قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾.
كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلال فترة الدعوة الإسلامية ومن بداية البعثة الشريفة دوافع متعدّدة للهجرة عن مكّة المكرّمة مع أصحابه، ومنها: الاضطهاد الشديد الذي وقع عليه وعلى المسلمين، وكذلك المحاولات القاسية التي بذلها المشركون لفتنتهم آملين رجوعهم عن الدين الحق وارتدادهم حيث كان يشكّل هذا الارتداد انتصاراً للجاهلية والوثنيّة، وكانت هذه المرحلة من تأريخ الدعوة المشرق لا تتحمّل مثل هذه الظاهرة؛ إذ الدعوة في بداية طريقها الشائك.
وهذه المحاولات التي تمثّلت في الاضطهاد والقتل هي التي دفعت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإيعاز إلى المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مرة، وثمّ إلى المدينة ثانية، ثم هجرته بنفسه (صلوات الله وسلامه عليه).
فالمنطقة الجغرافية التي انطلقت منها الهجرة وهي مكّة لها دور في ذلك، وأيضاً المناطق التي هاجر إليها المسلمون لها دور وأثر.
وما عملية اختيار الحبشة أولاً، ثم المدينة ثانياً إلّا تخطيط موفّق من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لحماية المسلمين وتثبيت أركان الدعوة ورجالها.
ومن هنا كان لا بدّ من الإطلالة على الظروف التي عاشها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه في مكّة لمعرفة الأسباب التي دفعته إلى الهجرة عنها، ثمّ دراسة النتائج التي أفرزتها الهجرة النبويّة المباركة.
مرحلة ما قبل الهجرة:
وهي تلك السنوات التي عاشها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون في مكّة، حيث كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو الناس إلى توحيد الله عزّ وجلّ وعبادته والإقرار بنبوّته، وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ ولا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت.
فاستهزأت منه قريش وآذته وقالوا لأبي طالب: إنّ ابن أخيك قد عاب آلهتنا وسفّه أحلامنا فليُمسك عن ذلك وليحكم في أموالنا بما يشاء.
وكان جوابه (صلى الله عليه وآله وسلم): “إنّ الله لم يبعثني لجمع الدنيا والرغبة فيها وإنّما بعثني لأبلِّغ عنه وأدلّ عليه”.
ووقف صناديد قريش بالمرصاد أمام هذه الدعوة، وتصدّى له أبو لهب والحكم بن العاص وعقبة بن أبي معيط وآذوه أشدّ الإيذاء، وكانوا يوكلون صبيانهم وعبيدهم فيلقونه بما لا يحبّ حتى أنّهم نحروا جزوراً ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يصلّي، فأمروا غلاماً فحمل السلى والغرث حتى وضعه بين كتفيه وهو ساجد…
وعلى الرغم من كلّ هذا الأذى لم يتراجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن دعوته ويقف فيها قائلاً لهم: “يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة”.
والقوم يضحكون ويسخرون، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثابت راسخ لا يلين، ولا يهدأ ولا يملّ من الدعوة إلى الله تعالى. وقدّم الشهداء من أمثال ياسر زوجته سميّة، اللذين كانا أول شهيدين في الإسلام.
ويروي اليعقوبي في تأريخه بأنه أسلم خلق عظيم وظهر أمرهم وكثرت عدّتهم وعاندوا ذوي أرحامهم من المشركين. فأخذت قريش من استضعفت منهم إلى الرجوع عن الإسلام والشتم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
الهجرة إلى الحبشة:
لمّا رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما فيه أصحابه من الجهد والعذاب وما هو فيه من حال قال لأصحابه: إرحلوا مهاجرين إلى أرض الحبشة إلى النجاشي فإنّه يحسن الجوار، وذلك بهدف الحفاظ على عقيدتهم والتخلّص من أذى قريش ومضايقتها والحصول على مكانٍ آمن يقيمون فيه شعائرهم بحريّة ويعبدون الله الواحد.
وكان لا بدّ من مغادرة أرض مكّة التي ترزح تحت ظلام الوثنية، ولا يمكن أن يُرفع فيها نداء التوحيد، ولا إقامة أحكام الدين الحنيف في ذلك الزمن.
