إنّ الإسلام يُنظّم الحياة البشريّة في مختلف ميادينها الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة. وقد بُنِي ديننا كلُّه على النظام، فالنظام هو محور حياة المسلم، بل الكون كلُّه يسير في نظام: البشر، الكائنات، الليل والنهار، السماء، الفلَك…
خلق الله عزّ وجلّ هذا الكون على أساس منظّم، فوضع كلّ شيء في موضعه، وجعل له مهمّة، عليه أن يؤدّيها في هذه الدنيا، قال الله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾1، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾2.
وكذلك نظرة الإسلام للنظام في تعاملات البشر واضحة، فالاستئذان شرط، ومن لا يؤذَن له لا يدخل، وللأكل آدابه، والالتزام بالعهود والعقود شرط، وفي السفر إن خرج اثنان في سفرٍ فليؤمِّرا أحدهما، ووصل النظام إلى ضرورة اختيار اسمٍ صالحٍ للأولاد بمجرَّد ولادتهم، ثمَّ حسن تربيتهم. ووضع الإسلام، كذلك، قواعد في آداب التحيَّة والسلام، وفي الصلاة: “أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل، ولينوا3 بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجاتٍ للشيطان”4.
وفي الجهاد: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾5، وغيرها من الموارد. فهذا باختصار هو الإسلام، دين النظم والانتظام، نظام في كلّ شيء، منذ الولادة وحتّى الممات، في الأمور الشخصيّة والمعاملات، وفي تكوين الأرض والسماوات.
النظام قرين التقوى والإيمان
ومن وصيّة للإمام عليّ عليه السلام للحسن والحسين عليهما السلام لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه الله) على رأسه الشريف: “أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم…”6.
ويحبُّ الله عزّ وجلّ – الذي خلق هذا الكون بهذا النظم العجيب – أن يكون الإنسان منظّماً في حياته الشخصيّة والعامة، وقد بيَّن طريق ذلك في رسالات السماء وبالخصوص دين الإسلام، وأمر برعاية ما بيّنه وأنزله.
وقد أوصى الإسلام بنظم الأمور في مختلف جوانب الحياة الإنسانيّة، بأبعادها الفرديّة والاجتماعيّة بهدف تحقيق امتثال التكليف الإلهيّ. ويتجلّى الالتزام بالنظام بالالتزام بتعاليم الدين الحنيف، التي جاءت لتنظيم الحياة الإنسانيّة وتأمين السعادة للمجتمع البشريّ كلّه، وهو ما أشار إليه الإمام عليّ عليه السلام في وصيّته لولديه، حيث قرن التقوى – التي تُعبّر عن أعلى مراتب الإيمان والالتزام العمليّ بأحكام الشريعة وقوانينها – بالوصيّة بنظم الأمر، لأنّه لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً يتحلّى بالتقوى والإيمان الحقيقيّ دون أن يربّي نفسه على النظام، والالتزام بالحقوق والواجبات تجاه الله والناس، وإلّا لابتُلي بالنفاق والكذب، ما يؤدّي إلى ضعف الإيمان والتديُّن، ولا يبقى عندها أيّ قيمة للتقوى والإيمان.
وجوب مراعاة النظام في الفقه الإسلاميّ
أفتى الفقهاء المسلمون بوجوب الالتزام بمقرّرات نظام المجتمع، ولو كانت من دولة غير إسلاميّة، تجب مراعاتها على كلّ حال7. وليس لأيّ أحد أن يضع في الشوارع والطرقات العامّة ما يضرّ بالمارّة ونحوهم، ولا بدّ من منع ذلك بأيّة وسيلة ممكنة، ولو بتسجيل عقوبة مادّيّة عليه لحفظ المصالح العامّة، وكذا الحال في وضع القذارات فيها، ولا ينبغي لأحد مخالفة النظام، ولا سيّما مع حصول الإضرار بالجار8. ومن الطبيعيّ أنّ المحافظة على أنظمة وقوانين، مثل: شبكات الكهرباء والماء والهاتف العامة، وعلى أنظمة السير والبناء والضمان الصحيّ والبيئة، وغيرها ممّا له جنبة مصلحة وفائدة اجتماعية عامّة، من المصاديق الطبيعيّة، التي تندرج تحت النظام العام الذي أوجب الفقهاء الالتزام به ومراعاته.
النظم في العلاقات الاجتماعيّة
أولى الإسلام الآداب العامّة التي ترتبط بالمجتمع وتمسّ حياة الناس وحقوقهم أهمّيّة قصوى، تبرز في مختلف مرافق الحياة العامّة والاجتماعيّة. فقد جعل الإسلام كلّ مسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعيّة، يمارس دوره الاجتماعيّ من موقعه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته”9، ودعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاهتمام بأمور المسلمين، ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، فقال: “من أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم”10.
فالمسلم مسؤول عن إصلاح وتحصين نفسه وأفراد مجتمعه، من خلال الالتزام بالأحكام الشرعيّة الاجتماعيّة المتعلّقة بالأسرة، والأرحام، والجيران والأبناء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة على النظام العام، ورعاية حقوق الآخرين، وعدم التهاون والتساهل بها، بالإضافة إلى المساهمة والحضور الاجتماعيّ بحسب المصلحة والوسع. قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾11.
