمل مفاهيم وقيم وأفكار وتصورات عن الكون والإنسان والحياة بصورة غير معهودة.
حيث يمثّل هوية جديدة لهذه الجماعة إلى جانب عاداتها وتقاليدها وأفكارها ومنظومتها الثقافية والسياسية والفكرية وغيرها. وقد أقرت الرسالة الجديدة بعضاً مما كان موجوداً لدى تلك القبائل العربية وأشادت بها كالقيم والأخلاق التي كان يتحلى بها العرب والتي ذكرها النبي الكريم (ص) في حديثه حيث قال: ” إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
وفي هذا إشارة إلى أن العرب كانت تتميز بقيم وأخلاق معينة أشاد بها الإسلام وعمل على تعزيزها وتشذيبها؛ لتلائم الفكر الجديد. كما جاء الإسلام ناهياً أيضاً عن بعضها، وسعى للقضاء عليها تماشياً مع قيمه الحنيفة. ويعتبر النظام السياسي أحد عناصر تلك المنظومة الفكرية الخاصة بالقبائل العربية، حيث تنظم من خلاله العلاقات الداخلية فيما بينها وبين القبائل والامبراطوريات الأخرى المجاورة لها آنذاك.
النظام السياسي في الجاهلية:
الجاهلية لغة في العربية مشتقة من الجهل والجهالة أي ضد العلم والمعرفة. وفي الإصطلاح فإن الجاهلية تعود لوصف مجتمع ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية، حيث كان المجتمع الجاهلي مصاب بداء بالجهل، ولا يؤمن بأوامر الله سبحانه وتعالى، ولا يتمتع بقيم أخلاقية أو حضارية، يجهل القراءة والكتابة.
ويؤخذ على التعريف نفي السمات والقيم الأخلاقية من المجتمع الجاهلي، بينما كان هناك -كما تقدم – بعضاً من القيم والمميزات التي تميز بها العرب من المروءة والشهامة والكرم وغيرها. أما من ناحية النظام السياسي في المجتمع الجاهلي فخلال الفترة الممتدة للعصر الجاهلي لم يوجد أي شكل من اشكال الدولة التي تتمتع بنظام وإدارة قوية وفاعلة. وكان النظام السياسي معرض للخطر بسبب القوى الاستعمارية.
حيث كان الشمال خاضعاً لهيمنة الإمبراطورية الرومانية والفارسية، بينما الجنوب كان خاضعاً لسيطرة الاحباش، وقد تأثرت مكة سلباً من هذه الهيمنة الاستعمارية، وكان المناخ السياسي في المناطق المستعمرة في مملكة الغساسنة أو الحيرة أو اليمن يمثل تحدي صعب بالنسبة لمكة.
وهنا يتضح أن التشكيل السياسي المنظم كان غائباً، لعدة أسباب أكثرها حضوراً ربما هو حالة الضعف التي كان يعيشها العرب في مكة، خوفاً من أي غزو يتهددهم من الامبراطوريات المجاورة لهم من الشمال والجنوب، وهيمنة تلك الامبراطوريات على أهم أجزاءها وهي الحيرة والغساسنة واليمن.
ما الفكر السياسي الإسلامي؟
إن تعريف الفكر السياسي الإسلامي يساعدنا على تحديد ماهية الإطار الفكري الذي يعمل على صياغة مفهوم الممارسة السياسية ومحدداتها والعناصر التي تشكّلت منها تلك الممارسة السياسية. وبالتالي فإن هذه المحددات تساعدنا في فهم النظام السياسي الإسلامي القائم على ركيزتين أساسيتين هما من النصوص القطعية المتمثلة في القرآن الكريم، والممارسة السياسية في العصر النبوي والمتمثلة في السنة النبوية من الأفعال والأقوال.
وهنا يعرف جبرون : الفكر السياسي الإسلامي على أنه ” حصيلة التفكير الواعي والعقلاني للمسلمين في مسألتي السلطة السياسية (الشرعية)، والمؤسسات السياسية (الدولة)”. حيث يشير إلى أن الفكر الإسلامي تشكّل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سنة 11 للهجرة، مرجّعاً فترة الممارسة السياسية في العهد النبوي من حيث التفكير في السلطة والدولة مشوباً بالوحي ومختلطاً به. ويلاحظ من خلال التعريف أنه حصر الفكر السياسي في فترة ما بعد العهد النبوي، وهنا قد أختلف مع هذا الطرح، حيث أن الفكر السياسي من المفترض أن يستند على فلسفة الممارسة السياسية في الدين الإسلامي ككل، حتى في ظل وجود الوحي.
حيث أن الوحي كان يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمحددات المفاهيمية لمنهجية الدين الإسلامي، والتي من الممكن تسميتها الفكر الإسلامي. بمعنى أوضح، أن الرسالة السماوية المتمثلة بالوحي هي ذاتها الفكر الإسلامي وفهمه لممارسة الحياة السياسية والاجتماعية وبناء الدولة وغيرها، باعتبارها طريقة تفكير مرتكزة على منهجية محددة وليست، نتاجاً فكرياً تشكّل من خلال طرائق التفكير العربي ووعيه الذاتي. وهذا يعيدنا إلى الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” أن بني إسرائيل كان يسوسهم أنبياؤهم”.