وكان اختيار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحبشة داراً للهجرة اختياراً موفّقاً وحكيماً، ولهذا لم يرسل المسلمين إلى غيرها كأرض الشام أو اليمن أو الحيرة.
وتنطوي الهجرة على مصاعب وآلام شديدة فهي تمثّل ترك الأهل والوطن، وغضّ الطرف عن المال والتجارة، وهناك مشقّة السفر وأتعابه. ولذا فإنّ المهاجرين إلى الحبشة عبّروا بهجرتهم عن الإيمان والإخلاص العميق للدين.
ولهذا نجد كم كانت قريش حريصة على استرداد المهاجرين، وإخراجهم من أرض الحبشة خوفاً من أن تتحوّل إلى قاعدة قوية للمسلمين، فوجّهت عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي لإقناعه بإخراج المسلمين من أرضه.
وقد ورد أنّ أبا طالب أرسل للنجاشي أبياتاً يحثّه فيها على الدفع عن المهاجرين وحسن جوارهم.
ونظراً للنتائج المهمّة التي حققتها الهجرة إلى الحبشة، والهزيمة التي لحقت بقريش منها، دخلت المواجهة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل مكّة مرحلة جديدة يمكن تسميتها بالحصار الشامل.
أسباب الهجرة إلى المدينة:
انزعجت قريش من الانتشار المتزايد للإسلام، ونفوذه في القبائل العربية في مدة غير طويلة بالنسبة إلى عمر الدعوة، ورغم أن المسلمين ما زالوا قلّة، فإنّ إسلام شخصيات ذات أهمية ومكانة كبرى مثل حمزة كان له الأثر البالغ في تقوية شوكة الدين.
وهذا ما دفع قريش إلى التفكير في كيفية إزالة هذا الخطر الكبير الذي يهدد نفوذها وزعامتها في الجزيرة العربية، فكان أن اتّخذت مجموعة من الإجراءات التي تظن بأنها كفيلة في إبعاد هذا الخطر.
ولذا عمدت إلى الخطوات التالية:
أولاً: محاضرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين اقتصادياً واجتماعياً في الشِّعب الذي يقال له شِعب بني هاشم بعد ستّ سنين من مبعثه، ومنعوا الناس من التعامل معهم تجارياً، والتزويج منهم، وإيصال الطعام إليهم، واتفقوا على أن يكونوا يداً واحدة على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنصاره.
وتحوّل هذا الحصار إلى نصرٍ كبير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنزول جبرائيل (عليه السلام) بالمدد الغيبي، وإظهار المعجزة بإخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ الأرضة قد أكلت صحيفة قريش المعلّقة في الكعبة.
وانتهى الحصار بعد ثلاث سنوات عجاف، تحمّل فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنو هاشم ما تنوء عنه الجبال من الشدّة والعذاب، وانتهت بعده أيام حياة سندين عظيمين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوته وهما: زوجته الوفيّة خديجة وعمّه الوفيّ أبو طالب (رضوان الله تعالى عليهما).
وسمّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك العام بعام الحزن.
ثانياً: الاستمرار في إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين.
فبالإضافة إلى ما ذكرناه من توجيه قريش أذاها للمسلمين وقتلهم وتعذيبهم ودفعهم للهجرة إلى الحبشة استمرّت ردود فعلها ضد الإسلام والمسلمين وضدّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، واستخدمت أساليب أخرى سلكتها لتحطيم شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإضعاف عزيمته مثل وصفهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأبتر.
وأنزل الله تعالى في ذلك سورة الكوثر ليُخبر نبيّه الكريم بأنّه سيهبه ذريّة كبيرة.
وواجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في السنة الحادية عشر جوّاً مفعماً بالعداء له، والحقد عليه، وصارت الأخطار تهدّد حياته الشريفة في كل لحظة، فقرّر الانتقال من المحيط المكّي إلى محيطٍ آخر يتسنّى له تبليغ رسالته، فسافر إلى الطائف مع الإمام علي (عليه السلام) ليطلب النصرة من القبائل التي كانت تقطن خارج مكة، ولكن لم يجبه أحد منها، غير أنّه عثر على غلام نصرانيّ فأسمعه كلام الله تعالى فأسلم ورجع (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكّة وهو مطمئن بالنصر الإلهي بعد هذا الجهاد والصبر، وكان يستغيث بالله وحده ويقول:
“اللهمّ إليك أشكو ضعف قوتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلُني، إلى بعيدٍ يتجهَّمُني، أم إلى عدوٍ مَلكتَه أمري؟! إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصَلُح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبُك، أو يحِلَّ سخَطُك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك”.
ثالثاً: التآمل على قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
بعد ما لم تنفع كل الوسائل اتّخذت قريش القرار بقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاجتمعوا في دار الندوة وأجمعوا على أن يأتوا من كل قبيلة بغلام فيجتمعوا عليه فيضربوه ضربة رجل واحد فلا يكون لبني هاشم قوّة بمعاداة جميع قريش.
ولكن العناية الإلهية كان تحوط به (صلى الله عليه وآله وسلم) وامتدت إليه يد الغيب لتخبره بالمؤامرة، وصدر الأمر الإلهي بالهجرة إلى المدينة، وأن يبيت الإمام علي (عليه السلام) في فراشه، وجاءت قريش لتنفيذ المؤامرة وكانت المفاجأة برؤية الإمام (عليه السلام) في فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
مقدّمات الهجرة:
بالإضافة إلى هذه الأسباب المتقدّمة التي دفعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اتخاذ القرار الإلهي بالهجرة إلى المدينة، فقد توفرت جملة من المقدمات كان لها الدور الأساس في اختيار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمدينة داراً للهجرة ومنها:
أولاً: قدوم اليثربيين إلى مكة:
كانت قبيلتا الأوس والخزرج من مهاجري عرب اليمن تسكن المدينة المنوّرة منذ أوائل القرن الرابع الميلادي، وكان يعيش إلى جانبهم القبائل اليهودية الثلاث المعروفة “بنو قريظة – بنو قينقاع – بنو النضير”. وكان يقدم إلى مكّة كل عام جماعة منهم للاشتراك في مراسيم الحج، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يلتقي بهم في تلك المراسم. وقد مهَّدت بعض هذه اللقاءات للهجرة.
ومن المعروف أن حروباً طويلة كانت بين القبيلتين كادت أن تفنيهم، وكانت دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تمثّل الأمل بالخلاص لكلتا القبيلتين.
ثانياً: بيعتا العقبة (الأولى والثانية)
أسفرت هذه اللقاءات بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والقبائل القادمة من يثرب عن إسلام فريقٍ منهم واعتناقهم الإسلام، فقدم إلى مكّة في العام التالي اثنا عشر رجلاً من أهل يثرب، فلقوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعقبة، وانعقدت هناك أوّل بيعة إسلامية.
وعاد هؤلاء إلى يثرب بقلوبٍ مفعمة بالإيمان، وعمدوا إلى نشر الإسلام، وكتبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبعث لهم من يعلّمهم الإسلام والقرآن، فبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم (مصعب بن عمير).
وعندما حلّ موسم الحج خرجت قافلة كبيرة من أهل يثرب للحجّ، والتقوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فواعدهم بالعقبة للبيعة الثانية.
وقام فيهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيباً، وتركت كلماته أثراً عجيباً في نفوسهم، وهيّأت قلوبهم لقبول الدين، فأعلنونا إسلامهم، وأخذ (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم العهود والمواثيق أن يمنعوه وأهله ممّا يمنعون منه أنفسهم وأهليهم وأولادهم. وعلى أن يحاربوا معه الأسود والأحمر وأن ينصروه على القريب والبعيد، وشرط لهم لوفاء بذلك والجنة.
وبعد أن تمّت مراسم البيعة وعدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يهاجر إليهم في الوقت المناسب، ثم ارفضّ الجمع وعاد القومُ إلى رحالهم.
وهذا ما حصل بالفعل حيث توجّه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة وانطلق منها نحو مرحلة جديدة من الدعوة، وبدأ المشروع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدين الإسلامي بالظهور شيئاً فشيئاً، وبدأت الانتصارات تتوالى في حروب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغزواته إلى أن دخل الناس في دين الله أفواجاً، وعمّ الإسلام أرجاء الكرة الأرضية.