النظام في الحياة الفرديّة
تشتمل الحياة الشخصيّة للإنسان على النظافة والصحّة وترتيب اللباس ونظافة الشعر والوجه وغيرها… ونشير بشكل مختصر إلى بعض هذه الموارد:
1- التجمّل: رُوي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان كلّما أراد الخروج إلى المسجد، أو إلى لقاء أصحابه، ينظر في المرآة ويُرتِّب شعره ويتعطَّر، وكان يقول: “إنّ الله يُحبُّ من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيَّأ لهم ويتجمَّل”12.
2- النظافة: وممّا أمر به الإسلام أيضاً رعاية النظافة العامّة والشخصيّة، لما في ذلك من مظهر حضاريّ ومدنيّ له العديد من الأبعاد التربوية بين الناس، فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إنّ الله طيّب يُحبُّ الطيّب، نظيف يُحبُّ النظافة”13، وفي كلام آخر له صلى الله عليه وآله وسلم قيّد الدخول إلى الجنّة بالنظافة: “تنظَّفوا بكلِّ ما استطعتم، فإنّ الله تعالى بنى الإسلام على النظافة، ولن يدخل الجنّة إلّا كلّ نظيف”14، وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: “من أخلاق الأنبياء التنظّف“15.
3- المظهر الحسن: إنّ تعاليم الإسلام كما أمرتنا برعاية النظافة والتجمّل والتطيّب، أمرتنا أيضاً بأن نراعي المظهر الحسن في الشكل واللباس، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه رأى رجلاً شعثاً، قد تفرّق شعره، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره”16. وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال: “من اتّخذ ثوباً فلينظّفه”17، وعن الإمام عليّ عليه السلام حول لبس الحذاء قال: “استجادة الحذاء وقاية للبدن، وعون على الصلاة والطهور”18.
الانضباط في الوقت
إنّ الاستفادة الصحيحة من الوقت هي من أهمِّ الأمور التي توجب نجاح الإنسان في أموره الاجتماعيّة ونجاح علاقاته مع الآخرين، ويكون ذلك عبر قيام الإنسان بتنظيم برنامج شخصيّ له للعمل، وللثقافة وللزيارات. إنّ عدم وجود نظام يسير عليه الإنسان يوجب ضياع الفرص، وأمّا الانضباط والعمل ضمن برنامج معيَّن فهو موجب للاستفادة من طاقة الإنسان واستثمار نتائج عمله. ويأمر الإمام الكاظم عليه السلام الإنسان بتقسيم أوقاته إلى أربعة أقسام، فقد ورد عنه عليه السلام: “اجْتَهِدُوا فِي أَنْ يَكُونَ زَمَانُكُمْ أَرْبَعَ سَاعَاتٍ سَاعَةً لِمُنَاجَاةِ الله وَسَاعَةً لِأَمْرِ الْمَعَاشِ وَسَاعَةً لِمُعَاشَرَةِ الْإِخْوَانِ وَالثِّقَاتِ الَّذِينَ يُعَرِّفُونَكُمْ عُيُوبَكُمْ وَيُخْلِصُونَ لَكُمْ فِي الْبَاطِنِ وَسَاعَةً تَخْلُونَ فِيهَا لِلَذَّاتِكُمْ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَبِهَذِهِ السَّاعَةِ تَقْدِرُونَ عَلَى الثَّلَاثَةِ سَاعَاتٍ – لَا تُحَدِّثُوا أَنْفُسَكُمْ بِفَقْرٍ وَلَا بِطُولِ عُمُرٍ فَإِنَّهُ مَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْفَقْرِ بَخِلَ وَمَنْ حَدَّثَهَا بِطُولِ الْعُمُرِ يَحْرِصُ اجْعَلُوا لِأَنْفُسِكُمْ حَظّاً مِنَ الدُّنْيَا بِإِعْطَائِهَا مَا تَشْتَهِي مِنَ الْحَلَالِ وَمَا لَا يَثْلِمُ الْمُرُوَّةَ وَمَا لَا سَرَفَ فِيهِ وَاسْتَعِينُوا بِذَلِكَ عَلَى أُمُورِ الدِّينِ فَإِنَّهُ رُوِيَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ دُنْيَاهُ لِدِينِهِ أَوْ تَرَكَ دِينَهُ لِدُنْيَاهُ”19.
* أخلاقنا الإسلامية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة يس، الآيات 37 – 40.
2- سورة الروم، الآيات 22 – 24.
3- ومعنى “ولينوا…” إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجل منكبيه حتّى يدخل في الصف.
4- السجستاني، سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود، تحقيق وتعليق سعيد محمد اللحام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1410هـ – 1990م، ط 1، ج1، ص157.
5- سورة الصف، الآية 4.
6- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 421، الخطبة 47.
7- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، الكويت، دار النبأ للنشر والتوزيع، 1415هـ – 1995م، ط 1، ج 2 ص 98.
8- مجمع المسائل، ج1، ص399، م16.
9- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 72، ص 38.
10- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 163.
11- سورة الحجرات، الآية 10.
12- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 5، ص 11.
13- المتقي الهندي، كنز العمال، ضبط وتفسير الشيخ بكري حياني، تصحيح وفهرسة الشيخ صفوة السقا، بيروت – لبنان مؤسسة الرسالة، 1409 – 1989م، لا.ط، ج 15، ص 389.
14- م.ن، ج9، ص277.
15- الشيخ الكليني، الكافي، ج 5، ص 567.
16- السجستاني، سنن أبي داود، ج 2، ص 261.
17- الشيخ الكليني، الكافي، ج6، ص441.
18- م.ن، ج6، ص 462.
19- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 321.