أي كانت الممارسة السياسية تأتي من التصور الفكري لأنبيائهم، وهذا التصور هو جوهر الدين الذي أوحي إليهم. وعلى أية حال، فإن تعريف جبرون هنا يساعدنا في تعقب الممارسة السياسية الإسلامية منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والأُسس التي قامت عليها تلك الممارسة.
ومن الواضح أن النظام السياسي الإسلامي بدأ يتشكل بصورة مغايرة عن المنظومة السياسية للعرب في الجاهلية، حيث كانت المنظومة القبلية هي رمز السلطة في المجال السياسي. بينما جاء الإسلام بمفهوم أوسع من المحدد القبلي كمدخل للنظام السياسي، واتجه إلى صهر المنظومة القبلية في إطار أوسع أطلق النبي صلى الله عليه وسلم ب “الأمة”، حيث يرى جبرون : أن أول ظهور للسلطة السياسية في المجال الإسلامي كان بعد الهجرة إلى المدينة والاستقرار بها، وكان مستنداً على وثيقة الصحيفة أو دستور المدينة. والذي سعى من خلاله النبي صلى الله عليه وسلم إلى إنشاء جماعة سياسية مدنية فوق القبيلة ومتخطية الكثير من أعرافها السياسية، تعتمد العلاقات داخلها على حفظ السلم والأمن وسُمّي هذا التشكيل “بالأمة”. وبالتالي فإن مصطلح “الأمة” رؤية أخرى وبصورة أكثر شمولية لفهم النظام السياسي في الفكر الإسلامي.
في النظام السياسي الإسلامي لا يستحدث حقوق للحاكم غير التي حددتها النصوص، أو القاء تشريع واجبات على المحكوم لم يشرعها الشارع.
الحاكم المسلم وكيل عن الامة وليس مفوضاً عن الله.
من خلال هذه الأسس ماهية الملامح العامة التي من خلالها يتم فهم النظام السياسي الإسلامي، وما هي الغايات والمقاصد العامة المراد تحقيقها من خلال هذه الأسس. حيث جاء الإسلام بنظام واضح وشامل لمختلف جوانب الحياة، يرتبط بغايات معينة ووسائل محددة لتحقيقها. وهنا يظهر جوهر النظام وأهميته. وهذا ما كان غائباً في الزمن الجاهلي.
وظائف الدولة في الإسلام:
يتحدد مفهوم الدولة في لسان العرب أنها ” الدَّولة والدُّولة: وتعني العٌقّبة في المال والحرب ، أي أنها جاءت من التعاقبية والتداول. وفي القران الكريم فقد جاء التعبير عن الدولة بألفاظ أخرى: “القرية”، ” و “المدينة”، و “البلد”، و “البلدة”. وتتحد المقاصد الأساسية للسلطة السياسية في الإسلام والتي تمثلها الإمامة أو الخلافة على أنها تقوم بخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسية الدنيا .
كما تتحد مهام رأس الدولة المتمثل في الإمام أو الخليفة، لدى الماوردي، بمجموعة مهام رئيسية تتمثل في: حفظ الدين على أصوله، تنفيذ الاحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين (القضاء)، حماية البيضة والذبٌ عن الحريم، وتحصن الثغور، وجهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة وإقامة الحدود، جباية الفيء والصدقات، وتقدير العطايا، استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء وأن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال .
تشير المهام السابقة للدولة متمثلة بأعلى هرم السلطة وهو الخليفة أو الإمام إلى أن فهم هيكل الدولة ومهامها وأدوارها الوظيفية في الإسلام، قائم بشكل أساسي على فكرة الخلافة المرتبطة بالمجتمع الإسلامي. وهذه المهام وإن كانت في ظاهرها عامة بمعنى (أنها قد لا تختلف عن أي هيكل للدولة في أي مجتمع ما) كونها ترتبط بالغايات الكبرى المشتركة في أي مجتمعات إنسانية.
وهذه الوظائف قد تجد ما تقابلها من المسميات في الدولة الحديثة مثل حفظ الهوية الوطنية والحفاظ على السيادة وإقامة القضاء العادل بين الناس، والحفاظ على موارد وممتلكات الدولة والسعي إلى تنميتها. بالإضافة إلى الدور الفاعل للرئيس أو الحاكم في متابعة شؤونها الداخلية والخارجية بما يعزز قوتها وتقدمها.
وعلى أية حال، فإن ما يمكن الإشارة إليه هنا هو أن تشكٌّل مهام ووظائف السلطة الحاكمة وتنظيمها وانشاء كيان دولة موحد، يهدف إلى إقامة مجتمع متضامن ومنظم يلم شتات القبائل المختلفة والقوى المتنازعة تحت قيادة موحدة تحكمها وتنظم شؤونها وتحد من الصراعات التي كانت سائدة، وبالتالي تسعى إلى تحقيق أهداف جماعية مشتركة يستفيد كل من يقطن هذا المجتمع. وكل هذه المفاهيم تعتبر مهام جديدة أرساها الإسلام وسعى من خلالها لتشكيل المجتمع ومن ثم الدولة المسلمة، التي تضم مواطنين بغض النظر عن هويتهم الدينة ومعتقداتهم. بينما في العصر الجاهلي لم يتشكل هناك مفهوم لمجتمع سياسي منظم على هذا الشكل إنما كان قائم على العلاقات القبلية والعصبويات المختلفة تنظمها معاهدات واتفاقات محددة، ترتكز في أغلبها على التعاون والتعاضد أثناء الحروب والخلافات القبلية.
هناك إشكالية قائمة ربما أنها منبع الكثير من الخلاف في الفكر الإسلامي حول مسألة الدولة في الإسلام وشكلها ووظائفها وطبيعة النظام السياسي فيها. حيث يشير بعض الباحثين إلى أن هناك فرق بين النظام السياسي وفهم السلطة السياسية في عهد النبي صلى الله وعليه وسلم، وفكرة الدولة وممارسة النظام السياسي بعد وفاته وانتقالها إلى من بعده. حيث يرى الأفندي “أن المسلمون لم يواجهوا قضية الدولة بصورة مباشرة إلا بعد وفاة النبي.
ذلك أن النظام الذي أقامه كان فريداً من نوعه في التاريخ” كما يرى أنه يختلف عن النظام التقليدي القسري للدولة، وأن ممارسة السلطة في العهد النبوي لم تكن قهرية، إنما كانت طواعية؛ نتيجة للبعد الروحي الذي يمثله النبي صلى الله عليه وسلم كرسول الله. ولكن اختلف الأمر تماماً بعد وفاته، وبرزت هناك الحاجة إلى قيام سلطة سياسية قائمة ممارسة القوة القهرية التي هي ضرورة لا مفر منها.
وكان منبع الخلاف هو من تؤول إليه سلطة الجماعة، ومن هو الأحق بالخلافة. وهنا قد اختلف إلى حد ما مع هذا الطرح، حيث أن فكرة الخليفة مستندة إلى فكرة توارث الحكم مستمدة سلطتها وشرعيتها من التوجيه الإسلامي القائم على طاعة ولي الأمر (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولوا الأمر منكم)، والخليفة هنا يصبح هو ولي الأمر من حيث مبدأ الخلافة، ومستندة بذلك بوضوح إلى الحديث النبوي: ” من أطاع أميري فقد أطاعني ومن أطاعني فقد كان معي في الجنة “، فالنص هنا يشير إلى أن الخليفة يستمد سلطته الطوعية والقسرية من الشريعة نفسها وليست فقط ذات بعد سياسي وحسب.
وهنا فإن هذا الخلط بين البعدين الشرعي والسياسي يمكن بوضوح تفسيره بالمعضلة الإسلامية التاريخية حول إشكالية أحقية الخلافة وعدم المقدرة على فهم الدولة خارج إطار الخلافة الموروثة عن النبي (ص) بغض النظر عن الإشكاليات الناتجة عن الصراع القائم على أحقيتها. وعلى أية حال، يمكننا أن نجمل القول بأن هناك فكر سياسي إسلامي معين نحو الدولة ووظائفها، وهناك ممارسة لهذا النظام السياسي بطرق مختلفة يعود جزء كبير منه إلى اجتهادات شخصية وجماعية في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي. والثابت فيها أنها تختلف في أغلبها عن ما كان عليه العرب في الجاهلية، وأن الإسلام جاء بثورة جديدة شملت مختلف النواحي الفكرية والسياسية والثقافية والمعرفية، نقلت العرب من جماعات قبلية متصارعة فيما بينها، كانت عرضة للكثير من التهديدات الخارجية، حتى أصبحت عبارة عن مشروع دولة منظمة وطموحة لها نظامها السياسي وإمكانياتها ورسالتها التي تسعى إلى نشرها في مختلف الأقطاب التي خضعت لها.
وانتشرت هذه الرسالة بسرعة عجيبة لم ينتشر بمثلها دين من الأديان، فقضى على أحد أعظم امبراطوريتان في ذلك العهد، واستأصل الأجزاء الحيوية من الإمبراطورية الأخرى، وأنشأ من شتات سكان الجزيرة العربية أمة ومن قبائلها المتنازعة حكومة ذات سلطان ووحد أقواماً عديدة في صعيد الله .
المصادر والمراجع:
1) أمين، أحمد. فجر الإسلام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2011.
2) الأفندي، عبد الوهاب. من يحتاج الى دولة إسلامية؟ الجزء الثاني، برنتونديماند- ويرلدوايد ليميتد، ماليزيا، 2008.
3) جبرون، أحمد. نشأة الفكر السياسي الإسلامي وتطوره، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، 2015.
4) زكريا، براق. الدولة والشريعة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2013.
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية